All Writings
فبراير 12, 2013

دور المقاومة النفسيّـــــــــــــة

لمحة موجزة: أكثر النواحي المحيّرة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو بقاءه – بعد 65 عاما ً من العنف المتبادل والعداء والمعاناة – بدون حلّ حتى بعد الإتضاح بأن التعايش بين الشعبين أمرٌُ محتوم وحلّ الدولتين يبقى الخيار الخيار الوحيد القابل للحياة. وبالرغم من أنّ هناك العديد من القضايا المثيرة للنزاع التي يجب أن تُعالج بشكل ٍ خاصّ, غير أن البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع هو الذي يؤثّر مباشرة ً على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها ويزيد من صعوبة حلّ الصّراع. ولتخفيف حدّة الصّراع, يجب علينا أوّلا ً إلقاء نظرة داخل العناصر التي تغذي البعد السيكولوجي ومعرفة كيفيّة تلطيفها كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ. وهذه المقالة الأولى من ستّ مقالات حول الموضوع.

ظاهريّا ً يبدو توقّف العمليّة السلميّة الإسرائيليّة – الفلسطينيّة غير منطقيّا ً ومقلقا ً. ومع كلّ هذا تدرك أغلبيّة الإسرائيليين والفلسطينيين حتميّة التعايش السلمي ومن المفترض أن يكونوا فاهمين الأسس العامّة لاتفاقيّة سلام يتمّ التفاوض حولها وهي: حلّ الدولتين على أساس حدود عام 1967 مع بعض عمليّات تبادل أراضي وبقاء القدس مدينة موحّدة ولكن عاصمة ً للدولتين وتعويض الغالبيّة العظمى من الآجئين الفلسطينيين أو توطينهم في الدولة الفلسطينيّة الجديدة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. هذه المتطلبات الأساسيّة مقترنة ً بضمانات أمن مناسبة لدولة إسرائيل تمثّل ما كان موضوعاً على طاولة المفاوضات في عام 2000 في دورة كامب ديفيد وفي 2008/2009 في دورة المفاوضات التي عقدت في القدس ورام الله. كانت كلّ من هاتين الدورتين قريبة جدّا ً للتوصل لاتفاقية ولكن في النهاية فشلت كل منها في تحقيق ذلك. فالسؤال: لماذا؟

الجواب على هذا السؤال يتجاوز التنازلات السياسية على الأرض وهو متأصّل بعمق في البعد السيكولوجي للصراع الذي يؤثر على كلّ قضية متنازع عليها بين الطرفين. وهذا البعد هو الذي يلعب دوراً هنا: مفاهيم انتقائية ومنحازة تعزّزها التجارب التاريخية والدين والإيديولوجيات المتنافرة حبست كلا الجانبين في مواقف جامدة. والعوامل التي تحافظ على بقاء هذه النماذج وتعززها تشمل أحاسيس وانفعالات مثل الخوف، عدم الثقة والارتياب أو عدم الأمان. والنتيجة السيكولوجية هي الإنكار المتبادل لرواية الطرف الآخر ونزع الشرعية منه. ونتيجة هذه العوامل جميعها هي الركود والاستقطاب. ولذا ما نحن بحاجة إليه هو حوار متجه وفاقياً على مستوى القيادة يقوم به مسئولون رسميون وغير رسميون لحل القضايا المتعلقة بفهم الطرف الآخر.

هناك أفكار ومفاهيم سيكولوجية معيّنة لها علاقة بفهم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ومفهوم الإنخداع أو التّوهم هو أحد هذه المفاهيم الهامة. في كتابه:”مستقبل وهم” (1927) يعرض سيجموند فرويد التعريف التالي:” نحن ندعو معتقد وهم أو انخداع عندما يكون تنفيذ رغبة عاملاً بارزاً في التحفيز وبذلك نحن نتجاهل علاقته بالواقع” الوهم إذن ليس بالضرورة أن يكون خطأً بخلاف المخادعة أو التضليل، وهذا يعني أنّ الأوهام “ليس بالضرورة أن تكون مزيفة أو خادعة ….. أو لا يمكن تحقيقها أو مخالفة للواقع”. وما يميّز الأوهام هو: 1) إنها مستمدة من رغبات إنسانية عميقة و 2) الإعتقاد متبع في غياب أية حجة ملزمة أو أسس منطقية جيدة.

من المستحيل إنكار بأن الشعبين – الإسرائيلي والفلسطيني – في قبضة أوهام قوية جداً تخدم فقط إطالة الصراع ومنع أية تفاهمات متبادلة. ما هي بعض هذه الأوهام أو الآمال الكاذبة التي قد ينعتها بهذه الصفة الكاتب المسرحي الأمريكي المشهور أويجين أونايل؟ نستطيع حسب أونايل أن نميّز ما بين آمال الماضي الكاذبة وآمال المستقبل الكاذبة. مثلاً الاعتقاد الذي يؤمن به العديد من الإسرائيليين بأن لهم حق تاريخي في الأرض ( ما يدعونها أرض يهودا والسامرة التوراتية) وأن الله وهب اليهود هذه الأرض للأبد هو بلا شك وهم أو أمل كاذب يتبع الماضي. أنه ليس معتمداً أو مؤكداً, ليس لأنّه لا يوجد أي سند أو حجّة حقيقيّة له, بل لأنّه يشبع حالة نفسيّة متأصّلة لوطن يهودي وهبه الله. أمّا الإعتقاد بأن إسرائيل بتوسيع المستوطنات ستعزّز أمنها القومي هو أمل مستقبلي كاذب. من المهمّ أن نلاحظ كيف تحافظ هذه الأوهام على نفسها وتقوّي بعضها بعضا ً وتشكّل في النهاية عائقا ً نفسيّاً. لقد خدمت أوهام إسرائيل خلق منطق للإحتلال مسببة في ذلك في النهاية انتزاع الإنسانيّة من الفلسطينيين.

والفلسطينيّون من ناحيتهم أيضا ً ليسوا أحرارا ً من الأوهام. إنّهم يعتقدون مثلا ً بأن الله قد حفظ الأرض لهم ويستندون لحقيقة أنهم استوطنوا الأرض قرونا ً طويلة من الزّمن. ووجود المسجد الأقصى وقبّة الصخرة المشرّفة في القدس يشهد على انتمائهم التاريخي والديني الكامل للمدينة المقدّسة. وهم يتشبثون أيضا ً بفكرة أنهم سيعودون يوما ً لأرض آبائهم وأجدادهم ولذا يستمرّون بإصرارهم على حقّ عودة اللآجئين الفلسطينيين, بالرغم أنّ ذلك قد أصبح في الواقع من المستحيلات. الفلسطينيّون يتعلّقون بآمالهم الكاذبة, أكانت تتعلّق في الماضي أم في المستقبل, تماما ً كما يفعل الإسرائيليّون بتهوّر وبشكل ٍ ميئوس منه, الأمر الذي يؤدي لمقاومة التغيير والخوف منه.

هذا كلّه ساهم في جعل الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني صراعا ً مزمنا ً ومستعصيا ً الحلّ, حيث أنّ مختلف الأوهام تتغذى باستمرار وبوعي من الصدامات اليوميّة بين الطرفين. ويبدو أنّ فكرة المقاومة السيكولوجيّة (النفسيّة) للتغيير تلعب أيضا ً دورا ً مهمّا ً هنا. أوّلاً, من الضروري التمييز بين المقاومة للإقتناع التي تعتبر مقصودة ومدروسة وبين المقاومة الداخليّة الغير واعية أو مقصودة للتغيير. ففي مقالته:” الأبعاد السيكولوجيّة للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني: دور المقاومة النفسيّة (السيكولوجيّة)” يلاحظ ديفيد رابينوفيتس, وهو من كبار الأطباء النفسانيين في إسرائيل, بأن من الوظائف المهمّة للمقاومة الغير مقصودة أو الواعيّة هي أنّها بطبيعتها وقائيّة. ممكن القول في البحث عن أفكار جاسرة قد تربط ما بين ميادين علم النفس والسياسة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بأن مقاومة متبادلة وجماعيّة للتغيير تحمي الهويّة الضعيفة أوالقابلة للإندثار. فمقارنة ً بالهويّات السياسيّة الثابتة والناضجة للشعوب الأمريكيّة والبريطانيّة والفرنسيّة مثلا ً تعتبر الهويات السياسيّة للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني نوعا ً ما في “سنّ المراهقة”. والهويّات في هذه المرحلة غالبا ً ما تكون أكثر عرضة ً للخطر من غيرها والمدافعون عنها بالطبع يكونون في وضع ٍ أكثر دفاعيّا ً ومقاوما ً للتغيير. ومن الصعب – إن لم يكن من المستحيل – على اللاعبين السياسيين أن يظهروا ذلك علنا ً لأنهم إن فعلوا ذلك فإنهم يعترفون بهذا الضعف.

قد تؤثّر فكرة المقاومة السيكولوجيّة (النفسيّة) للتغيير على الوضع السياسي بشكل ٍ عام وعلى النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل ٍ خاص. إنها مرتبطة إلى حدّ كبير بالمفاهيم بالعديد من المستويات. وبالفعل, توفّر المقاومة النفسيّة الحماية لتشكيل الهويّة في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. هذه هي بالذات العقليّة المدعومة بتجارب وخبرات تاريخيّة التي تتجاوز فترة تزيد عن تسعة عقود من الزمن منذ بداية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بوعد بلفور. الأفراد والمجموعات, إسرائيليين وفلسطينيين على حدّ سواء, يفسّرون طبيعة الصراع بينهما على شكل “أنت ضدّي وأنا ضدّك” بطريقة انتقائيّة ومتحيّزة. وبالمقابل, فقد خنقت هذه الطريقة أية معلومات جديدة ومكّنت المقاومة المتواصلة للتغيير, الذي قد يلقي ضوءا ً جديدا ً على طبيعة ومحتوى الصراع ويساعد على تقدّم العمليّة السلميّة.

ومفهوم المقاومة الغير مقصودة أو اللاواعية للتغيير في هذا السياق ترتبط بشكل ٍ وثيق بنظرة المفاهيم التي تؤدي إلى الإستقطاب في الصرّاع. والخبرات والتجارب التاريخيّة التي تصيغ المفاهيم تخدم ضمن أشياء أخرى تعزيز مفهوم هويّة “من نحن فعلا ً” وهذه فرضيّة جماعية تقويميّة قد تأصلت في أعماق كلا اللاعبين السياسيين الأساسيين وتوجّه سلوكا ً وظيفيّا ً وآخر مختلآّ وظيفيّا ً. ويقول رابينوفيتس بهذا الصّدد:”إنّ ما تقدّمه الفائدة الأساسيّة لهذه المقاومة اللاواعية والقويّة ضدّ التغيير هي حماية الهوية الأساسيّة المعرّضة نسبيّا ً للخطر (المكاسب الأوليّة). أما المكاسب الثانويّة على أية حال فهي التأثيرات الجانبيّة للإستقطاب المزمن لهذا الصّراع وتتمثّل في الحلفاء الأقوياء اللذين يعرضون الدّعم المادي والسياسي (الدعم الأمريكي لإسرائيل وللفلسطينيين المعتدلين ضد دعم إيران للمجموعات الفلسطينيّة المقاومة بالسّلاح مثل حماس) وينشغلون في روايات ٍ مغرية وشدّ انتباه الرأي العام ومعاهدات مفيدة ..الخ”. مثل هذه العقليّة تمنع من حيث المبدأ أيّ من الطرفين من تقبّل أفكار جديدة قد تؤدي إلى حلول توافقية لحلّ سلمي. والتناقض هنا هو أنّ الأغلبيّات على كلا الجانبين تسعى وراء السّلام وتريده وتدرك يقينا ً بأن هذا الأمر يتطلّب تنازلات جوهريّة ولربّما مؤلمة, غير أنّها عاجزة عن قبول هذه التنازلات بسبب مفاهيم وأفكار متأصلة أعاقت هذه الحلول التوافقيّة كنتيجة لمقاومة التغيير.

ولذا, ولتخفيف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني علينا أولاّ أن ندرس بعناية العناصر المختلفة التي تغذي البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع بمعلومات وأن نناقش كيفيّة ومدى تأثيرها على العلاقة بين الطرفين والمطلوب بعد ذلك لتخفيف هذه العوائق السيكولوجيّة كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE