نهج عدم التدخّل في سوريا خطير للغاية
نظرًا لمصالحها الجيوستراتيجية وأمن حلفائها في الشرق الأوسط، فليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى التدخل بشكل بنّاء في سوريا من خلال مدّ يد العون للنظام الجديد لتحقيق الإستقرار في البلاد. والسؤال هو، هل سيغير ترامب نهجه عدم التدخّل؟
ينبغي أن يدفع السقوط المفاجئ والمروّع للأسد في سوريا الولايات المتحدة بالتأكيد إلى التدّخل لمساعدة النظام الجديد على تحقيق الإستقرار في البلاد، الأمر الذي لن يخدم فقط إزدهار ورفاهية الشعب السوري ولكن أيضًا المصلحة الجيوستراتيجية للولايات المتحدة وأمن حلفائها. والسؤال المطروح هو: ما هي التدابير التي ينبغي على الولايات المتحدة اتخاذها لتأمين أهدافها مقابل ما قد يفعله الرئيس المنتخب ترامب أو لا يفعله بمجرد استئناف رئاسته؟ لقد صرّح ترامب صراحةً فور الإطاحة بالأسد أن “سوريا فوضى، لكنها ليست صديقتنا. “لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل في هذا الأمر. هذه ليست معركتنا. دعها تستمرّ إلى حيث ما تشاء. ينبغي ألا نتدخل!” إذا واصل ترامب نهجه عدم التدخّل، فسوف يكون لذلك عواقب إقليمية مشؤومة.
ليس لدى الولايات المتحدة خيار سوى التدخل لأن ترك النظام السوري الجديد بالكامل يواجه مصيره لوحده قد يأتي بنتائج عكسية ويؤدي إلى عواقب وخيمة على الولايات المتحدة وحلفائها، والتي لا يمكن منعها إلا من خلال اتخاذ تدابير بناءة في الوقت المناسب. سوف يدرك ترامب بسرعة أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل أي مخاطر في منطقة متقلبة حيث تكون المخاطر عالية للغاية، ويلوح خطر عدم التدخل بالنسبة لأمريكا في الأفق بشكل أكبر.
التحديات التي تواجه الولايات المتحدة
إن تحديات التدخل هائلة، ولكن على وجه التحديد بسبب ذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن ترتقي إلى مستوى هذه التحديات وتساعد في تشكيل الأحداث في سوريا. وإلا، فسوف يُترَك الأمر لإيران وتركيا وروسيا لتحويل البلاد مرة أخرى إلى منصة لتعزيز مخططاتهم وأهدافهم الشريرة.
إن التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة واسعة النطاق ومتعددة الأوجه، بما في ذلك:
• صعوبات التواصل مع حكومة منقسمة أيديولوجياً من قبل العديد من الفصائل الثائرة؛
• كيف ومتى يتم رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا وتخفيف التأثير على الدول الأخرى التي
كانت تتعاون مع سوريا؛
• كيفية تحقيق التوازن في العلاقات مع الدول المجاورة، وخاصة تركيا، التي تحتفظ بوجود عسكري في
سوريا؛
• كيفية التعامل مع التطلعات الكردية للحكم الذاتي دون المساس بسلطة الحكومة المركزية؛
• كيفية إعادة بناء العلاقات المالية والتجارية لمعالجة الحاجة الماسة إلى التدفق النقدي والإئتمان.
إن هذه التحديات وغيرها يمكن ويجب التعامل معها الآن لأن الوقت هو جوهر الأمر، وكلما تحركت الولايات المتحدة في وقت أقرب، كلما اتبعتها الدول الأخرى في وقت أقرب، وكان من الأسهل على الحكومة الجديدة أن تعمل على إستقرار البلاد.
الإجراءات التي ينبغي للولايات المتحدة أن تتخذها الآن
بايدن محق في قوله إن النظام الجديد لن يُحكم عليه من خلال وعوده بإنشاء “دولة الحرية والمساواة وسيادة القانون والديمقراطية” ولكن من خلال أفعاله. وبينما “ينتظر ويحكم”، ينبغي للرئيس بايدن الآن أن يناشد القيادة الجديدة في سوريا بشكل مباشر، فيقول شيئًا على هذا النحو:
“لقد فزتم في الحرب ضد الطغيان؛ وينبغي أن يمثل انتصاركم بداية جديدة. لقد حان الوقت لعلاج أمة منهكة. الولايات المتحدة مستعدة وراغبة في مد يد العون ودعمكم بكل الطرق الممكنة، شريطة حماية حقوق الإنسان بشكل كامل ودون تحفظ. لقد عانى الشعب السوري بما فيه الكفاية، بما يتجاوز بشكل لا يمكن تصوره أي قدرة بشرية على تحمله؛ لقد حان الوقت للشفاء؛ “لقد حان الوقت للشعور بالأمان، وإعادة البناء، واستعادة النظام والثقة لشعب محطّم، وحان الوقت للنمو والإزدهار مرة أخرى وعدم الإنخراط في الثأر والإنتقام، وعدم التحريض كليّا ًعلى العنف محليًا أو ضد أي من جيرانكم”.
ونظرًا لأن الوقت هو جوهر الأمر حتى تتمكن البلاد من الوقوف على قدميها، ينبغي على الولايات المتحدة أولاً إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب لإرسال رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة لإظهار ثقتها الأولية في القيادة الجديدة وتقديم الإعتراف الدبلوماسي. ينبغي على الولايات المتحدة الإنخراط في دبلوماسية المسار الثاني لمناقشة الأمن الإقليمي والمحلي. وفي هذا الصدد، ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها ، الأكراد السوريين، جنبًا إلى جنب مع تركيا والنظام الجديد وذلك للحفاظ على أمن وسلامة الأكراد وعدم سحب القوات الأمريكية من سوريا ما لم يتم التوصل إلى حلّ مرضٍ للمجتمع الكردي. ينبغي على الولايات المتحدة أن تعد بإعادة السيطرة على حقول النفط في البلاد إلى الحكومة الجديدة، مما سيوفر حافزًا للتوصل إلى ترتيب مفيد للطرفين مع الأكراد.
وعلاوة على ذلك، ينبغي للولايات المتحدة أن تقدم المساعدة الإقتصادية من خلال إزالة العقوبات المفروضة منذ عام 2012 أولاً، والمساعدة في الجهود الرامية إلى استعادة الأموال التي سرقها الأسد نفسه وحكومته، ودعم جهود إعادة الإعمار للمساعدة في تحسين الظروف المعيشية واستقرار البلاد. ويمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تقدم المعرفة الفنية والتدريب لمنظمات المجتمع المدني وتساعد في تعزيز وسائل الإعلام المستقلة والمؤسسات الديمقراطية.
ومن خلال اتخاذ هذه التدابير وغيرها، تستطيع الولايات المتحدة أن تثبت التزامها بدعم تطلعات الشعب السوري إلى الديمقراطية وآفاق النمو والإزدهار مع معالجة مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها بشأن الإستقرار الإقليمي.
نهج ترامب
إن ترامب الذي سبق أن صرح بأنه ” لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل في هذا الشأن”، على وشك أن يستيقظ على صدمة. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تبتعد ببساطة عن التغيّرات الثورية التي حدثت في سوريا. ولن يصمد نهج ترامب عدم التدخل أمام اختبار الزمن، فبدون الكلمات والأفعال والضمانات المطمئنة التي تقدمها الولايات المتحدة، قد تنزلق سوريا إلى اضطرابات داخلية أخرى من شأنها أن تؤثر على كلّ حليف في المنطقة، وهو ما لا تستطيع الولايات المتحدة المخاطرة به.
وسوف يكون الأردن أول حليف للولايات المتحدة يتأثر، وخاصة لأن أي اضطرابات متجددة من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم مشاكل تدفق اللاجئين، وتهريب المخدرات، والتهديدات الأمنية، والإضطرابات الإقتصادية، والتحديات المحتملة لحكم الملك عبد الله إذا اكتسبت العناصر المتطرفة السلطة. وهذا من شأنه أن يزعزع استقرار المملكة التي تخضع بالفعل لضغوط إقتصادية وأمنية وطنية هائلة.
وستواجه إسرائيل تهديدا أمنيا جديدا بسبب الفراغ في السلطة في سوريا وزيادة عدم الإستقرار على طول حدودها الشمالية. وعلى الرغم من تدمير إسرائيل للكثير ممّا تبقى من الأصول العسكرية للأسد، فإن بعض الأسلحة المتقدمة قد تقع في أيدي الجماعات المعادية. فضلاً عن ذلك، فإن عودة ظهور الجماعات المتطرفة مثل داعش في المنطقة من شأنها أن تشكل تهديداً جديداً كبيراً يتعيّن على إسرائيل أن تتعامل معه.
وتشعر دول الخليج بالقلق من أن تتحول سوريا إلى دولة فاشلة، وهو ما قد يؤدي إلى عدم الإستقرار الإقليمي، وأن الصراع الداخلي المحتمل بين الجماعات المتحاربة، وخاصة الجهاديين منهم، من شأنه أن يلهم التطرف داخل حدودها. وسوف تستغل القوى الإقليمية المتنافسة مثل إيران الفراغ السياسي الجديد وسوف تحاول إعادة ترسيخ موطئ قدمٍ لها في سوريا.
ونظراً للمخاطر المترتبة على عدم التدخّل، فسوف يدرك ترامب عاجلاً وليس آجلاً أن الولايات المتحدة لا تستطيع ببساطة أن تنفصل عن بلد في منطقة مثقلة بالصراعات العنيفة على نطاق واسع حيث تتمتع الولايات المتحدة بمصلحة ضخمة في استقرارها. ولكن حتى لو حاول ترامب التمسك بموقفه، فإن مستشاريه في السياسة الخارجية، وخاصة ماركو روبيو، مرشحه لمنصب وزير الخارجية، سوف يقنع رئيسه. وكما رأينا خلال ولايته الأخيرة، فإن وجهة نظر مستشاريه قد تغيّر نهجه.
سوف يدرك ترامب أن الولايات المتحدة قوة لا يمكن الإستغناء عنها في الشرق الأوسط. ولا يمكنها أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه حلفائها ولا عن مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الشعب السوري، ولا أن تتخلى عن مصالحها الجيوستراتيجية الحيوية في المنطقة. وسوف يضطرّ ترامب عاجلاً أم آجلاً إلى قبول هذا الواقع.