مخاطر التحوّل السّريع للديمقراطيـــــة
ما يجري حاليّا ً في مصر يجب ألاّ يدهش أحدا ً لديه حتّى معرفة سطحيّة بالعالم العربي من وجهات النظر التاريخيّة والحضاريّة والدينيّة والسياسيّة.
لم يحلّ الربيع العربي يوما ً واحدا ً قبل ميعاده لتحرير الجماهير العربية من عقود العبوديّة والخنوع والإستبداد من قبل حكام مستبديّن.
وفكرة أنّه في حالة الإطاحة بحاكم مستبدّ فإن هذا الأمر سيوفّر للناس الديمقراطيّة بكلّ ما يتوقون إليه هي فكرة خاطئة ستؤدي حتما ً لنتائج كارثيّة كما نشاهدها الآن في مصر.
يقع الّلوم إلى حدّ ماعلى الغرب (بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية) لما يحدث الآن في مصر وللمذابح المتواصلة في العراق وللعنف الذي لا نهاية له في ليبيا ولما قد يكون مخبّئا ً لحرب سوريا الأهليّة الكارثيّة.
يبدو أن الغرب قد نسي كم من قرون ٍ انقضت وكم من حروب ٍ اشتعلت، بما فيها الحرب الأهليّة الأمريكيّة، وكم من عشرات الملايين هلكوا وكم من دمار حدث للوصول للنظام السياسي الديمقراطي الذي يتمتعون به حاليّا ً.
لم تُحسب الديمقراطية لا في الماضي ولا في الحاضر كأمر مسلّم به أو شيء بديهي كما لو كانت تطوّر طبيعي لعمليّات سياسيّة. الديمقراطيّة ليست حبّة دواء إن تمّ بلعها ستغيّر السلوك الإنساني بين ليلة ٍ وضحاها وتسرّب في العقل شعورا ً عميقا ً من الحريّة المحصّنة ضد تحديات الخارج، بل إنّ الديمقراطية عمليّة طويلة ومملّة وتستغرق عقودا ً من الزمن كي تنضح حتّى تحت أحسن الظروف.
منذ السنوات الأولى لتأسيسها في صحوة الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تجرّب أية دولة عربية أي شكل ٍ من أشكال الحكم الديمقراطي. لقد تمّ تنصيب ملوكاً وأمراء بشكل اعتباطي واستبدادي من قبل القوى الإستعماريّة، ورسمت الحدود الوطنيّة بشكل ٍ عشوائي بصرف النظر عن طبيعة الطوائف والأعراق والأجناس، وزرعت منذ ذلك الحين بذور الإستياء الشعبي الذي تغذّى ونما بالخصومات والمنافسات الطائفيّة والقبليّة والعرقيّة، هذا في حين قام حكام مستبدّون وملوك باستخدام كل ّ وسيلة متاحة بشكل فظّ لا يرحم للتفرقة والسيطرة على الشعب من أجل تأمين قبضتهم على السلطة. وأصبحت الدول ومواردها ممتلكات خاصّة لعائلات ما زال العديد منها مستمرا ً في هذا النهج حتى وقتنا الحاضر، ينقلون ثرواتهم وسلطتهم من جيل ٍ لآخر، يعاملون مواطنيهم كأتباع أو خدم يعيشون تحت رحمة حكامهم. وإذا تجرّأوا على تحدّي السلطات، فإن هذا سيعرّض حياتهم للخطر.
وإذا فكّر الغرب أنّ بإمكانه – في حالة الإطاحة بحاكم مستبد عن طريق مطلب أو ثورة شعبيّة – أن يدفع نحو الديمقراطية مبتدءا ً بانتخابات عامّة وكتابة دستور جديد “كيفما اتفق” بشكل ٍ اعتباطي ليس إلاّ وصفة لاستمرار الثورات والإضطرابات وسفك الدماء.
وفي الوقت الذي يتحمّل فيه الغرب المسئولية الأخلاقيّة والمعنويّة لدعم المسيرة نحو الحريّة وتقديم الإرشاد والتوجيه للإنتقال لنظام سياسي جديد، فإن الأمر يتطلّب أكثر من وثبة غريزيّة مفاجئة للحكم الديمقراطي. فما نحن بحاجة إليه هنا هي عمليّة سياسيّة تمهّد الطريق لإقامة شكل ٍ ديمقراطي من الحكم يعتمد على دستور ٍ مدروس بعناية لحماية حقوق كلّ فرد بآليّة سياسيّة راسخة فيه لضمان التقيّد تماما ً بهذه الحقوق.
وعند المناداة أو الدفع بانتخابات مبكرة، قد يتنبّأ أي مغفّل بنتائجها مسبقا ً. لقد كانت الأحزاب الإسلاميّة، أكانت في تونس، مصر أو في بلدان عربيّة أخرى، تحضّر منذ أمد ٍ طويل بجدّ واجتهاد للإستيلاء على السلطة. هذه الأحزاب صبورة، منظّمة ومنضبطة ولديها شبكات اجتماعيّة عريضة ومهارات تنظيميّة وموارد لمساعدة الفقراء لا يضاهيها في ذلك أيّ حزب ٍ سياسي علماني.
وفي حين كانت هذه الأحزاب الإسلاميّة تعمل تحت رقابة السلطات مستغلّة الدين والجوامع لنشر رسالتها بدون تحدّي الحكومة، كانت الأحزاب السياسيّة العلمانيّة بحاجة إلى الميدان الشعبي التنافسي لنشر برامجها السياسيّة التي كانت الحكومة تمنعها أو تقيّدها بشكل منهجي. ففي مصر، بالكاد تجد حزب علماني بإيديولوجيّة سياسيّة واضحة يفهمها الشعب تماما ً ويستطيع تقييمها ومقارنتها بأجندات سياسيّة لأحزاب أخرى، أكانت إسلاميّة أو علمانيّة. ولذا كان من البديهي أن يفوز الإخوان المسلمون في الإنتخابات بمصر. ومهما كانت هذه الإنتخابات حرّة ونزيهة، غير أنها لم تمثّل رغبات أغلبيّة الشعب.
