All Writings
أكتوبر 1, 2012

سوء فهم خطير واختلاف حضاري ليس إلاّ !

تدل هجمة التقارير الإخبارية والتحاليل حول الموت المأساوي للسفير الأمريكي إلى ليبيا، كريستوفر ستيفنس وثلاثة أمريكيين أخرين، إلى وجود فهم محدود وبشكلٍ مذهل وراء الخلفيات المعقدة لهذا العمل الشنيع. فالكراهية والعداء تجاه القوى الغربية وبالأخصّ الولايات المتحدة من طرف المسلمين العرب المتطرفين تبقى في صميم هذه الأعمال الخسيسة والجديرة بالازدراء التي تتغذّى وتتعزّز بالإختلاف الحضاري بين الجانبين وسوء فهم كلّ من الطرفين للآخر، وهما عاملان لم يحظيا إلاّ بانتباهٍ سطحي حتى الآن. ولهذا السبب فإن استهداف مصالح ومؤسسات أمريكية ومهاجمة مسئولين أمريكيين في مختلف الدول العربية والإسلامية لن يكونا ظاهرة عابرة. فالمسئولية تقع على كلا الجانبين لفهمٍ أفضل لهذه الفجوة الحضارية الشاسعة والقيام بما يمكن فعله لتحسينها قبل أن تتخذ طابعاً أكثر حدّة من المواجهة يوماً بعد يوم، وبالأخص في صحوة استمرار الإضطرابات والثورات التي تجتاح العالم العربي.

لقد اعتمد غالباً فهم كلّ طرف للآخر على أساس معلومات سطحية تخدم وتعزّز المصالح الذاتية واستمرار أعمال متهورة لأفراد وسياسات رسمية مضللة وروايات شعبية غير مسئولة، وجميعها مصبوغة بشعور التفوق الأخلاقي على الآخرين والنفاق.

وعلى الجانب الغربي هناك ميل متنامٍ ٍ للإعتقاد بأن الإسلام غير متسامح وعنيف تقليدياً كما لو كان العنف مقتصراً على المسلمين فقط، في حين كان المسيحيون في الواقع يقتلون بعضهم البعض لعدة قرون ووصلت ذروة مذابحهم مع الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها ما يقارب 30 مليون شخص. ويتّهم الغربيّون العرب بأنهم غير ناضجين من الناحية السياسية ومتخلفين حضارياً في حين كانت منطقة الهلال الخصيب، أو ما تسمى “بلاد ما بين النهرين”، أي العراق اليوم، مهد الحضارات، ولكن بعد عدة قرون عندما وقعت جميع الدول العربية تحت حكم الإمبراطورية العثمانية وبعدها تحت سيطرة القوى الإستعمارية الغربية، لم يبق هناك فرصة، أو بالأحرى فرصة ضئيلة جداً، للتقدم والتطور الذاتي. وبعد تأسيس معظم الدول العربية خلال الفترة التي تبعت الحرب العالمية الأولى والثانية قام الغرب بدعم طغاة عرب كانوا يحكمون شعوبهم بقبضة حديدية في حين كانوا أيضاً يقمعون الشعوب ويطمسون الحريات والمبادرات الفردية. وأخيراً يتهم الغربيّون العرب بأنهم يكنّون للغرب الكراهية والعداء في حين استغلّ الغرب في الواقع ولعقود طويلة الموارد العربية بسياسات تمييزية أملتها المصالح الوطنية والذاتية.

والعرب من الناحية الأخرى سريعون في الإشارة إلى الفساد الغربي في الوقت الذي يشتهر فيه العديد من الحكومات العربية بفسادها المفرط حيث تقوم بنهب ثروات شعوبها وتخبئة مليارات الدولارات في المصارف الغربية في حين تحرم شعوبها من الاحتياجات الأساسية وحقوق الإنسان الأولية. إنهم يتهمون الغرب بأنهم منحطون أخلاقياً ومنغمسون في الإتصالات الجنسية الغير شرعية، في حين أن الكثيرين منهم لا ينتهك فقط أسس هذه المبادىء الأخلاقية بل يذهب إلى حدّ العيش في المجتمعات الغربية. وفي الوقت الذي يتهمون فيه بحق متحمسين أمريكيين أو أوروبيين مضللين ومعادين للإسلام لإنتاج شريط أو صور كرتونية تسخر من الإسلام والنبي محمد، فإنهم يظهرون بذلك فهماً ضئيلاً بأن المواطنين الأمريكيين يتمتعون دستورياً بحرية التعبير – بعكس العديد من بلدانهم – لا تستطيع الحكومة الأمريكية منع أياً من مواطنيها من التعبير عن أنفسهم باستثناء بعض القيود القليلة جداً، مثلاً في حالة البوح عن معلومات استخباراتية قد تلحق ضرراً بمصالح الأمن القومي. عدا ذلك الأمر متروك بشكلٍ عام لحرية تصرّف أو تقدير الفرد أن يكتب أو ينتج ما يريده. وأخيراً، في حين أن بعض الدول العربية والمجموعات الإسلامية تسعى للتخلص من النفوذ والقوى الغربية، فإنهم يطالبون بصخب بالمساعدات المالية الغربية وبالتقنية والمساعدات العسكرية وفي معظم الأحيان أيضاً بالتغطية السياسية.

وبصرف النظر عن الكيفية التي ينظر بها كلّ طرفٍ للآخر تستمر الشعوب والحكومات العربية والغربية باحتياج بعضها البعض للتعاون معاً حيث أن العولمة والترابط التكنولوجي فيما بينها والأمن القومي تجعل من هذا التعاون أمراً لا بدّ منه. وسيكون هناك دائماً مجموعات دينية متعصبة وجماعات متحمّسة ومتهوّرة عقائدياً على كلا الجانبين ممّن يسعون لتقويض بعضهم البعض. سيبذل الإسلاميون بشكلٍ خاصّ كل جهد للإستفادة من الوضع الغامض السائد في جميع إرجاء الشرق الأوسط. ولن يستطيع أي حادث، مهما كان مأساوياً، أن يمنع تدخل أمريكا المتواصل في العالم العربي، وبالأخصّ الآن في الوقت الذي تمرّ فيه المنطقة بتحوّل تاريخي سيعيد تشكيل نظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأجيال قادمة، الأمر الذي سيكون له عواقب مباشرة وغير مباشرة على مصالح أمريكا الإستراتيجية.

يجب أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية مثابرة على معالجة الثورات العربية في صحوة الربيع العربي. وبالرّغم من عدم استطاعة الولايات المتحدة بفعل مصالحها المختلفة والمتشعّبة والأوضاع الداخلية السائدة في كلّ دولةٍ عربية على حدة تطبيق نفس السياسات، غير أنه من الضروري جداً أن تُعرض القيم الأمريكية بشكلٍ شفاف وألاّ يُنظر لمشاركتها كخدمة فقط لمصالح أمريكا الاستراتيجية.

لقد نٌظر للتدخل العسكري الأمريكي مثلاً في ليبيا كعمل حرّضت عليه الإعتبارات النفطية ونٌظر للتخلي عن مبارك مصر كخطوة أوحتها المحافظة على الاستقرار الإقليمي ومعاهدة السلام مع إسرائيل. وتمّ قمع المتظاهرين السلميين الشيعة في البحرين بشدة بدعمٍ من المملكة العربية السعودية بدون إدانة علنية أمريكية نظراً لطبيعة التحالف الخاص مع البحرين التي تعتبر وطن الأسطول الخامس الأمريكي. وفي الوقت الذي يذبح فيه أسد سوريا شعبه، ما زالت الولايات المتحدة ترفض اتخاذ إجراءات حاسمة حتى بتحريض من جامعة الدول العربية لإنهاء المذابح، وتقوم بدلاً من ذلك بالسعي وراء إيجاد غطاء ٍ لتراخيها بتأييد خطط السلام التي لا فائدة منها.

أضف إلى ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى وراء الترتيبات السريعة مشجّعة الإصلاحات السياسية كما لو كانت الديمقراطية دواءً شاملاً يحلّ فوراً جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المستوطنة، وبالأخص في الدول العربية الفقيرة مثل مصر واليمن. والربيع العربي عملية ثورية طويلة الأمد يتخلّلها أعمال عنف بين المجموعات المحلية المتنافسة على السلطة وضد المصالح الأجنبية لتخدم الإسلاميين وأجندات إيديولوجية أخرى. والشباب العربي ضيّق الصدر ومتطلّع لأكثر من نيل حق التصويت، فهم يريدون غذاءً وفرص عمل ورعاية صحية وتعليم. لا يكفي دعم الحرية بالكلام أو إلقاء خطاب في القاهرة يعرض بداية جديدة أو تآخي.

