إيران: هل سيتفوّق حبّ البقاء في السلطة على الطموحات النوويّة ؟
الطريق الوحيد الذي سيجبر النظام الثيوقراطي في إيران على تنفيذ متطلبات الدول الخمس دائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي + ألمانيا (P5 + 1) على إنهاء برنامج تخصيب اليورانيوم والإذعان لمتطلبات الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة بالقيام بعمليات تفتيش غير مقيّدة لمنشآت إيران النوويّة هي إدراك رجال الدين الإيرانيين بأنهم سيخسرون قبضتهم على السلطة. ويجب على الولايات المتحدة الأمريكيّة والإتحاد الأوروبي بشكل ٍ خاصّ الإستفادة الآن من عزلة إيران الإقليميّة المتزايدة وبالأخصّ في صحوة الإنتفاضة في سوريا وأصدائها الإقليميّة وتأثير العقوبات التي تدخل الآن جميعها مرحلة جديدة كاسحة قد لا تستطيع طهران تحملها أو مقاومتها.
والضغط المكثّف الممارس على إيران بسبب تحديها للعديد من قرارات مجلس الأمن الدولي يستمرّ في إلقاء ظلال ٍ سوداء على مركز إيران الإقليمي والدولي. فبعد مرور أشهر من المفاوضات الفاشلة يصل احتمال هجوم إسرائيلي و/ أو أمريكي على منشآت إيران النوويّة مرحلة ً خطرة حيث أنّ إسرائيل والولايات المتحدة كانتا دائما ً واضحتين في موقفهما بأن “جميع الخيارات على الطاولة” بما في ذلك خيار استخدام القوّة لمنع إيران من حيازة أسلحة نوويّة، وإيران كانت طيلة الوقت تلعب بشكل ٍ مستمرّ لكسب الوقت من أجل التقدم ببرنامجها النووي والعمل على تحصينه من هجوم ٍ جويّ محتمل. هذا ويجب ألاّ ينخدع المجتمع الدولي بأوهام إمكانيّة التوصّل إلى اختراق ٍ في المفاوضات الفنيّة القادمة مع إيران كالتي عقدت في اسطنبول يوم 3 يوليو / تموز الجاري. وما لم توقف إيران عمليّات تخصيب اليورانيوم وتسمح للوكالة الدوليّة للطاقة النوويّة القيام بعمليّات تفتيش دون قيود على منشآتها النوويّة، فإن مثل هذه المفاوضات ستلقى دائما ً نفس المصير كمحاولات التفاوض السابقة.
وبالرغم أنّه من الضروري – حسب اقتراح إدارة أوباما – إعطاء العقوبات الجديدة الحاسمة المزيد من الوقت لكي يأتي مفعولها وقد تجبر طهران أخيرا ً على التنازل، غير أنّ السؤال هو: إلى أيّ مدى ستستمرّ إيران في المقاومة وفي نفس الوقت تتسابق لضمان أن تصبح منشآتها النوويّة الرئيسيّة محصّنة ضد ضربات ٍ جويّة. يجب ألاّ يكون هناك شكّ بأن إيران مستمرّة في كسب الوقت وسلوكها يؤكد فقط نواياها الشريرة: طهران ترفض إنهاء برنامج تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 % وغير مستعدة لشحن مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصّب لدولة ٍ أخرى وتتجنّب الإجابة على أسئلة وثيقة الصلة بالموضوع تطرحها الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة في حين تمنع مفتشي الوكالة من دخول منشآت فوردو وبارشين النوويّة وغيرها من المنشآت بغرض التفتيش. هذا ويجب على أية حال التعامل الآن مع طموحات إيران النوويّة ضمن سياق ما يجري في الشّرق الأوسط في صحوة “الربيع العربي” وبالأخص سوريا لإجبار الزمرة الدينيّة الحاكمة على إعادة النظر في موقفها من برنامجها النووي.
ومع الإنهيار الوشيك لنظام الأسد في سوريا قد تضمحلّ قريبا ً طموحات إيران في أن تصبح القوة الإقليميّة المهيمنة ويتبدّد بذلك نفوذها على منطقة الهلال التي تعيش فيها أغلبية شيعيّة والممتدة من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط.
طهران ودمشق حليفتان استراتيجيتان منذ الحرب الإيرانية – العراقيّة (1980 – 1988) التي ساندت خلالها سوريا إيران ضد شقيقها العراق. فمصالح إيران في سوريا هامّة بصورة خاصّة حيث أنّ سوريا تلعب دورا ً حيويّا ً في تزويد أيران بالدعم المتواصل لاستمرار وتوثيق ارتباطاتها الدينيّة الشيعيّة في العراق ولبنان، الأمر الذي يزيد حلفهما قوّة وصلابة. في إيران الأغلبيّة العظمى شيعيّة بينما الأقليّة الحاكمة في سوريا هي من الطائفة العلويّة التي لها جذور شيعيّة. ودعم إيران المستمرّ لآلة القتل التي يديرها الأسد بتوفير المال والسّلاح والخبرة في محاربة الثورة السوريّة قد جعل من إيران ليس شريكا ً فقط في المذابح اليوميّة بل قد وصم إيران أيضا ً على أنها العدوّ الأول للمسلمين السنّة. ومن وجهة نظر الشباب العربي يقف دعم إيران لنظام الأسد في تباين تامّ مع طموحاتهم نحو الحريّة السياسيّة وحقوق الإنسان. وفي كلّ ما قيل، ليس هناك مبالغة في الربط ما بين برنامج إيران النووي والثورة في سوريا. ولذا يجب في هذا السياق وبدعم ٍ من جامعة الدول العربيّة والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي عدم التراخي أو التنازل عن الإطاحة بالرئيس الأسد وزمرته. سيتفكّك بفعل ذلك هلال إيران الشيعي، وسيؤدي استخراج سوريا من بطن إيران إلى انتكاسات لطموحات إيران الإقليميّة من الصعب تقويمها وسيضعف عزيمتها ويجبر النظام على التركيز على بقائه على قيد الحياة حيث أنّ تأثير العقوبات الكاسحة في تصاعد مستمرّ. حتّى وقبل انهيار نظام بشار الأسد، علاقات ايران في الواقع مع مجموعات أخرى كانت تعمل بمثابة قناة توصيل لنشاطات إيران الإقليميّة المؤذية في المنطقة مثل حماس وحزب الله قد وهنت إلى حدّ كبير في الآونة الأخيرة، حيث أنّ حماس وحزب الله بشكل ٍ خاصّ تتطلّعان إلى حماية مصالحهما الخاصّة في المنطقة.
كانت حماس وإيران تتمتعان تاريخيّا ً بعلاقات ٍ ثنائيّة قوية وعملت الجهتان ترادفيّا ً على إحباط الإحتلال الإسرائيلي وتقويض قوته. ونتيجة الثورة في سوريا، فقد رفضت حماس دعم قمع النظام لمواطنيه وقرّرت التخلي عن مركزها الرئيسي السياسي في دمشق ونقله إلى الدوحة. لقد قطعت الإضطرابات والثورة في سوريا وبشكل ٍ خطير الرابطة ما بين إيران وحماس وتقلّص تبعا ً لذلك أيضا ً الكثير من النفوذ الإيراني على الفلسطينيين. أضف إلى ذلك، فإن صعود الإخوان المسلمين للسلطة في مصر ( وحماس تعتبر أحد فروعهم) وتعاونهم التامّ في البحث عن حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يترك لطهران حيّزا ً ضيقا ً للعب دور المزيد من الوساطة في هذا الصراع في حين يضمحلّ نفوذها.
إضافة ً إلى خسارة حماس كحليف، فإن حلف إيران مع حزب الله قد وهن بصورة جديّة بسبب عجز طهران عن الإستمرار في دعم هذا الحزب على المستويات السابقة من الناحيتين الماليّة والعسكريّة وذلك بسبب ما هو مفروض عليها من العقوبات المكثفة وتراجع إيرادات النفط، هذا مع ربط مبالغ هامة – مما تستطيع إيران ادخاره – في الثورة في سوريا. لقد عملت سوريا بمثابة قناة ربط ما بين إيران وحزب الله ولكن الإنشغال التامّ لنظام الأسد في معركته الداخليّة قد قطع حلقات الربط ما بين الجهات الثلاث، إيران، سوريا وحزب الله. وبالرغم من أنّ حزب الله قد قدّم في البداية دعما ً “عشوائيّا ً” للأسد، فقد أجبر انتقال العنف داخل شمال لبنان حزب الله على اتخاذ موقف ٍ أكثر صلابة ً تجاه الصراع واضعا ً نفسه بذلك في موقف ٍ حرج ما بين قاعدته الشعبيّة ونفوذ إيران الإقليمي المتواهن.
وبالرغم من أنّ تركيا وإيران قد أبقيا سطحيّا ً على علاقات ٍ وديّة متبادلة المنفعة فرضتها حاجة تركيا للنفط الإيراني، غير أنّ الثورة في سوريا تشكّل تحديا ً جادّا ً لعلاقات تركيا الثنائيّة مع إيران حاضرا ً ومستقبلا ً. وحيث أنّ سوريا تصبح تدريجيّا ً أرض المعركة ما بين السنّة والشيعة، ستحاول أنقرة وطهران حتما ً وضع شكل ٍ معيّن للنظام السياسي الجديد في دمشق، الأمر الذي من شأنه أن يصعّد حدّة التوتّر ما بين القوتين المتنافستين. ولا شكّ أنّ عضوية تركيا في منظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو) ودعم الدول العربيّة لها سيمنحان أنقرة اليد العليا في سوريا في أية عمليّة علنيّة كانت أم خفيّة في الصّراع المتأصّل مع إيران. وبناء ً عليه، ستبرز تركيا كحصن لمجموعة الدول السنيّة في الوقت الذي ستنزل فيه ضربة ضدّ النفوذ الإيراني الإقليمي المتواهن. وأخيرا ً فإن الهجوم السّوري الأخير على طائرة استكشاف تركية غير مسلّحة قد دفع تركيا للتحرّك قدما ً في مواجهة نظام الأسد. وتحت هذه الظروف ستكون إيران عاجزة ً عن ايقاف الجيش التركي المتفوّق وستٌجبر على مشاهدة نفوذها المتقلّص في سوريا من الخطوط الجانبيّة.
لدى إيران مبدئيّا ً خياران. الأول: قد يقرّر رجال الدين الحاكمون دعم نظام الأسد حتى الرّمق الأخير واستعراض عضلاتهم من خلال وكلائهم الثوريين في العراق، هذا مع دفع حزب الله إلى التحرّك ضد إسرائيل وتسريع حماية برنامجهم النووي من الهجمات الخارجيّة. وخيار القيام بذلك قد يوفّر فرصة ً أكبر للإبقاء على النظام السّوري وقبضة إيران على السلطة. ولكن شنّ حملة ٍ في الواقع على كلّ هذه الجبهات سيكون إلى أقصى حدّ محفوفا ً بالمخاطر وقد يمهّد الطريق للإطاحة بالحكومة.
أمّا الخيار الثاني، وهو الأرجح، هو أن تتشبّث الزمرة الدينيّة الحاكمة برغبتها في الحفاظ على نظام الحكم الثيوقراطي وهو أمرٌ يعلو فوق كلّ شيء ويفوق جميع الإعتبارات الأخرى. قد تتبنّى إيران بموجب هذا السيناريو طريق “التراجع الإستراتيجي” وتقرّر القيام بتنازلات هامّة على الجبهة النوويّة وفي نفس الوقت تدّعي النّصر. أضف إلى ذلك، قد تقوم إيران بتخفيض “بروفيلها” الإقليمي وتنتظر يوما ً آخر لإعادة إثبات نفسها أو قد تحاول بطرق سلميّة بناء دورها الإقليمي الشّرعي بحكم تاريخها وحجمها وموقعها ومواردها. وستعتمد هذه النتيجة بشكل ٍ نهائي على تصميم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي الإستفادة من عزلة إيران الإقليميّة المتنامية بالبقاء على المسار المتعلّق بالبرنامج النووي والعقوبات الكاسحة، وفي نفس الوقت البقاء على التصميم التامّ لإخراج الأسد وزمرته من السلطة.