All Writings
أغسطس 30, 2010

لقد قال الله كلمتــــــــــــــــــه

بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

 

مع انطلاقة المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين هذا الأسبوع، من المهمّ جدّاً أن تخاطب هذه المفاوضات البعد الديني للصّراع. لقد مُنح هذا الموضوع حتّى الآن انتباهاً ضئيلا ً بالّرغم أنّ له في الوقت الحاضر – وكذلك سيكون في المستقبل – تأثيرا ً هائلا ً على النتيجة النهائيّة للمفاوضات. ويحاول المتطرّفون الدينيّون، أكانوا على الجانب اليهودي أم الإسلامي، تحويل الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني من صراع ٍ إقليمي وقوميّ إلى صراع ٍ ديني مدعوما ً بإيمانهم وقناعتهم بأنّ الله ورّث الأرض لإيمان ٍ واحد دون غيره، وهي نظرة تمنع التواصل العقلاني بين الطرفين وتؤدي إلى النتيجة التي مفادها بأن الإتفاق على حلّ الدولتين للصراع القائم سيعني بكلّ بساطة تحدّي إرادة الله. وعلى أيّة حال، فقد حان الوقت ليبدأ القادة على كلا الجانبين – وبمساعدة الولايات المتحدة الأمريكيّة – بتحدّي هؤلاء اللذين يوهمون أو يدّعون باتباع وصيّة الله وبأنّ المقصود فعلا ً هو أن يتقاسم اليهود والمسلمون الأرض.
لقد ارتكب المتطرفون الدينيّون على كلا الجانبين جريمة ً بإشعالهم الصّراع عن طريق العنف وانتهاكات حقوق الإنسان باسم الله. إنّهم – وقد ضلّلهم الإعتقاد الديني بأنهم ينفّذون وصيّة الله – لم يقفوا يوما ً ما ولو للحظة ٍ واحدة أمام السؤال: " هل يريدنا الله الرؤوف الرحيم فعلا ً أن نستمرّ بقتل بعضنا بعضا ً وأن نلوّث الأرض التي هي مقدّسة بالنسبة لنا نحن الطرفين ؟". لا بل أكثر من ذلك، ليسأل أؤلئك اللذين يعتقدون بأنّ لهم حقّ مطلق في الأرض أنفسهم: " إذا كان قضاء الله أن يخصّص الأرض للأبد لأحد الطرفين فقط دون الآخر، أي إما للإسرائيليين أو للفلسطينيين، فلماذا إذا ً زجّ الله بهم معا ً في نفس الأرض هذه ؟". قد يعتقد المرء بأنّ الوقت قد حان – بعد عدّة قرون ٍ من سفك الدّماء والدّمار – لمن يسمّون أنفسهم "مؤمنين" لأن يستنتجوا بأنه ليس من سبيل المصادفة أن تنشأ وتترسّخ الديانات السّماوية العظيمة – اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام – في نفس الأرض. أليس القصد من ذلك أن يعيش

أتباع هذه الديانات الثلاث جنبا ً إلى جنب مع بعضهم البعض بسلام ٍ ووئام ؟ أم أن يحاربوا بعضهم بعضا ً في حرب ٍ مستمرّة ومدمّرة لهم جميعا ً، فاعلين ذلك باسم الله ؟
لن تكون هذه المرّة الأولى التي يعيش فيها اليهود والمسلمون سويّا ً – جنبا ً إلى جنب- بسلام. فالحضارة اليهوديّة وتطوّراتها العلميّة العظيمة قد وصلت ذروتها في ظلّ الحكم الإسلامي. لقد كان العالم الإسلامي ملجأ ً لليهود اللذين اضطهدوا وطردوا من أوروبا ذات الأغلبيّة المسيحيّة، وبالأخصّ بعد محاكم التفتيش الإسبانيّة في عام 1492 م. وبالرغم من كون اليهود آنذاك أقليّة خاضعة لبعض أشكال التمييز والقيود، إلاّ أنّهم كانوا أحرارا ً في ممارسة وتطوير شعائرهم الدينيّة تحت الحكم الإسلامي. وبالفعل، فقد تمكّن اليهود في شبه الجزيرة الإيبيريّة تحت الحكم الإسلامي من إحراز تقدّم كبير في الرياضيّات وعلم الفلك والفلسفة والكيمياء والعلوم اللغويّة، وذلك كلّه في حقبة من الزمن كان يشار اليها ب "العصر الذهبي" للحضارة اليهوديّة.
فبدلا ً من الإستمرار إلى ما لانهاية في صراع ٍ يقوده التعصّب الديني الأعمى، على اليهود والمسلمين أن يستخدموا معتقداتهم المشتركة وانتمائهم للأرض المقدّسة كمصدر إجماع لخلق "عصر ذهبي" جديد في العلاقات اليهوديّة – الإسلاميّة. وبدلا ً من أن تكون الأماكن المقدّسة مصدرا ً للتوتّر في المنطقة ما بين الشعبين، يجب أن يُنظر إلى هذه المقدّسات – مثل مغارة مكفيلا (بالعبرانيّة) وهي الحرم الإبراهيمي الشريف (بالعربيّة): مدفن إبراهيم وسارة، اسحق وربيكا ويعقوب وليئة – على أنها علامة لضرورة حماية حقوق اليهود والمسلمين في الأرض التي يعزّها كلا الشعبين. لا يجوز أن تصبح هذه المقدّسات المشتركة – بكلّ ما تحمله من ارتباطات تاريخيّة وسيكولوجيّة – مصدرا ً لتطورات مأساويّة. فعلى الطرفين قبول هذه الحقيقة البسيطة الغير قابلة للنزاع أو التحدّي وهي: "الطرف الآخر يعتقد أيضا ً بأن الأرض مقدّسة ".
لم يبد ِ للأسف المتزمتون الدينيّون على كلا الجانبين رغبة ً في اعتناق مثل هذا الفكر عبر ثلاثة أجيال من الحروب وسفك الدّماء. إنّهم يشوّهون بدلا ً من ذلك تفسيرات نصوصهم الدينيّة المقدّسة لإضفاء الشرعيّة ودعم معتقداتهم الدينيّة والسياسيّة المنحرفة. وفي حين يقول البعض بأن تفسيراتهم للنصوص المقدّسة تمنع القيام بمصالحة ما بين اليهود والمسلمين ( أي ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين) يدّعي آخرون بأنّ الألم والمعاناة عبر

سنوات ٍ طويلة من سفك الدماء مقصود منها اختبار تمسّكهم وإرادتهم وجعلت امكانيّة التقارب مستحيلة. ولكن إذا كانت الدولة العبريّة قد وجدت سبيلا ً للمصالحة مع ألمانيا بعد المحرقة النازيّة، يجب عليها – وبمقدورها – أن تجد سبيلا ً للمصالحة مع المسلمين والفلسطينيين في الوقت الحاضر. ونفس الفكرة تنطبق بالطبع على المتطرفين الفلسطينيين أمثال حماس والجهاد الإسلامي. فمقاومة إسرائيل بالعنف باسم الله قد أثبتت عدم جدواها وستستمرّ في كونها مدمّرة ومهلكة لمن يشنّها إذا استمرّ في ذلك. يجب عليهم كأي مؤمنين حقيقيين – أكانوا يهودا ً أم مسلمين – أن يدركوا بأن كلا الديانتين، الإسلام واليهوديّة، تعرّفان "أبراهام" أو "إبراهيم" على أنّه الجدّ المشترك لهما. وتماما ً كما أراد الله لهذين الشعبين أن يكون لهما جدّا ً مشتركا ً، عليهما أن يدركا بأنها إرادة الله أيضا ً أن يتقاسما مستقبلا ً مشتركا ً جنبا ً إلى جنب بسلام. وبالفعل، إذا عاش ساكنو هذه الأرض بسلام ٍ ووئام وأخوّة بدلا ً من القسوة والعنف ستصبح هذه الأرض كما وصفها العهد القديم:" الأرض التي تدرّ لبنا ً وعسلا ً" بدلا ً من صراع ٍ وسفك دماء يقضيان على قاطنيها.
والعبارات المثيرة للغضب التي أطلقها في مطلع هذا الأسبوع الحاخام يوسف عوفاديا – الزعيم الرّوحي لحزب شاس الإسرائيلي اليميني المتطرّف – متمنيّا ً "لأبي مازن وجميع هؤلاء الأشرار الزوال من هذا العالم" تقدّم البرهان بأن القادة الدينيّون هم في معظم الأحيان جزء من المشكلة بدلا ً من أن يكونوا بالأحرى جزءا ً من الحلّ في الشرق الأوسط. وتصريحات الحاخام عوفاديا المتطرّفة والمتعصّبة هذه تعميه عن الحقيقة بأنّه لو ذهب أبو مازن، سيحلّ محلّه آلاف يشاركون طموحاته الوطنيّة في اقامة دولة خاصّة بهم ومستعدّون أن يقدّموا نفس المطالبات والتضحيات لتحقيق ذلك. ولذا، فالخيار بسيط جدّا ً لمثل هذه الفئة – أمثال الحاخام عوفاديا – التي يُعتبر فقها الديني مضفورا ً مع ايديولوجيتها السياسيّة: إما الإزدهار أو الدّمار ! والحقيقة اليوم بهذا السياق هي أنّ التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليس خيارا ً بين خيارات كثيرة، بل هو الخيار الوحيد الذي لا مفرّ منه. وأنّ الحلّ لصراعهم الديني يجب أن يكون جزءا ً لا يتجزّأ من هذا الخيار. وللوصول إلى هذا المطاف الوحيد الذي لا يقبل الجدل في هذا الوقت بالذات الذي يشرع فيه الإسرائيليون والفلسطينيون في حلّ خلافاتهم السياسيّة والإقليميّة، على إدارة أوباما أن تصرّ أن يقوم الطرفان بتعيين لجنة مشتركة إسرائيليّة – فلسطينيّة مؤلّفة من علماء دين مشهورين لإشراكهم فورا ً في حوار ٍ ديني فيما بينهم والبدء بمخاطبة النواحي الفقهيّة للصّراع. قد لا

يكون هناك حلاًّ سهلاً، ولكن يجب ايجاد حلّ لمثل هذه القضايا الحساسة مثل كيفيّة ادارة مختلف الأماكن المقدّسة ضمن اتفاقيّة خاصّة بمستقبل القدس الشرقيّة.
يجب أن يُنظر لاستمرار الصّراع ضد الواقع الذي هو ماضيهم ومستقبلهم المشترك على أنّه ليس سوى تحدّ ٍ لنوايا الله عزّ وجلّ. ولذا، على المسلمين واليهود ذوي الإيمان القويم أن يتقبّلوا مصيرهم، ألا وهو التعايش السلمي. وبهذا المعنى يكون الله قد قال كلمته.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE