All Writings
فبراير 3, 2009

العنف ولعنة المستوطنات( الجزء الأول)

بقلم: أ.د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليــــــــة

لقد تبيّن للسيد جورج ميتشيل عند عودته من جولته الأولى للشرق الأوسط بصفته المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه ليس هناك تغييرات جديرة بالذكر منذ تقريره عام 2001. لقد استنتج ميتشيل خلال مهمته السابقة حول بواعث الانتفاضة الثانية بأنّ إنهاء النشاط الاستيطاني الإسرائيلي والعنف مترابطان بصورة وثيقة مع بعضهما البعض ويشكلان العقبة الأساسية لأية مفاوضات جادة. لقد قال أيضاً ميتشيل بأن النزاعات التي يتسبّب بها البشر يمكن حلّها بواسطة البشر أنفسهم وبأن المفاوضات هي الأداة الوحيدة الأكثر فعالية لحلّ النزاعات. لا شك أنّ معتقداته الراسخة وثباته على أسس الديمقراطية ستساعدانه إلى حد كبير في مهمته، ولكنه قد يحتاج إلى أكثر من ذلك لاختراق هذا الصراع المشحون عاطفيّاً وسيكولوجياً الذي استعصى على جميع أسلافه.

إنّ الافتراض القائل بأنه إذا كان الفلسطينيون يريدون دولة عليهم نبذ العنف، وإذا كان الإسرائيليون يريدون سلاماً عليهم إنهاء الاحتلال هو افتراض يبدو منطقياً وعملياً، هذا بالرّغم أنّ لا الحديث المنطقي ولا الممارسة العمليّة تفرض هذا النزاع الطويل الأمد والمضني. فمن وجهة النظر الفلسطينية إنهاء المقاومة المسلحة لن يتم بشيء سوى بإنهاء النشاط الإستيطاني والاحتلال اللذين يعتبران مصدر الإذلال والحرمان. وبالرّغم من أنّ الإسرائيليين يرون ذلك، لا تستطيع أية حكومة إسرائيلية فعل أي شيء لإخفاء هذه الحقيقة. ويوافق الكثير من المعتدلين الفلسطينيين على القول بأن أعمال العنف الشاملة إطلاق صواريخ داخل إسرائيل هي أعمال لا يمكن تبريرها وبأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. ولكنهم يصرون أيضاً بأن حرب إسرائيل على حماس والهجمات الانتقامية المستقبلية ليس لها سند أخلاقي ولن تغيّر من لب المشكلة ما دامت إسرائيل عاجزة عن معالجة الأسباب الجذرية للعنف بالدرجة الأولى.

وحيث أنه ينظر إلى إسرائيل كقوّة محتلة، فإنها غير قادرة على نيل الأرضية الأخلاقية العالية حتى في الدفاع عن نفسها. فبدلاً من خلق تعاطفاً معها بسبب إمطار الصواريخ عليها، أُدينت من قبل المجتمع الدولي لهجومها على غزّة. وقد تكون إسرائيل راغبة في عزل حماس عن المدنيين الفلسطينيين، غير أنّ شعبية حماس تنمو بالتوازي مع النشاط التوسعي الاستيطاني، وبالأخص في ضوء

عجز السلطة الفلسطينية عن فعل أي شيء حيال ذلك. والادّعاء الإسرائيلي بأن النشاط الاستيطاني لن يؤثر على اتفاقية الوضع النهائي، هو ادعاء لا يجد إلى حد بعيد آذاناً صاغية لأن الفلسطينيون يشاهدون الزّحف الإسرائيلي اليومي على أراضيهم والمحن التي يعانون منها نتيجة ذلك. لن يكون هناك تهدئة دائمة إلاّ إذا كان هناك نهاية منظورة للتوسع الاستيطاني، حتى في البلوكات الاستيطانية التي تخطط إسرائيل لضمّها إلى أراضيها في اتفاقية لمبادلة الأراضي مع الفلسطينيين. وعدا ذلك، فإنّ ما يتم التوصل إليه من عمليات هدنة ووقف إطلاق نار ليست إلاّ تحركات تكتيكية تخدم أهدافاً فورية ومحدودة، ويبقى تأجج العنف مرّة أخرى مسألة وقتٍ فقط.

ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن العنف المفرط ضد المدنيين الإسرائيليين غير مقبول مهما كانت الظروف. ويتذكر الإسرائيليون برعب أعمال العنف عند اندلاع الانتفاضة الثانية في أواخر عام 2000 وما يزيد عن (110) عملية انتحارية التي قتلت وشوّهت بدون تمييز مئات من المواطنين المدنيين الأبرياء. وبالنسبة لمعظم الإسرائيليين كانت درجة العنف الفلسطيني – وبالأخصّ في الفترة اللاحقة لمقترحات السّلام التي عُرضت في كامب ديفيد عام 2000 – مؤشراً واضحاً لرفض الفلسطينيين ليس فقط أية معادلة سلام مع إسرائيل، بل أيضاً لوجودها. لقد اندثرت بين ليلة وضحاها جميع إجراءات بناء الثقة التي اتخذت خلال صيف عام 2000 تاركة معظم الإسرائيليين حائرين حول البحث عن أية آمال حقيقية للسلام. وبوضع وقف الأعمال العدائية كشرط مسبق لأية تنازلات سياسية وإقليمية، فقد أصبح استمرار الاحتلال بالنسبة للإسرائيليين مفهوماً مترادفاً مع الأمن القومي. ولم يقم المتطرفين الفلسطينيين اللذين نذروا أنفسهم لتدمير إسرائيل إلاّ بتقديم المزيد من المبررات لاتخاذ خطوات غير عادية للحفاظ على سلامة وأمن الإسرائيليين. وتبعاً لذلك، فإن الاغتيالات وعمليات إلقاء القبض على مجموعات في طريقها للقيام بعمليات إرهابية وتدمير المنازل من قبل قوات الأمن الإسرائلية قد استفزت بدورها ردود فعل عنيفة ملقية بذلك ظلال وغيوم سوداء على أي حديث سياسي يتمتع بمصداقية أو على أية تنازلات إقليمية.