على الولايات المتحدة أن تعاير دعمها بدقة للاصلاحات السياسية ومساعداتها المالية مع الحكومات العربية الناشئة حديثاً. مثلاً، يجب منح جزء هام من المساعدة الاقتصادية الأمريكية تحت شرط أن تخصّص هذه المساعدة لمشاريع تنموية ثابتة تساعد الناس العاديين وتحسّن في نفس الوقت نوعية حياتهم. هذا ويجب أن تكون الجهود الأمريكية بهذا الخصوص شفافة لأن الشباب العاطل عن العمل لا يحتاج إلاّ إلى القليل من التحريض للخروج إلى الشارع ومهاجمة الأمريكيين المكروهين لدعمهم مثلاً طاغية مثل حسني مبارك مدّة تزيد عن ثلاثين عاماً وما زال يٌنظر إليهم كالمتهمين الرئيسيين وراء محنتهم ويأسهم.

يجب على الحكومات العربية، القديمة والحديثة، إدراكاً منها أن استمرار الدعم الأمريكي يبقى قضية مركزية لمعظم الدول العربية، أن تفهم بوضوح أيضاً بأنها لا تستطيع بعد الآن أن تحظى بالأمرين معاً في آنٍ واحد، أي “أن تلعب على حبلين”. يجب على الحكومات العربية الجديدة والقديمة منها أن تبيّن بوضوح التزامها بمحاربة المجموعات الإسلامية المتطرفة التي لا سبيل إلى تقويمها أو إصلاحها والتي عقدت العزم على إلحاق الضرر بعنف للولايات المتحدة ومصالح بلدانها. على القادة العرب أن يغيّروا من رواياتهم وخطاباتهم الشعبية والعلنية والتكلم جهاراً وبوضوح أنه من مصلحة بلدانهم التعاون تماماً مع الولايات المتحدة للإستفادة من سلطتها العظمى على السوق المالية العالمية وبراعتها العسكرية الفائقة التي لا تضاهى.

إن مثل هذا التعبير العلني والشعبي والتغيير في النبرة مهمّان جداً لتهدئة المشاعر المعادية لأمريكا مع مرور الوقت. وعلى الدول العربية أن تتذكر بأن ثوراتها في بلدانها كانت ضد أنظمتها التي قمعت الشعب وحرمته من كرامته الإنسانية. فالإفتراء على الولايات المتحدة وتصويرها بأنها سبب محنة شعوبها لم يعد له جدوى. وعلى القادة العرب اللذين لم يغيّروا رواياتهم وخطبهم الشعبية ولن يرسموا الولايات المتحدة بصورة أكثر إيجابية ألاّ يعتمدوا مستقبلاً على دعمٍ أمريكي غير مشروط. وهذا المنهج السياسي الذي تنتهجه الحكومات العربية المنتخبة حديثاً مثل مصر وليبيا وتونس سيبقى متوافقاً مع مصالحها في تطوير نهجٍ سياسي أكثر استقلالاً ما دامت وفيةً لالتزاماتها الدولية وللإصلاحات السياسية المحلية. وعلى الأمريكيين بمختلف فئاتهم وعقائدهم أن يعبّروا عن غضبهم ضد أولئك اللذين يسخرون أو يحطّون من قدر معتقدات الشعوب الأخرى ويستغلون مبدأ حرية التعبير كغطاء لمثل هذه الأفعال الشائنة والهدّامة.

ما نشاهده من عنف هذه الأيام، وبالأخصّ ضد الولايات المتحدة الأمريكية، ليس “تصادم ثقافات” ولكن فجوة حضارية خطيرة ناتجة إلى حدّ بعيد عن اختلاف الحضارات – وهي فجوة بإمكان الولايات المتحدة جسرها بإقامة علاقات مع الدول المضيفة والإستمرار في تشجيع ودعم الإصلاحات السياسية التي ستعزّز الأمن وستحسّن التقدّم الاقتصادي.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE