All Writings
يناير 11, 2016

تحدّي السعوديّة الإستراتيجي

كان القرار السعودي بتنفيذ حكم الإعدام برجل الدين الشيعي، الشيخ نمر النمر، في هذه المرحلة بالذات عمل استراتيجي للتحدي، أي لتحدي ايران والولايات المتحدة على وجه الخصوص. أراد السعوديون بذلك أن يرسلوا رسالة صارخة ومحسوبة بدقة مفادها أن المملكة قادرة على الوقوف بمفردها، وأنها لن ترتدع لا عن طريق المنطقة الغير مستقرة بالفعل ولا بتداعيات تصرفاتها.

ولكن لفهم، على أية حال، سبب إختيار السعوديين الإندفاع للهجوم الآن، يجدر بنا أن نلقي لمحة موجزة عن تطور الأحداث بين طهران والرياض، والرياض وواشنطن. وهذا سيفسّر أيضاً سبب إشعال تنفيذ حكم الإعدام المتعمد لرجل الدين الشيعي الشرارة التي أدت إلى تصاعد التوتر بشكل خطير بين البلدين.

بادئ ذي بدء، لم يكن هناك حب مفقود بين أهل السنّة في المملكة العربية السعودية وإيران الشيعية، و كانت العلاقات الثنائية بين البلدين تتأرجح دائما بين الحياة الطبيعية الهشة والعداوة المفتوحة. والبغض بين الدولتين متجذّر في الصّراع التاريخي السني – الشيعي الذي يعود إلى الصراع على خلافة النبي محمد (صلعم) في القرن السابع الميلادي. وفي الآونة الأخيرة كانت الثورة الإيرانية عام 1979 هي التي عمّقت الخلاف بينهما.

دعمت المملكة العربية السعودية صدام حسين خلال الحرب بين إيران والعراق (1980-1988)، تلك الحرب التي أودت بحياة ما يزيد عن مليون شخص على كلا الجانبين وعمّقت فقط العداء ما بين السعودية وإيران. وأحدثت حرب العراق عام 2003 تحولاً ثورياً أنهى سياسة الإحتواء الأمريكية المتبادل بين البلدين منذ عقود طويلة، وسمح لإيران بأن تصبح اللاعب المهيمن في العراق.

ودمّر سفك الدماء اللاحق بين السنة والشيعة في العراق، مع دعم إيران المباشر للأخوة الشيعة، أي بقايا من الحياة الطبيعية الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران. وبعد حلول “الربيع العربي”، ورّطت الحرب الأهلية في سوريا كلا الجانبين في مواجهة مفتوحة كما أصبحت سوريا في حرب بالوكالة بين السعودية وإيران.

وبالمثل، أصبح الصراع في اليمن حتى الآن ساحة معركة أخرى بين البلدين، حيث تدعم إيران الحوثيين المنتسبين للمذهب الشيعي مالياً وعسكرياً، ويدعم السعوديون النظام السني بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي لمنع إيران من إقامة موطئ قدم استراتيجي في شبه الجزيرة العربية.

وأخيراً، أثار طموح إيران لامتلاك أسلحة نووية مخاوف السعوديين المشروعة بأن إيران المسلحة نووياً ستصبح قوة إقليمية مهيمنة فعلياً، وفي هذه الحالة سيكون لإيران القدرة على تخويف جيرانها وفرض أجندة سياسية خاصة بها في جميع أنحاء الخليج.

وباعتبارها البلد الذي يعتمد في المقام الأول على الولايات المتحدة لحمايتها، حيث قامت بتطوير علاقات وثيقة وملزمة معها، كانت المملكة العربية السعودية تشعر دائما ً أنه يمكن الإعتماد على الولايات المتحدة لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة بذلت كل جهد ممكن، بما في ذلك فرض عقوبات شديدة، لمنع إيران من تحقيق طموحها النووي، شعر السعوديون بالخيانة من جراء المفاوضات النووية السرية التي أجريت بين الولايات المتحدة وإيران. أضف إلى ذلك، فالرياض تنظر إلى صفقة إيران على أنها صفقة سيئة لوجود ثغرات متعددة يعتقد السعوديون بأن ايران تستغلها لأنها مصمّمة على امتلاك الأسلحة النووية بأي ثمن.

وأصبح السعوديون مقتنعين تدريجياً بأن إدارة أوباما تميل على نحو متزايد لدعم ايران لعدد من الأسباب: أ) لا يريد الرئيس أوباما أن يعرّض صفقة إيران للخطر، إذ يرتبط بهذه الصفقة الكثير من سمعته وإرثه، ب) خلصت الإدارة إلى نتيجة أنه من دون مشاركة إيران في مباحثات السّلام لن يكون هناك حلّ دبلوماسي لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا. ج) ترى الولايات المتحدة صفقة إيران كعامل استقرار، وبالتالي فإنها تعطي العلاقات مع إيران أولوية في الصراع الدبلوماسي الحالي بين إيران والمملكة العربية السعودية؛ ود) فشل الولايات المتحدة لفرض عقوبات على إيران لاختبارها صواريخ بالستية قد أغضب بشدة السعوديين الذين قرروا أن يأخذوا زمام الأمور في أيديهم.

ومع علم السعوديين جيداُ بما سيجرّ تنفيذ حكم الإعدام على الشيخ نمر من تداعيّات، فقد ذهبت المملكة العربية السعودية قدماً في خططها لأن المكاسب المحتملة، من وجهة نظر السعوديين، تفوق بكثير الخراب المتوقّع.

ولإظهار عزمها، قامت المملكة العربية السعودية بتنفيذ حكم الإعدام على رجل الدين عمداً في الوقت الذي تصل فيه المنافسة الإقليميّة والخلافات بين السنة والشيعة أوجها. ومن ناحية أخرى، فقد تمّ تنفيذ حكم الإعدام أيضاً لتهدئة رجال الدين السعوديين السنة الذين يشعرون بالقلق من تزايد النفوذ الإقليمي لإيران، وفي الوقت نفسه ردع المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش”، الذي يعتبر المملكة العربية السعودية عدوا ً له.

وعلاوة على ذلك، فإن المملكة العربية السعودية تهدف إلى استبعاد إيران من القيام بدور نشط في البحث عن حلّ للحرب الأهليّة في سوريا، وفي نفس الوقت إعاقة التحالف المتنامي بين موسكو وطهران للسيطرة على سوريا ذات الأغلبيّة السنيّة. وبما أنّ المملكة العربية السعودية تخوض حرباً بالوكالة ضد إيران في سوريا والعراق واليمن، فإنها مصمّمة بعدم السماح لإيران بحكم إقليمي مجانا.

وتأمل المملكة العربية السعودية أيضاً، من خلال خلق الأزمة، عرقلة تحسن العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وهو ما تعتبره يتعارض مع مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، تأمل المملكة بتقويض مساعي الإتحاد الأوروبي للتقارب مع إيران، حيث أنّ لديها القدرة، عدا ذلك، في أن تصبح أكبر شريك تجاري مع الإتحاد الأوروبي.

وينظر السعوديّون إلى حرق السفارة السعودية في طهران بمثابة “نعمة في الخفاء” حيث أنّ الأمر من صالح السعوديين ويضع الرئيس الإيراني روحاني في موقف دفاعي، مما دفع إيران لإدانة هذا العمل. وهذا بدوره عزز الموقف السعودي و يحتمل أن يكون قد غيّرمن ديناميكيّة الصراع بين البلدين لصالح السعوديّة.

تشعر الولايات المتحدة بحق بقلق من التصعيد المحتمل للنزاع بين البلدين، والذي يمكن أن يستفيد منه تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) ومن المحتمل أن يؤدي إلى حريق آخر غير متوقع قد يبتلع عدة دول في المنطقة. وعليه، يجب على إدارة أوباما أن تتخذ على الفور عدة إجراءات، منها:

أولاً، يجب على الولايات المتحدة السّعي إلى تأجيل المؤتمر الدولي المزمع عقده في 25 يناير (كانون الثاني) في جنيف والذي يهدف إلى إيجاد حلّ دبلوماسي للحرب الأهلية في سوريا، وذلك من أجل منح المملكة العربية السعودية وإيران فترة تهدئة، حيث أنّ مشاركة كلا البلدين أمر أساسي لإيجاد أي حل سياسي دائم في سوريا.

ثانياً، يجب على الولايات المتحدة فرض عقوبات جديدة ضد إيران لاختبار الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في انتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929. لهذا الإجراء أهمية خاصة ليس فقط لاسترضاء المملكة العربية السعودية، ولكن أيضاً لإرسال رسالة واضحة إلى طهران أنه لا يمكن أن تنتهك الإتفاقيات الدولية مع الإفلات من العقاب.

ثالثاً، قد يكون من الحكمة أن يسافر وزير الخارجية جون كيري إلى الرياض، حتى لأغراض رمزية فقط، ويكرّر التزام الولايات المتحدة بالأمن الوطني للمملكة. أضف إلى ذلك، من شأن زيارته هذه أن تخفّف من مخاوف دول الخليج التي قد ترتأي بأن الولايات المتحدة لا تولي أهمية أكبر للمملكة العربية السعودية من إيران، وهو تصوّر قد يزيد من خفض نفوذ الولايات المتحدة، وخاصة في الرياض عند الحاجة إليها أكثر من غيرها.

رابعاً، على الرغم من أن الولايات المتحدة تركّز على تهدئة الوضع بدلاً من التوسط في أزمة السعودية وإيران، ليس لديها خيار في هذه المرحلة سوى أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً بهدف استئناف محادثات جنيف في وقت لاحق لإنهاء الحرب الأهلية المأساوية في سوريا.

الطريقة التي تصرّفت بها الولايات المتحدة فيما يتعلّق بصفقة إيران، وعدم رغبتها في عرض نفسها بقوة أكبر في سوريا، وشحّ دعمها (من وجهة نظر السعوديين) للدور السعودي في الصراع في اليمن، وردود الفعل تجاه الأزمة الحالية، هذه كلّها أثارت مخاوف السعوديين العميقة حول هدف واشنطن في نهاية المطاف في المنطقة، وخصوصاً أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على نفط الخليج.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ينبغي أن تستمر في إقامة علاقات جيدة مع إيران، فإنه يجب عليها الآن القيام بإجراء توازن لتهدئة مخاوف حلفائها العرب في الخليج، وتظهر في نفس الوقت بعض الصلابة في العلاقة مع إيران، وهذا في الواقع أمر ٌ ضروري للحفاظ على صفقة إيران و منع أزمة إقليمية أخرى.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE