أهلا ً وسهلا ً بكم في تمثيليّة إسرائيل السياسيّة الموسميّة
بانتصار شاوول موفاز في التنافس على زعامة حزب كاديما تتلكّأ سياسات إسرائيل مرّة أخرى بما تبقى من معسكر السّلام في إسرائيل. موفاز ليس – بأيّ حال من الأحوال – مرشّحاً مثاليّا ً ولكنه أتى على الأقلّ بخطة سلام ٍ مع الفلسطينيين. وبصرف النّظر عن أهليتها، غير أنها تقدّم برنامجا ً سياسيّا ً أساسيّا ً للتوصّل لسلام. وفي الوقت الذي يضع فيه الصراع الفلسطيني إسرائيل في خطر ٍ حقيقيّ من حيث فقد هويتها اليهوديّة الوطنيّة وطبيعتها الديمقراطيّة، على أحزاب الوسط ويسار الوسط في إسرائيل أن تتّحد وتكوّن إئتلافا ً فيما بينها بحيث تشكّل بديلا ً جديّا ً للإئتلاف اليميني المتطرّف الذي يقوده حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ولكن لسوء الحظّ يقود جميع السياسيين الإسرائيليين طموحات شخصيّة عمياء، فأنا لا أعتقد أنّه توجد – فيما يتعلّق بالصراع الفلسطيني – ولو قضيّة واحدة لا تتفق حولها أحزاب العمل وكاديما وحتّى حزب الإستقلال بزعامة ايهود باراك للتحرّك بها حسب أجندة سياسيّة موحّدة لحلّ الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني. ما يمنعهم من فعل ذلك هي صراعاتهم الشخصيّة حول من سيشغل هذا المنصب أو ذاك وأيّة امتيازات يحق لهم أو لا يحق ّ لهم ممارستها. لقد ظهرت الغيرة حول ألقاب مثل "زعيم حزب" و "رئيس الوزراء" في القرارات التي اتخذتها زعيمة حزب كاديما المتنحّية تسيبي ليفني والتي تفكّر الآن بتأسيس حزب ٍ جديد، ومنسّق الأخبار التلفازيّة الذي أصبح سياسيّا ً، يائير لبيد الذي يشكّل الآن حزبا ً جديدا ً باسم "عتيد" (المستقبل) ويصرّ فيه لبيد على عدم قبول أيّ سياسيّ عامل في الوقت الحاضر بل فقط "أناس جدد بأفكار ٍ جديدة". وقد علّقت شيلي يخيموفيتش، زعيمة حزب العمل، على انتصار موفاز بقولها أنّه يجعلها "بديلا ً مهمّا ً" لنتنياهو.
زد على ذلك، أولئك الذين يسمّون "قادة" أو "زعماء" لا يتميّزون فقط بأنانيّة فظيعة، بل بأنهم أيضا ً يتشكّكون ويرتابون من بعضهم البعض. لبيد مثلا ً لا يكلّم ليفني ولا يخيموفيتش التي بدورها اتّهمته بأنه كان المستشار السياسي لإيهود أولمرت، رئيس الوزراء السابق المتّهم بقضايا فساد. زد على ذلك، فقد خدع جميعهم وعلى المكشوف الشعب بمحاولة كلّ منهم ركوب موجة الإحتجاجات الإجتماعيّة التي قام بها الصّيف الماضي الشباب الإسرائيلي حول ارتفاع تكاليف المعيشة، وتجييرها لصالحهم. تقرأ مثلا ً في عناوين الصحف بأنّ موفاز سيقود احتجاجات إسرائيل في هذا الصّيف، ولبيد سيقود حملة ضد الحكومة بعنوان:" أين النقود ؟"، ويخيموفيتش بدأت في صيغة تشريعات اجتماعيّة واقتصاديّة جادّة فقط بعد نزول الإسرائيليين للشارع. الإختبار الحقيقي لهؤلاء "الزعماء" المستفيدين من مطالبات الطبقة الإسرائيليّة الوسطى هي الإدانة العلنيّة لتوسيع المستوطنات الإسرائيليّة والمصروفات الإضافيّة لمئات الملايين من الدولارات التي ينفقها الجيش الإسرائيلي لحماية المستوطنين.
وللتغلّب على البنية الحزبيّة السياسيّة الواهنة في إسرائيل، هناك حاجّة ماسّة لدعم إنشاء حزب ٍ واحد يتكوّن من أحزاب اليسار ويسار الوسط. وعلى زعماء أحزاب كاديما والعمل والمستقبل (عتيد) وغيرهم أن يحشدوا مجموعات أنصارهم ومؤيّديهم لتكوين حزب ٍ مفرد، وهذا أمر ٌ ليس بجديد في التاريخ السياسي لإسرائيل. فولادة حزب العمل نفسه في عام 1968 لم تكن ممكنة إلاّ بدمج أحزاب ٍ متشابهة التفكير مثل ماباي وأحدوت أفورا ورافي، وهذه جميعها اندمجت في حزب ٍ واحد على أساس الإلتزام بحلّ الدولتين. وموفاز ويخيموفيتش ولبيد على قدر ٍ كاف ٍ من الذّكاء لإدراك حقيقة أن الأمن واستمرار احتلال المناطق الفلسطينيّة هو ما يميّز اليسار السياسي من اليمين السياسي (وليس القضايا الإجتماعيّة والإقتصاديّة).
فإدارة هؤلاء القادة السياسيين حملة حول قضايا أخرى عدا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مخاطرة لمنطق الوسط السياسي الدّاخلي، مثلا ً عند قيامهم بتجميع نقاط الإستياء من اليمين واليسار بدلا ً من عرض بديل ٍ سياسي مميّز ومتماسك. هل هذا هو الدّرس الذي تعلّموه من اسحق رابين الذي أراد أن يغيّر إسرائيل جذريّا ً وأطلق حملة عام 1992 حول السّلام واستطاع بفضل إرادته أن يعتمد بصورة أساسيّة على الأحزاب العلمانيّة لتشكيل أغلبيّة واضحة لا تقلّ عن 61 مقعدا ً في الكنيست ؟. يجب على المصالح الوطنيّة أن تسيطر وتغلب أيّة طموحات شخصيّة أو مكاسب حزبيّة، والحزب المفرد هو الفرصة الوحيدة لكسب تأييد انتخابي ذو أهميّة بحيث يتحدّى وبصورة جديّة الإئتلاف الذي يقوده حزب الليكود الذي يتمتّع حاليّا ً بأغلبيّة 63 مقعدا ً وقد يعزّز أكثر من تواجده في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) إذا بقيت أحزاب اليسار ويسار الوسط في فوضى.
ومما يثير الدهشة أنّ السياسي الوحيد الذي أدرك هذه الحقيقة ليس بإمكانه أن يخوض الإنتخابات، فهو الرئيس السابق للموساد، مائير داغان. لقد كان له الشجاعة والرؤية ليعترف بأن على إسرائيل قبول مبادرة السّلام العربيّة التي أطلقت عام 2002 والتي تطالب إسرائيل بالإنسحاب من الأراضي المحتلّة مقابل سلام ٍ شامل وعلاقات ٍ طبيعيّة بينها وبين العالم العربي. لقد دفعه لذلك سبب ٌ جوهري عبّر عنه داغان بقوله:" ليس لدينا طريق آخر، ليس لأنّ الفلسطينيّين يشكّلون رأس الأولويّات بالنسبة لي، بل لأنني قلق على سلامة إسرائيل وأريد أن أعمل ما بوسعي لضمان وجود إسرائيل". والعالم العربي السنّي متحمّس في الوقت الحاضر أكثر بكثير من ذلك لصنع سلام، ليس لحبّهم لإسرائيل بل بالأحرى لكراهيتهم لإيران. لا شكّ أن البرنامج النووي الإيراني يشكّل تهديدا ً خطيرا ً لإسرائيل، ولكن التهديد الأكبر لإسرائيل هو استعمار الضفّة الغربيّة. فإذا تشبّثت إسرائيل بمسارها الحالي لن تبقى ديمقراطيّة ولن تحافظ على هويتها اليهوديّة ولن تضمن أيضا ً أمنها الوطني حيث أنّ الفلسطينيين يضيقون ذرعا ً بالوضع الحالي وقد يتخلّون عن حلّ الدولتين ويختارون حلّ الدولة الواحدة لشعبين والتركيز في نفس الوقت على الحصول على حقوق سياسيّة متساوية.
وبصرف النّظر عن أية خطط سلام قد يأتي بها أيّ من هذه الأحزاب، فإن هذه الخطط لن تعمل وستبقى حبرا ً على ورق ما لم يظهر القادة السياسيّون فهما ً حقيقيّا ً للحاجة الماسة لتغيير المفاهيم الإسرائيليّة والفلسطينيّة الشعبيّة، كلّ طرف ٍ عن الآخر. يجب أن يكون هذا الشّرط الأساسي لأية اتفاقيّة سلام ٍ حاضرا ً ومستقبلا ً، ويجب أن تتضمّن أية أجندة يقدّمها أي حزب خطة تشرح علنا ً مشاركة وانخراط الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في العمليّة السلميّة وإدراك التنازلات الضروريّة التي يجب أن يقدّمها كلّ طرف ٍ للطرف الآخر للتوصّل إلى اتفاقيّة. وبالفعل، فلأيّة قضيّة خلاف بين الإسرائيليين والفلسطينيين أبعاد سيكولوجيّة وعاطفيّة يجب تسكينها أو تخفيفها عن طريق تغيير الروايات والقصص الشعبيّة التي يرويها كلّ طرف ٍ عن الآخر. حتّى وإن قارب الإسرائيليون والفلسطينيّون على التوصّل إلى اتفاقيّة كما حدث عام 2000 خلال مفاوضات باراك – عرفات وعام 2008 خلال مفاوضات أولمرت – عبّاس، فإن هذه الإتفاقيّات لم ترى النّور لأنّ لا الرأي العام الإسرائيلي ولا الفلسطيني كانا مستعدّين للقيام بالتنازلات اللازمة. وما هو ضروري على الإطلاق في هذه المرحلة هو قيام هذه الأحزاب بتحضير الرأي العام عن طريق تشجيع الحوارات على مختلف المستويات بين الشعبين وكذلك المنظمات الغير حكوميّة والجامعات والمجامع الدينيّة للمشاركة في مناقشات ومناظرات عامّة بحثاً عن ايجاد حلّ للصراع بالوسائل السلميّة فقط.
تسير حكومة نتنياهو في مسار ٍ واضح باتجاه الكارثة ويجب ايقافها قبل فوات الأوان. وهذا ممكن فقط عن طريق تشكيل حزب ٍ واحد مكوّن من أحزاب الوسط ويسار الوسط. وليس لدى موفاز ولا يخيموفيتش ولا لبيد مزيدا ً من الوقت للضياع. ومتيّقنا ً بمعرفة أنّه سيفوز لفترة أخرى بفضل التمثيليّة التي يقدّمها حاليّا ً أحزاب اليسار ويسار الوسط، فقد يدعو نتنياهو لانتخابات مبكّرة. وهذا أمرٌ بالنسبة له جذّاب بصورة خاصّة لأنّه يتمتّع حاليّا ً بشعبيّة محيّرة ويعدّ لتمرير قانون في البرلمان الإسرائيلي يسمح للمواطنين الإسرائيليين المقيمين في الخارج بالتصويت في الإنتخابات القادمة.
ما لم يتصرّف قادة وزعماء هذه الأحزاب بشكل ٍ فوري بالإلتفاف حول حزب ٍ واحد والتخلي باسم المصالح الوطنيّة عن طموحاتهم الشخصيّة فإنهم يخاطرون أن يصبحوا مهمّشين سياسيّا ً ويعرّضون في نفس الوقت وجود إسرائيل للخطر.