وفي ظل هذا الجو المقلق والغامض، فقد أحدثت الحركة الاستيطانية داخل مؤسسة إسرائيل السياسية اختراقاً خطيراً باغتصابها الأجندة السياسية للدولة في حين أن الحكومات المتعاقبة قد ساندت علانية الاستيطان أو إقامة بؤر استيطانية جديدة. لقد أدى انسحاب إسرائيل الأحادي الجانب من قطاع غزة واستخدام القطاع بعد ذلك مباشرة كقاعدة انطلاق للقيام بهجومات ضد إسرائيل إلى تثبيط عزم معظم الإسرائيليين وأحدث نفوراً حتى لدى المخيم المعتدل من الإسرائيليين. وهذه كلها أتت لصالح المتطرفين الإسرائيليين من الجناح اليميني المتطرف اللذين يعارضون
أي انسحاب وقد عمقوا اقتناعهم بأن السلام مع الفلسطينيين يبقى وهماً كما كان دائماً وأبداً. لقد استجاب الجمهور الإسرائيلي لإطلاق الصواريخ من قطاع غزة خلال السنوات الثلاثة الماضية بتحوّله أكثر فأكثر إلى اليمين، وهو تطور سيجعل من الأرجح أن يصبح زعيم الليكود بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء القادم بعد الانتخابات التي أُجريت في العاشر من الشهر الحالي شباط (فبراير).

وبالنسبة للدول العربية المعتدلة، وبالأخص المملكة العربية السعودية والأردن والمغرب ومصر التي أدانت حماس علناً وساندت ضمناً موقف إسرائيل ضدها، فقد بدأت تفقد الصبر. لا تستطيع الجماهير العربية أن توفق ما بين موت المدنيين الفلسطينيين، وبالأخص النساء والأطفال، وشكاوي إسرائيل ضد العنف، وبالأخص أن الشعب الفلسطيني شعب محتل وله حق فطري في مقاومة الاحتلال. وبالنسبة للأغلبية العظمى من العرب، تعتبر لعنة أنّ إسرائيل – كدولة تدّعي البحث عن السلام – قد رفضت احتضان مبادرة السلام العربية التي تعرض عليها بالضبط: سلاماً شاملاً مقابل استرداد الأراضي. إن ازدياد المقاومة المسلّحة والعنف على الجانب العربي هي النتائج الغير مباشرة التي تقوم بالتقويض المستمر لموقف المخيم الفلسطيني المعتدل لصالح المواجهة المسلحة.

هذا هو الجوّ الذي سيجد السيد جورج ميتشيل نفسه فيه عند عودته إلى المنطقة لاستئناف مهمته البطولية. أضف إلى ذلك، سيواجه رئيس وزراء إسرائيلي جديد الذي من المرجّح أن يكون زعيم الليكود، بنيامين نتنياهو الذي يقف سياسياً على الجناح الأيمن المتطرف والذي يساند بقوة وإخلاص الحركة الاستيطانية. وقد يتعامل على الجانب الفلسطيني مع حكومة وحدة وطنية مشكلة من حماس وفتح والتي ستتخذ أيضاً موقفاً أصلب من مفاوضات السلام. علاوة على ذلك، على ميتشيل أن يعزز موقفه بمشاركة الزعماء المعتدلين من العرب وذلك لضمان إشراكهم المباشر وثباتهم في الوقوف معه في العملية السلمية. هذا في الوقت الذي سيحاول فيه إغراء سوريا لإدخالها في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. لن يثني هذا على أية حال عزيمة مفاوض متمرّس مثل جورج ميتشيل خصوصاً على ضوء حقيقة أن الإسرائيليين والفلسطينيين يمنحون ثقة أكبر لحكومات أقوى وأكثر اتحاداً ولا تساوم على مصالحها الوطنية. وفيما يتعلّق بالدول العربية القيادية مثل المملكة العربية السعودية ومصر، فهذه توّاقة لرؤية تقدّم ملموس على الجبهة الفلسطينية ولمشاركة أمريكية حقيقية فعّالة. وسوريا كذلك مهتمة كثيراً بحوار مباشر مع الولايات المتحدة.

بإمكان السيد جورج ميتشيل بتأييد كامل من الرئيس أوباما ومن وزيرة الخارجية كلينتون أن ينجح حيث فشلت إدارت عديدة أخرى. وعليه أن يأتي مجهّزاً على أية حال بالترهيب والترغيب لكلا الجانبين وأن يبقى ملتزماً ونشطاً ولا يلين وأن يكون جاهزاً لوضع الولايات المتحدة كجزء من حلٍ طويل الأمد.

 

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE