All Writings
سبتمبر 18, 2012

كيف يمكن إنقـاذ اليمن من نفســـه ؟

لقد مرّ اليمن كدولة بمرحلة دراماتيّة عصيبة من الإضطرابات والثورات سبّبتها له الصراعات الداخليّة الدمويّة خلال العقود الأخيرة. والإستقالة الإجباريّة للرئيس السابق علي عبدالله صالح (الذي اسُتبدل بنائبه عبد ربّه منصور هادي) في شهر فبراير الماضي مع تشكيل حكومة وحدة انتقاليّة كان لهما تأثيرا ً هامشيّا ً على القضايا الجوهريّة التي تكتنف اليمن. وبالرغم من أنّ الجهود الأخيرة التي قامت بها حكومة المملكة العربيّة السعوديّة لجمع مليارات الدولارات وتوظيفها لتنمية اليمن مؤشّر إجابي وإشارة يرحّب بها، غير أنّ هناك القليل من اليقين بأنّ هذه المبالغ الماليّة ستجعل الوضع في اليمن مستقرّ فعلا ً وتنقذ البلد من نفسه، هذا إلاّ إذا تمّ توصيل هذه المساعدات بالكامل واستثمرت بحكمة.

كانت الأوضاع الداخليّة في اليمن وما زالت منذ عقود طويلة أوضاعا ً بائسة، حيث يعيش في هذا البلد سبعة ملايين مواطن محرومين من الإحتياجات الأساسيّة، بينهم نصف مليون طفل يعانون من سوء تغذية حادّة، هذا إضافة ً إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى رقم ٍ مروّع وصل 50 %. ووسائل الإعلام داخل وخارج اليمن لا تتناول هذا الوضع المزري إلاّ بما هو شحيح وتفضّل التركيز بدلا ً من ذلك على حوادث العنف التي ترتكبها القاعدة ومليشيات متطرّفة أخرى تنشط في شبه الجزيرة العربيّة وفقط بالقدر الذي تؤثّر فيه هذه الجماعات على الدول العربيّة المجاورة أو الولايات المتحدة. زد على ذلك أنّه وبالرغم من التغييرات السياسيّة، خصوصا ً في الآونة الأخيرة، من الصعب جدّا ً تقدير أو تخمين ما يجري فعلا ً على أرض الواقع. ويبقى الوضع غامضا ً في أحسن الأحوال. وفي حين أنّ القانون الذي أقيمت بموجبه الحكومة الإنتقاليّة هو قانون سام ٍ في فحواه، غير أنّ تأثيره ضعيف جدّا ً على الحياة اليوميّة لليمنيين العاديين.

لقد نتج عن الإهمال المؤسف باليمن إلى تهميش تأثيره السياسي على الساحة الإقليميّة والدوليّة. وبالرغم من وعود الدّول المانحة على المستوى الدّولي في الإجتماعات الأخيرة التي عقدت في الرياض على تخصيص ما يقارب 6.5 مليار دولار لتنمية وأمن اليمن، غير أنّ هذه المساعدات ما زالت تنتظر مصير وعود ٍ سابقة أعطيت في شهر أيّار (مايو) الماضي، والتي إمّا لم يسلّم جزء كبير منها أو أنها استخدمت إلى حدّ كبير لغير الأغراض المخصّصة لها فلم تغيّر كثيرا ً من الوضع الراهن. لقد ابتليت الحكومات السابقة في اليمن – تحت حكم الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح الذي استمرّ 33 عاما ً- بالفساد والمحسوبيّة المستمرين بكامل قوتهما حتى يومنا هذا، سيّما أنّ العديد من نفس المسئولين الفاسدين ما زالوا يتقلّدون نفس المناصب التي كانوا يمسكون بها في الحكومة السابقة.

وبافتراض أنّ الجزء الأكبر من المساعدات التي وعدت بها الدول المانحة في شهر أيّار (مايو) – وحتّى بعد ذلك – قد وجدت طريقها فعلا ً للخزينة اليمنيّة، فالقضيّة الكبرى تبقى الكيفيّة التي يجب توظيف هذه المساعدات بموجبها لمنع اليمن من أن يصبح دولة مفلسة، هذا إن لم تكن قد أصبحت كذلك. أوّلا ً: يجب أن يخصّص جزء من هذه المساعدات الماليّة لتحسين الظروف الأمنيّة في جميع أرجاء البلاد. فما دامت القاعدة وغيرها من المجموعات الإسلاميّة المتطرفة مستمرّة عسكريّا ً في تقويض وتخريب أيّة جهود لإعادة إعمار اليمن كدولة، سيبقى العمل على إحراز سلام دائم على “قائمة الرّغبات”. ولكي تصبح قوّات الأمن فعّالة، لا يكفي الدعم المادي لتحسين الفراغ الأمني بشكل ٍ عام، بل يجب إرسال مستشارين ومدربين من الخارج من بعض الدول الإقليميّة مثل المملكة العربيّة السعوديّة ومصر وتركيا، بل حتّى من الولايات المتحدة الأمريكيّة، وتكريس كلّ جهودهم من حيث الوقت والطاقة والموارد لتدريب قوات الأمن الداخليّة اليمنيّة وتحسين أداء جهاز المخابرات وتزويد هذه القوات بالمعدّات العسكريّة المناسبة لإخماد أيّة ثورة أو اضطراب وتعطيل عمليّات القاعدة بشكل ٍ منهجي وفي النهاية منعها من القيام بعمليّات شبه حرّة في جميع أرجاء شبه الجزيرة العربيّة.

زد على ذلك، يجب أن يخصّص جزء مهمّ من هذه المساعدات لتنمية وتطوير البنية التحتيّة مثل الشوارع والمدارس والعيادات الطبيّة. وبالرغم من أنّ تنفيذ هذه المشاريع هو من مسئوليّة الحكومة اليمنيّة، غير أنّه يجب الإشراف عليها من قبل ممثلي الدّول المانحة. ويجب على هذه الدّول، وبالأخصّ المملكة العربيّة السعوديّة، أن تتأكّد من أنّ هذه المساعدات لن تدخل في جيوب مسئولين فاسدين، فتتبدّد ويذهب ريحها. ومهما كان الأمن الداخلي مهمّا ً، لا يمكن انتظار تنمية البنية التحتيّة لحين استيفاء جميع المتطلبات الأمنيّة بالكامل. وللحصول على أكبر فعاليّة لهذه المساعدات، يجب تقسيمها على دفعات. فقبل تقديم الدفعة الثانية على السلطات اليمنيّة أن تبيّن بأنّ الدفعة الأولى قد استغلّت للأغراض المخصّصة لها.

وإضافة ً إلى الأمن والبنية التحتيّة، يجب أن تحظى مشاريع التنمية التشاركيّة الثابتة باهتمام ٍ خاصّ. فبالرغم من أنّ إنشاء البنية التحتيّة والمؤسسات اللازمة لخلق فرص عمل وتحسين نوعيّة الحياة بشكل ٍ عام يبقى الشغل الشاغل للحكومة، غير أن تمكين ودعم المواطنين العاديين من خلال التنمية الثابتة والمستمرّة يجب أن يكون له الأولويّة العليا. فالتنمية الإقتصاديّة الثابتة والمستمرّة تخلق ثروة ً للمجتمعات التي تتبنّى مثل هذه المشاريع ولخزينة الدولة أيضا ً التي تستطيع بدورها أن تحصّل دخلا ً إضافيّا ً عن طريق ازدياد ايرادات الضرائب من تلك المشاريع. ويمكن لهذه الإيرادات (الضرائب) بدورها أن تستخدم لتحسين شبكة الأمن الإجتماعي وسلامة الإقتصاد بشكل ٍ عام. أمّا الفائدة الكبيرة الناتجة من المشاركة في المشاريع التنمويّة الثابتة هي أنّ التجمعات السكانيّة الصغيرة تكون مفوّضة ً لاتخاذ قرارات جماعيّة عن طريق التشاور والإتفاق على مشاريع تختارها هذه التجمعات ويمكنها الإستفادة منها وفي نفس الوقت يتمّ تعزيز أسس الثقافة الديمقراطيّة. والجدير بالملاحظة أنّ هذه المشاريع لا تتطلّب سوى رأسمال محدود وليست بحاجة للتغذية برؤوس أموال جديدة وتقنية متقدّمة. وفي الواقع تستطيع عشرة بالمائة (10 %) فقط من المساعدات الموعودة، أي ما يعادل 650 مليون دولار، أن توفّر لأكثر من مليون يمني عيشة ً كريمة وتستعيد حقوقهم الإنسانيّة الأساسيّة وتعزّز في نفس الوقت مبادىء الديمقراطية. هذا ويجب عدم تفضيل أيّ من هذه الأهداف الثلاثة على الآخر: تحسين الأمن، بناء بنية تحتيّة وتنفيذ مشاريع تنمويّة ثابتة ودائمة. هذه كلّها ضروريّة ويجب أن تسير بالتوازي مع بعضها البعض في آن ٍ واحد. وإبّان ذلك يجب القيام بحملة طوارىء لإمدادات الغذاء والمساعدات الطبيّة والمواد الضروريّة الأخرى للعائلات المنكوبة لإنقاذ حياة ما يقارب المليون شخص ممّن هم على شفة الموت من الجوع أو سوء التغذية، وبالأخصّ النساء والأطفال.

وتعتبر المملكة العربيّة السعوديّة لاعبا ً مهمّا ً جدّا ً على ساحة الأحداث في اليمن. أوّلاً، لقد نُسب العديد من النشاطات الإرهابيّة التي وقعت في المملكة العربيّة السعوديّة لمواطنين يمنيين بتحريض ٍ من القاعدة. وثانيا ً، وبالنظر إلى جوار المملكة العربيّة السعوديّة من اليمن، وبالأخصّ حدودهما الشرقيّة المشتركة حيث تتمركز جالية شيعيّة كبيرة ويتواجد العديد من مستودعات النفط، من مصلحة المملكة ضمان استقرار اليمن بالدرجة الأولى، الأمر الذي يفسّر مساهمات السعوديّة الجوهريّة بثلاثة مليارات دولار في اجتماعات ما يسمّى ب “أصدقاء اليمن” المنعقدة في العاصمة الرياض. وثالثا ً، إذا إصبحت اليمن دولة مفلسة ستتأثّر السعوديّة بشكل ٍ مباشر من تهديدات حشود اللآجئين وتسرّب الإرهابيين اليها، الأمر الذي سيمكّن الإرهاب بدوره من اختراق منطقة الخليج بأكملها.

يجب على حكومة المصالحة الحاليّة أن تضمن بأنها تمثّل جميع شرائح المجتمع اليمني. كما ويجب أن تسعى بشكل ٍ خاصّ وبدعم ٍ من المملكة العربيّة السعوديّة والدول المجاورة لإجراء حوار مع حركة الحوثيين التي تسيطر على أجزاء ٍ هامّة من شمال اليمن. وبالرغم من أنّ الصراع ما بين هذه القبيلة والحكومة المركزيّة يعود للوراء لعقود ٍ عديدة، غير أنّه من المستحيل تقريبا ً جعل اليمن يستقرّ بدون ايجاد تسوية سلميّة مع المجموعات الإنفصاليّة التي أنشأت لها مناطق حكم ذاتي داخل اليمن.

مهما كان تقديم المساعدات الماليّة أمرا ً مهمّا ً لمعالجة المحنة اليمنيّة، يجب أن تبقى الجهود لإنقاذ البلد مشروعا ً عربيّا ً صرفاً. والشعب اليمني- بمساعدة المجتمع الدولي – قادر ٌ لوحده على سحب البلد من حافة كارثة ٍ تتفاقم يوما ً بعد يوم.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE