تحركات السلطة الفلسطينيّة الإستراتيجيّة على الساحة الدوليّة …إلى أين؟
لقد دفعت مفاوضات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة – المتوقفة منذ زمين طويل والإفتقار إلى إمكانيات استئنافها في المستقبل المنظور – السلطة الفلسطينيّة إلى رسم طريقها الخاصّ بتقديم طلب ٍ إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة لقبولها دولة عضو مراقب. وبصرف النظر عن الغموض الذي يكتنف نتيجة مثل هذا التحرك من رؤية السلطة الفلسطينيّة, ليس هناك الكثير ما ستخسره السلطة في هذه المرحلة بالذات, لا بل قد تكسب الكثير من اتخاذ مثل هذه الخطوة احاديّة الجانب.
يعتمد الفلسطينيّون على العزلة المتزايدة لإسرائيل في المجتمع الدولي والدّعم السياسي الساحق لقضيتهم الذي يمثّل أيضا ً السياسة الرسميّة للولايات المتحدة الأمريكيّة. وبصرف النظر عن نتائج الإنتخابات القادمة في الولايات المتحدة وفي إسرائيل, سيحين مع نتائجها الوقت المناسب للفلسطينيين للزجّ بالقضيّة الفلسطينيّة المنسيّة تقريبا ً في الأجندات السياسيّة الإسرائيليّة والأمريكيّة وضمان في نفس الوقت عودة الصّراع إلى أولويّة انتباه المجتمع الدولي.
لا تريد حكومة نتنياهو من وجهة النظر الفلسطينيّة أن تفاوض بجديّة ولا تؤمن بالسعي وراء حلّ للصراع يعتمد على حلّ الدولتين. ويشير الفلسطينيّون إلى الإستمرار في توسّع المستوطنات الحاليّة وبناء مستوطنات جديدة كبرهان على ذلك. ورفض إسرائيل بعد أربعة أعوام ٍ من الهدوء قبول تجميد جديد للمستوطنات وإطلاق سراح المزيد من الأسرى والسّماح بحريّات أوسع للحركة والتنقّل وقبولها غارات المستوطنين المتكررة على بيوت وممتلكات الفلسطينيين, كلّ ذلك يوحي بأنّ الحكومة الإسرائيليّة تتكلّم فقط عن حلّ الدولتين ولكن ليس لها نيّة لوضع أساسات التوصّل إلى هذا الحلّ. ويبرهن التحالف الأخير ما بين حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو وحزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة وزير الخارجيّة أفيغدور ليبرمان بأن حكومة التحالف الإسرائيلي الجديد التي سيقودها من جديد نتنياهو سيكون فيها آراء متطرفة أشدّ من الآراء الحاليّة, الأمر الذي سيزيد من تقلّص واضمحلال أيّ أمل للتوصّل لحلّ سلمي إذا بقيت الديناميّة السياسيّة متوقفة أو مجمّدة في مكانها.
أضف إلى ذلك, تعتقد أغلبيّة متزايدة من الفلسطينيين بأنّ كثير من الإسرائيليين قد تخلّوا عن فكرة حلّ الدولتين حيث أنهم قد اتخذوا في الماضي العديد من الإجراءات أحاديّة الجانب, منها مثلا ً الإنسحاب أحادي الجانب من غزّة ونزع ملكيّة العديد من الأراضي الفلسطينيّة. وحتّى في الوقت الحاضر تفكّر إسرائيل باتخاذ المزيد من الإجراءات أحاديّة الجانب, مثلا ً الإقتراح الأخير الذي قدّمه وزير الدفاع إيهود باراك بالإنسحاب من 60 % من الضفّة الغربيّة. وتفكير إسرائيل باتخاذ هذه الخطوات يبرّر من وجهة النظر الفلسطينيّة اتخاذ خطوة أحاديّة الجانب من طرفهم, هذا في حين أنهم متأكّدون بأن طلبهم للحصول على عضويّة مراقب في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة مضمون النجاح من المجتمع الدولي بأغلبيّة ساحقة.
ومن وجهة النظر الإسرائيليّة, فإن الثورات والإضطرابات الإقليميّة في صحوة الربيع العربي والتهديد الإيراني ورفض السلطة الفلسطينيّة التفاوض دون شروط مسبقة والفكرة الراسخة في أذهانهم بأنّ الفلسطينيين لا يسعون حقّا ً للسّلام, هذا كلّه جعل من المستحيل إعادة استئناف المفاوضات, حيث أنّ النتيجة – حسب اعتقادهم – ستكون عقيمة كغيرها من مفاوضات السّلام. أضف إلى ذلك, لا تثق إسرائيل بالفلسطينيين بأنهم سيتفاوضون بإخلاص ونيّة حسنة ولا تعتقد بأنهم سيلتزمون بأية اتفاقيّة قد يتمّ التوصّل اليها. وتصرّ حكومة نتنياهو –علاوة ً على ذلك- على أنّه ما دام هناك متطرفون فلسطينيّون (مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهم) مستمرون في الدعوة لتدمير إسرائيل, يصعب إيجاد أية نقطة أو قضيّة يتفاوض عليها, وبالأخصّ إذا استمرّت تغذية المجتمع الفلسطيني بهذه القصص والأقاويل. زد على ذلك, تدّعي اسرائيل أنّه ما دام الفلسطينيّون منقسمين سياسيّا ً ما بين فتح وحماس, ستقوم الفصائل الفلسطينيّة المتطرفة بدعم ٍ من أطراف خارجيّة مثل إيران بنسف أي اتفاق يتمّ الوصّل اليه.
سيحمل تمرير الطلب الفلسطيني إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بدون شكّ سعرا ً باهظا ً. قد يحمل إسرائيل مثلا ً على فرض قيود ٍ أشدّ على حركة التنقّل في الضفة الغربيّة وحجز أموال الضرائب التي تجمعها نيابةعن السلطة الفلسطينيّة وتقييد التجارة ما بين إسرائيل والضفّة الغربيّة وقد تسارع أيضا ً التوسّع في المستوطنات وحتّى ضمّ أراض ٍ فلسطينيّة جديدة وفرض سياسات أكثر صرامة ً لممارسة ضغط أشدّ على الفلسطينيين. وحيث أنّ الولايات المتحدة لا تدعم اتخاذ القرارات من جانب ٍ واحد, لا من الطرف الإسرائيلي ولا الفلسطيني, فقد تتخذ الولايات المتحدة إجراءات عقابيّة ضد الفلسطينيين, بما في ذلك قطع المساعدات الماليّة والدّعم السياسي ولو بشكل ٍ مؤقّت من طرفها ومن طرف بلدان أخرى تستطيع الولايات المتحدة التأثير عليها.
وبالرغم من كلّ ذلك, فإن الفوائد تفوق الأضرار. فهذا الإجراء الأحادي الجانب من طرف الفلسطينيين يتوافق مع الثورات التي تجتاح الشرق الأوسط, فرسالة الربيع العربي لم تبق بدون تأثير على الفلسطينيين. فإذا كان الشباب العربي يموت بعشرات الآلاف في سوريا وفي أماكن أخرى لنيل حريّته, فلماذا يستمرون في العيش تحت الإحتلال ؟ إنّ ضغط الشباب الفلسطيني الضّجر على السلطة الفلسطينيّة لكي تفعل شيئا ً يزداد يوما ً بعد يوم تاركين للرئيس محمود عبّاس خيارا ً محدودا ً للتصرّف قبل أن يفقد ما تبقّى له من شرعيّة. ولذا فإن عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة ستدوّل القضيّة الفلسطينيّة وستوفّر الدّعم الوافر من طرف المجتمع الدولي والذي سيكون له تأثيرا ً سياسيّا ً قويّا ً. وبصرف النظر عمّن سيفوز في الإنتخابات في الولايات المتحدة وفي إسرائيل, على الفائزين أن يواجهوا هذا الواقع الجديد ولا يستطيعون تجاهله بعد الآن بدون أن يكون لتجاهلهم هذا أصداء أو ردود فعل ٍ أو مضاعفات سلبيّة. وأخيرا ً, فإن الفائدة الرئيسيّة تتمثّل في أنها ستدفع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلى الأضواء ثانية ً مجبرة ً المجتمع الدولي, وبالأخصّ الولايات المتحدة, على إلقاء نظرة ً جديدة والعمل على استئناف المفاوضات بين الطرفين مع وضع أفق ٍ لنهايتها في المستقبل المنظور.
وبالنسبة لإسرائيل, سيجبر التحرّك الفلسطيني إسرائيل على مواجهة حقيقة جديدة ستخلق ضمنا ً ضغطا ً شديدا ً من المجتمع الدولي لتأييد حلّ الدولتين والعمل على تحقيقه. حتّى وإن عارضت الولايات المتحدة الطلب الفلسطيني للحصول على عضوية الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة. فإن التأييد المأمول من أغلبية أعضاء الإتحاد الأوروبي بشكل ٍ خاصّ سيمنح الفلسطينيين نصرا ً معنويّا ً بشكل ٍ كبير لن تستطيع أية حكومة إسرائيليّة تجاهله أو إنكاره. وبصرف النّظر عمّا قد تتخذه إسرائيل من إجراءات للإنتقام من هذا التحرّك, لن تقدّم هذه الإجراءات لإسرائيل أية فائدة ملموسة حيث أنّ عمليّة السّلام برمتها ستكتسب زخما ً جديدا ً وستتفاقم عزلة إسرائيل الدوليّة بشكل خطير. وبصرف النظر أيضا ً عن النتيجة السياسيّة التي ستتمخّض عن الإنتخابات الأمريكيّة والإسرائيليّة, سيصبح الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في بؤرة سياسة هذين البلدين, شاؤا أم أبوا, مجبرا ً كليهما بالتعامل مع هذا الواقع الجديد الذي تحاول إسرائيل إنكاره أو منعه بكلّ الوسائل.
الكيفيّة التي ستتعامل بها إسرائيل والولايات المتحدة مع الفترة ما بعد قبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة قد تدفع بعمليّة السّلام بشكل ٍ جذري إلى الأمام, هذا بشرط أن تلتزم الإدارة الأمريكيّة الجديدة بأن تقحم نفسها مباشرة ً في الوساطة وتبقى ثابتة ومواظبة على موقفها. وإذا أراد الإسرائيليون بعد ذلك أن ينتقموا من الفلسطينيين بموافقة الولايات المتحدة على ذلك, سيصبح الوضع في هذه الحالة محتدّا ً وخطرا ً للغاية. على الولايات المتحدة أن تكون مسيطرة ً على الفريقين حتّى تحول دون تردّي الأوضاع بشكل ٍ خطير وعليها أن تأتي بإطار عملي مستفيدة ً من الموقف الفلسطيني الجديد كفرصة للدفع بعمليّة السّلام إلى الأمام بشكل ٍ بنّاء. وللتوصّل إلى هذا الهدف, على الولايات المتحدة أن تتقدّم بإطارها لصنع السّلام الذي يعتمد على اتفاقيّات سابقة تمّ التفاوض عليها ما بين إسرائيل والفلسطينيين في مفاوضات عام 2000 و 2007/2008. وعلى الولايات المتحدة أن تستخدم استراتيجيّات قصريّة وأخرى تعتمد على المصالح للضغط على كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للقيام بالتنازلات اللازمة للوصول إلى اتفاقيّة.
وبالرغم من الإعتراضات الإسرائيليّة والأمريكيّة على تحرّك الفلسطينيين, فأن هذا التحرك قد يزيل الجليد عن عمليّة السّلام المجمّدة أو على الأقل يبيّن عمّا إذا كانت إدعاءات الإسرائيليين والفلسطينيين بالسعي وراء السّلام ووراء حلّ عملي للدولتين هو مجرّد موقف سياسي أو أنّه موقف فعليّ يعتمد على رغبة صادقة في إنهاء الصّراع. وبالفعل, تستطيع الديناميّات السياسيّة المتغيّرة الناتجة عن الطلب الفلسطيني أن تتحوّل إلى منفعة ٍ أيضا ً لصالح إسرائيل تبقي حلّ الدولتين حيّا ً, هذا بشرط أن تنتصر الواقعيّة وبعد النظر, وإلاّ ستضيع هذه الفرصة الجديدة التي تلوح في الأفق.