All Writings
مايو 13, 2013

تركيا بين الفرص والمخاطـــــــــــــــر

تأتي زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان إلى واشنطن في 16 الشهر الجاري في وقت ٍ بالغ الأهميّة يمرّ فيه الشرق الأوسط بصراعات ٍ وأزمات ٍ غير عاديّة قد تنفجر بشكل حرب ٍ إقليميّة. والوقت الآن ناضج أيضا ً لخلق ترتيب ٍ جيوسياسي قد يؤدي في النهاية إلى استقرار وتقدّم.

تستطيع تركيا, لا بل عليها أن تلعب في الواقع دورا ً بنّاء ً بشرط أن تنظر حكومة أردوغان بجديّة إلى الفرص المتاحة إليها وذلك للمساهمة في بناء بنية سلام واستقرار. وعلى حكومة أردوغان أيضا ً أن تأخذ بعين الإعتبار المخاطر الناتجة عن بقائها لاصقة ً في تفكيرها القديم المتكلّف بالعظمة والجلال.

لقد تمكّنت الحكومة التركيّة خلال السنوات القليلة الماضية من خلق فكرة أنّ نهوض تركيا قد اعتمد على أساس مبدأ سليم للسياسة الخارجيّة وهو “ألاّ يكون هناك أية مشكلة مع الجيران”(صفر مشاكل مع الجيران), هذا إضافة إلى سياسات تنمويّة اقتصاديّة راسخة مع الإستمرار في الإصلاحات الإجتماعيّة والسياسيّة المتوافقة مع القيم الإسلاميّة. ولكن لو ألقينا نظرة فاحصة على أرض الواقع لوجدنا صورة مختلفة نوعا ً ما تثير الشكوك والمخاوف لدى أصدقاء تركيا والإبتهاج “الصامت” لدى أعدائها.

واستنادا ً إلى التقرير الدولي الصادر عن المنظمة الدوليّة لحقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش” لعام 2011 تنتهك الحكومة التركيّة بشكل ٍ متزايد ما التزمت نفسها به, شاملة إقامة الدعاوي بغير وجه حقّ لجرائم الخطابات المزعومة والتطبيق التعسّفي لقوانين الإرهاب والإحتجاز فترات ٍ طويلة قبل المحاكمة (وبالأخصّ الصحافيين والمحررين) والتخويف المنهجي لأيّ فرد ٍ أو حزب ٍ يرفض أو يعارض سياسة الحكومة.

لقد غيّرت الحكومة أيضا ً اتجاه سياستها مع الأكراد وفرضت قيودا ً على حزب السّلام والديمقراطيّة الشّرعي الموالي للأكراد وألقت القبض على شخصيّات ٍ كرديّة ومثقفين أكراد لعلاقاتهم بحزب العمّال الكردستاني واتجهت – حتّى وقت ٍ قريب – لسياستها القديمة بشنّ عمليّات عسكريّة انتقاميّة على نطاق ٍ واسع ردّا ًَ على هجومات حزب العمّال الكردستاني.

وبالنسبة للسياسة الخارجيّة التركيّة, فلو ألقينا نظرة ً على وضع كلّ بلد ٍ على حدة, ستبدو لنا الصّورة مختلفة بشكل ٍ مفاجىء عن شعار “صفر مشاكل مع الجيران”, فلا يكاد يكون هناك بلد ٍ مجاور ليس لديه مع تركيا نوعا ً من المشاكل. لقد حان الآن الوقت لأنقرة لتتخذ بعض الإجراءات التصحيحيّة على سياستها المحليّة والخارجيّة تكون متماشية ً مع طموحات هذا البلد حاضرا ً ومستقبلا ً ولكنها فشلت حتّى الآن في تحقيقها.

وحيث أن البرلمان التركي يقوم الآن بصياغة دستور ٍ جديد, فليس هناك أفضل من هذه الفرصة للسعي وراء توازن سياسي وترسيخ حقوق الإنسان من جميع النواحي, وبالأخصّ حقوق الأكراد. والآن بما أنّ حزب العمّال الكردستاني قد وافق على نبذ المقاومة المسلّحة لصالح تسوية يتمّ التفاوض حولها, بإمكان الحكومة القيام بمثل هذ الإصلاحات دون خسارة ماء الوجه. فمن الضروري أن يتمتّع الأكراد والأقليّات الأخرى بحقوق ٍ متساوية في التكلّم بلغتهم والعيش بثقافتهم بدون تحفّظات أو تمييز, وهذا جوهر الحكم الديمقراطي.

إنّ إخفاق تركيا في تسوية الصراع الذي دام مائة عام حتّى الآن حول مذبحة الأرمن يستمرّ في تسميم علاقاتها ليس فقط مع أرمينيا فحسب, بل أيضا ً مع الولايات المتحدة الأمريكيّة التي تتخذ موقفا ً شديد التأييد للقضيّة الأرمنيّة. لقد حان الوقت لإنهاء الصّراع مع أرمينيا الذي ستحلّ ذكراه المئوية العام القادم (2014) والذي من المؤكّد بأنه سيشعل خلافا ً كبيرا ً داخل وخارج تركيا. فبدلا ً من اتخاذ موقفا ً قاطعا ً يدحض قضية المذبحة الأرمنيّة بالكامل, على القادة الأتراك أن يلتفتوا إلى ما يقوله العهد القديم والقرآن الكريم, وهو بما معناه:”لا ينبغي تحميل الأطفال مسئولية ذنوب آبائهم”.

على تركيا بهذا الخصوص أن تعبّر عن أسفها العميق تجاه مذبحة الأرمن التي ارتكبت أثناء الحرب العالميّة الأولى وعن الأحداث المأساوية التي وقعت قبل قرن ٍ من الزمن. قد لا يشفي هذا غليل الأرمن, ولكنه يعرض على الأقلّ بداية حسنة قد تؤدي للمصالحة.

لم يزداد الخلاف مع اليونان حول جزيرة قبرص إلاّ سوءاً مع صراع البلدين حول حقوق اكتشاف حقول الغاز بالقرب من المياه الإقليميّة التركيّة. يجب على تركيا أن تجد حلاّ ً لصراع قبرص, وعدم قيامها بذلك سيزيد من توتّر علاقاتها مع اليونان. أجل, يجب أن تتفوّق السياسة الواقعيّة بما سيخدم المصالح الوطنيّة على المدى البعيد, وإلاّ سيتصلّد هذا الصراع مع مرور الزّمن وسيزيد من تقليص أي مجال ٍ أو فرصة ٍ لتسوية تفاوضيّة.

وبالرّغم من أنّ تركيا وإيران تتمتّعان بعلاقات ٍ تجاريّة قويّة, غير أنّ تركيا لم تقرّر بعد موقفها بوضوح تجاه طموح إيران في امتلاك أسلحة نوويّة. لقد توتّرت علاقاتهما الثنائية بسبب قرار أنقرة استضافة قاعدة لنظام دفاع ٍ صاروخي لحلف الشمال الأطلسي (الناتو) والصّراع حول مستقبل سوريا. أضف إلى ذلك, يجب أن تدرك تركيا حقيقة لم تستوعبها حتّى الآن وهي أنّ المصالح الوطنيّة لكلا البلدين لا تتوافق مع بعضها البعض وأنّ البلدين في الواقع على مسار ٍ تصادميّ. وسوريا أصبحت ساحة المعركة ما بين السنّة والشيعة. ولذا سيكون للنظام السياسي الذي سيبرز في سوريا بعد عهد الأسد تأثيرا ً كبيرا ً على طموحات البلدين الكليّة.

وتركيا أيضا ً في صراع ٍ مع بلدين آخرين كانت تلعب في الماضي دور الوسيط بينهما, وهما سوريا وإسرائيل. لقد فقدت حكومة أردوغان الأمل نهائيّا ً بنظام الأسد وانضمّت لحلفائها في فرض عقوبات ٍ عليه, غير أنها امتنعت عن اتخاذ أية تدابير حاسمة من جانبها خوفا ً من عقاب موسكو. ونظرا ً للعداء العميق والطائفيّة, فإن الإتفاقيّة الحاليّة التي توصّلت اليها واشنطن وموسكو بترتيب مؤتمر حوار ما بين الثوّار وحكومة الأسد في مسعى لإنهاء الصّراع الدموي لن ينجح على الأرجح. ولكن بما أنّ تركيا هي البلد الأكثر تأثرا ً من غيرها من الأزمة السوريّة, فقد حان الوقت لأردوغان وبصرف النظر عن نتيجة مثل هذا المؤتمر أن يطرح مخاوفه من موقف روسيا جانبا ً ويقنع الولايات المتحدة بوضع خطّة لتزويد الثوار والمعارضة بالأسلحة التي همّ بأمسّ الحاجة اليها لقلب الميزان العسكري لصالحهم ووضع حدّ أسرع لمذبحة المدنيين.

وعلى الجبهة الإسرائيليّة, يجب على تركيا وضع نهاية لأزمتها مع إسرائيل حول حادث الباخرة مرمرة المؤسف الذي وقع في شهر مايو (أيار) عام 2010 وانتهى بمصرع تسعة أتراك كانوا على متنها على يد كوماندوز إسرائيلي. كان على إسرائيل أن تعتذر فور وقوع الحادث لمقتل المدنيين الأتراك, غير أنّه من المفروض على تركيا- ردّا ً على رفض إسرائيل الإعتذار- ألاّ تقوم بتخفيض علاقاتها الدوبلماسيّة معها إلى أدنى حدّ, الأمر الذي لم يخدم بكلّ وضوح مصالح تركيا الإستراتيجيّة بعيدة المدى. والآن وبعد أن اعتذرت إسرائيل, على تركيا أن تتحرّك سريعا ً لإعادة علاقاتها الدوبلماسيّة الكاملة مع إسرائيل وألاّ تربط ذلك برفع الحصار عن قطاع غزّة.

يجب على تركيا ألاّ توفّر جهدا ً في إظهار عدم تحيّزها في التعامل مع حماس وإسرائيل. وتقدّم زيارة أردوغان القادمة لقطاع غزّة فرصة زخمة لإقناع حماس بالتخلّي بشكل ٍ دائم عن العنف لصالح حلّ سياسي للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. حينها فقط سيكون لرفع الحصار عن غزّة فرصة حقيقيّة بشرط أن يتمّ ذلك بعد استيفاء جميع متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي. أضف إلى ذلك, على أردوغان أن يستخدم أيضا ً نفوذه الهامّ لإبعاد حماس عن طهران, الأمر الذي سيجعل تعامل إسرائيل مع حماس أكثر استساغا ً.
ولتعزيز فرص المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينيّة, على أردوغان ألاّ يتخطّى الضفّة الغربيّة وعليه أن يلتقي بالرئيس محمود عبّاس خلال زيارته للمنطقة إذا كان يرغب فعلا ً في لعب دور ٍ بنّاء.

وأخيراً, يجب على تركيا أن تدرك بأنّ نجاحها النهائي وجهودها للتخفيف من حدّة سياسات روسيا الإقليميّة القسريّة تعتمد على قوّة تحالفها مع الولايات المتحدة وعلى قدرتها على الإستمرار في خدمتها كجسر ايجابي ما بين الشّرق والغرب.

يصادف هذا العام الذكرى السنوية التسعون لتأسيس الجمهوريّة التركية العصريّة على يد مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923. وفي الإحتفال بميلاد الجمهوريّة الجديدة, ليس هناك أفضل من هذه الفرصة لإلقاء نظرة فاحصة عمّا تمّ إنجازه منذ ذلك الوقت وحتّى الآن, وبالأخصّ خلال العشرة أعوام الماضية.

أعتقد بأن تركيا بلد لديه القدرة والإمكانيّات في أن يصبح لاعبا ً مهمّا ً على الساحة الدوليّة, ولكن كأية قوّة أخرى, عليها أن تعرف حدودها. فارتقاء تركيا حاليّا ً للشهرة لم يكن ممكنا ً إلاّ بتنفيذ وعودها والقيام بالعديد من الإصلاحات السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة. وهذه النجاحات الأوليّة ليست خالدة, بل يجب تنميتها وتغذيتها باستمرار.

فقط عند تنفيذها هذا كلّه, سترتقي تركيا لوعدها بأن تصبح الديمقراطيّة الإسلاميّة الرائدة التي شرعت في تحقيقها, أو أنها ستفقد فرصة تاريخيّة في أن تصبح هذا النموذج, وبالأخصّ في صحوة الربيع العربي.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE