تفــويت فـرصــة أخـرى
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
لقد قيل عن الفلسطينيين بأنهم لم يفوتوا عليهم فرصةً لتفويت فرصة. ويبدو أنّ الاجتماع الأخير الذي انعقد في مكة المكرمة تحت رعاية الملك عبدالله, العاهل السعودي, ما بين محمود عباس, رئيس السلطة الفلسطينية وإسماعيل هنية, رئيس الوزراء الفلسطيني وخالد مشعل, رئيس المكتب السياسي لحركة حماس, جاء ليبرهن على الحقيقة المحزنة لهذه المقولة حيث أن الاجتماع لم يسفر إلاّ عن تحقيق إنجاز متواضع جداً. لقد وقع المشتركون بعد يومين من المداولات على وثيقة وهنئوا بعضهم بعضاً في حين فوّتوا عليهم في الواقع فرصة زخمة لتغيير ديناميكية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
وبالرّغم من أنّ الفلسطينيين الثلاثة قد اتفقوا على إنهاء الصراع الدموي بين فصائلهم المتنافسة, وهو صراع أودى بحياة ما يقارب المائة فلسطيني, ومحاولة وضع حد للفوضى الحالية عن طريق تشكيل حكومة وحدة وطنية, غير أنّهم لم يتوصلوا إلى اتفاق حول القضايا الأساسية التي تفصلهم عن بعضهم البعض. كان العالم ينتظر منهم – وقد اجتمعوا في مكان مقدّس يعتبر ميلاد الإسلام وفي أصعب فترة يمر بها التاريخ الفلسطيني – أن يتوصلوا إلى اتفاق نهائي حول صيغة تعالج حقيقة الصراع مع إسرائيل. فهذا بكل بساطة لم يحدث. ففي حين أن الاتفاقية التي وقعوها ستوقف بصورة مؤقتة العنف بين الفصيلين الرئيسيين, فتح وحماس, غير أن حماس ما زالت مستمرة في رفضها الشروط الرئيسية الدولية الثلاثة وهي: الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف ضد إسرائيل والالتزام بالاتفاقيات السابقة الموقعة بين إسرائيل والفلسطينيين والتي تعتبر أساساً لتحريك مفاوضات السّلام إلى الأمام.
وفي حين يميل الموقف الروسي إلى قبول الاتفاقية وقد يرضى بها الاتحاد الأوروبي على مضض ويقوم باستئناف بعض المساعدات المالية للفلسطينيين, غير أن هذه الاتفاقية لا تعتبر بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل كبداية. يرى العديد من المسئولين الإسرائيليين بأنّ هذه الاتفاقية – بدلاً من أن تقدّم انفتاحاً جديداً حيوياً لمفاوضات سلام مثمرة – قد تحدث في الواقع تدهوراً للوضع الحالي.
أجل, لم يتوقّع الكثير من الناس أن تحتضن حماس بلهفة الشروط الدولية الثلاثة, غير أنه كان هناك أمل أن يصرّ الملك عبدالله على قبول حماس مبادرته
التي تبنتها جامعة الدول العربية بالإجماع في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في بيروت في شهر مارس (آذار) عام 2002. لقد دعت المبادرة العربية آنذاك إسرائيل إلى التخلي عن المناطق الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 خلال حرب الأيام الستة مقابل اعتراف جميع الدول العربية بها وعقد سلام شامل معها. وعلى أية حال, يناشد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رسالته الموجهة إلى رئيس وزرائه إسماعيل هنية الحكومة الفلسطينية الجديدة (التي لم تشّكل بعد) "للعمل من أجل تحقيق أهدافها الوطنية على النحو الذي صادق عليه المجلس الوطني الفلسطيني ومواد القانون الأساسي ووثيقة المصالحة الوطنية وقرارات مؤتمر القمة العربية." من الذي سيؤخذ على غرّة بهذه اللغة؟ وكيف تخلّى الملك عبدالله ببساطة عن مبادرته التي تعتبر الأساس لأية نقطة تحوّل في العلاقات العربية – الإسرائيلية؟ يشعر الإسرائيليون الذين رفضوا سابقاً مبادرة بيروت بأنهم الآن بريئون. إنهم يلقون اللوم على العاهل السعودي الذي يعتقدون أنّه كان بمقدوره إحياء تلك المبادرة بإصراره أن تضم حماس إلى إجماع العالم العربي بأسره إذا رغبت في الانضمام تحت طياته وتأهيل نفسها بذلك للحصول على الدّعم السياسي والمالي الذي تحتاج إليه بصورة ماسّة من الدول العربية. لو حدث ذلك, ستجد أية حكومة إسرائيلية نفسها تحت ضغط دولي شديد لإعادة النظر بجدية في مبادرة بيروت وفي دور حركة حماس حالياً وفي المستقبل.
غير أن العاهل السعودي وفي تلهفه للتوصل إلى صيغة اتفاق للخروج من المأزق القائم بين فتح وحماس قد ضحّى بفرصة هائلة لتغيير ديناميكية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لربّما كانت الفائدة أكبر للشعب الفلسطيني لو لم تكن هناك أية اتفاقية لأن اتفاقية مكة تشوه الصورة الحقيقية. ستكون هذه ذات عمر قصير لأن العوامل المشتركة التي تجمع ما بين الفصيلين الرئيسيين المتنافسين ضئيلة وأهدافهما السياسية تهدّد بعضها البعض. ولذا فإن المشاعر المكتسبة من الاجتماع المقدّس سرعان ما ستزول عندما يواجه كلا الفريقين الواقع المأساوي الذي فرضه كلاهما على الشعب الفلسطيني.
لقد صرّح الناطق باسم حماس السيد نزار ريّان, بعد التوقيع على الاتفاقية مباشرة بقوله:"لن نعترف أبداً بإسرائيل, وليس هناك ما يسمّى إسرائيل لا في الواقع ولا في الخيال." يا له من تصريح متعجرف مدمر لصاحبه! يفضح هذا الموقف الكثير من النواحي الغامضة للقادة الفلسطينيين. وبالأخصّ من يمثّل منهم فتح اللذين يحاولون بيع "توجهاتهم الجديدة" للمجتمع الدولي. لن يشجع موقف حماس الإسرائيليين بالتأكيد للذهاب إلى طاولة المفاوضات! وفي النهاية سيدفع
الفلسطينيون العاديون – كما كان دائماً مصيرهم – الثمن غالياً بسب السياسات المضللة لقادتهم وخسارة فرصة تاريخية أخرى.
لقد زادت اتفاقية مكة من إضعاف موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأخرجت حماس منتصرة – على الأقل في المرحلة الحالية – بتفويتها الفرصة على فتح لتغيير الخارطة السياسية لصالحها في المناطق الفلسطينية. وإذا فشلت الحكومة الجديدة في إظهار أنها قادرة على إنهاء العنف والتقدم بحوار على أساس حلّ الدولتين على النحو الذي تستند إليه فتح في الاتفاقية, فإن ذلك سيكون هزيمة شخصية للرئيس محمود عباس. سيكون في الواقع قد أصبح شريكاً في حكومة وحدة وطنية بقيادة حماس التي تسعى قولاً وفعلاً لتقويض حق إسرائيل في الوجود وهي تنسف بذلك أي أمل – مهما كان باهتاً – في أن يتوصّل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى أية اتفاقية في المستقبل المنظور.