كانت الأحزاب السياسيّة الأخرى مكبوتة من قبل الأنظمة الديكتاتوريّة السابقة وكانت تفتقر للمهارات التنظيميّة والسياسيّة وفشلت في تقديم أجندة سياسيّة تعالج هموم ومظالم الشعب.
المضحك أنّه في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تشهد فيه تصاعد الأحداث في مصر خلال الثلاثين شهرا ً الماضية، تقوم إدارة أوباما الآن بنفس الخطأ تماما ً مرّة أخرى بالدفع لانتخابات مبكّرة وكتابة دستور جديد على عجلة.
الجدير بالذكر أنه بفضل العولمة وثورات التكنولوجيا والمعلومات لن تحتاج الدول العربيّة العقود أو القرون التي احتاجها الغرب لتطوير ديمقراطيّة فعّالة. وبالرغم من ذلك، ما زال الإنتقال للديمقراطية يتطلّب الوقت الكافي وليس بالإمكان، لأسباب سياسيّة ملائمة، الإستعجال بها بشكل اصطناعي.
على الولايات المتحدة تشجيع الجيش المصري والسلطة المدنية الحاليّة واستخدام نفوذها القوي عليهما للسعي وراء تشكيل حكومة انتقاليّة شاملة تمثّل جميع شرائح الشعب المصري، وذلك لفترة لا تقلّ عن أربعة أعوام. هذا الحدّ الأدنى من الفترة الإنتقاليّة ضروري للسماح بتطوير وتنمية المؤسسات الديمقراطيّة وتأسيس صحافة حرّة وترسيخ حرية التعبير والرأي في الوقت الذي تتطوّر فيه ثقافة المشورة والقبول واحترام الرأي الآخر. وللتأكيد، لن يتمّ التوصّل لأي شكل ٍ من أشكال الحكم الديمقراطي، فما بالك بتعزيزه والإبقاء عليه، عن طريق الإستعجال في القيام بترتيبات سريعة تحت راية الإصلاحات الديمقراطيّة.
وبالرغم من أنّ الإخوان المسلمون رفضوا حتّى الآن المشاركة في حكومة انتقاليّة، غير أنّ على الحزب عاجلا ً أم آجلاً أن يختار ما بين الإستمرار في المقاومة واضطراره للبقاء حزبا ً سريّا ً، أو أن يصبح جزءا ً من العمليّة السياسيّة الجديدة. والإخوان المسلمون ليسوا حزبا ً انتحاريّا ً ويعلمون أن لا مستقبل للحركة إن هي بقيت مُستثنى سياسيّا ً.
يجب على الحكومة الإنتقاليّة أن تكون مشكّلة من شخصيّات بيروقراطيّة محترمة وماهرة، أي خبراء محترمون في مجالات تخصصاتهم ومعروفون بالتزامهم للمصلحة الوطنيّة ومستعدون لتكريس وقتهم وطاقتهم لمستقبل بلدهم.
ستختار مثل هذه الحكومة أساتذة قانونيين يمثلون جميع شرائح المجتمع للقيام بمهمة تحرير دستور جديد يحفظ قدسية حقوق الإنسان، بما في ذلك الحريات السياسيّة والدينيّة. وستقوم الأحزاب السياسيّة المختلفة، القديمة والحديثة، بتطوير وتنمية برامجها السياسيّة وعرضها على الشعب معطية للناس الفرصة لاختيار الحزب الذي يرونه مناسبا ً بذكاء ٍ وحريّة.
الفكرة هنا أنّه بصرف النظر عن الصراعات العنيفة المتواصلة والآراء المتعارضة بكلّ ما في الكلمة من معنى، يجب أن تبقى الرسالة الآتية من الغرب كما هي بدون تغيير مفادها: حكومة انتقاليّة تمثيليّة شاملة تحكم على الأقلّ لمدة أربعة أعوام تتبعها انتخابات عامّة على أساس الدستور الجديد.
ويبقى الجيش الوصيّ على الأمن القومي ويتخلّى عن وظائفه الأمنيّة الداخليّة عند انتخاب حكومة جديدة.
لا أحد يدّعي بأن هذه طريق سهلة خالية من العوائق وبالإمكان تحقيقها بسهولة، ولكن يجب أن يكون للولايات المتحدة رسالة ثابتة ومتماسكة وتجنّب النظر إليها على أنها منافقة في التعامل مع الثورات والإنتفاضات المحتومة في استمرارها والتي ستعمّ العديد من الدول العربيّة.
أجل، كان باستطاعة الولايات المتحدة استخدام نفوذها على الجيش المصري بعد الإطاحة مباشرة ً بالرئيس حسني مبارك وذلك لتشكيل حكومة انتقاليّة شاملة، تضم أيضا ً الإخوان المسلمون، لمدة لا تقلّ عن أربعة أعوام. كان بإمكان الولايات المتحدة بفعلها ذلك أن تغيّر بشكل ٍ جذري الخارطة السياسيّة وتتجنّب الصراع المسلّح المتصاعد وعدم الإستقرار في البلد.
الغرب، وللأسف، بقيادة الولايات المتحدة على وشك اقتراف نفس الخطأ مرة أخرى وحرمان الشباب العربي مرّة أخرى من فرصة النموّ والإزدهار تحت نظام حكم ٍ ديمقراطي دائم.