المطلوب وضع مسارٍ جديد
يعتمد نجاح أو فشل حكومة الوحدة الفلسطينية المشكّلة حديثاً على قدرتها وإرادتها لرسم مسارٍ جديد في علاقاتها مع إسرائيل واتزامها بالسلام. ووجود حماس كشريك في هذه الحكومة أمر مهمّ لأنه بإمكان الفلسطينيين الآن أن يعرضوا أنفسهم كجبهة موحّدة وقد تكون حماس الآن قد قبلت نهائياً بحقيقة وجود إسرائيل.
وفي حين تبقى الطريق الماثلة أماماً مليئة بالعديد من الخلافات اللوجستية والسياسية والإيديولوجية، إلاّ أنها تقدّم فرصة تاريخية للتّوصل لاختراق في مفاوضات سلام في المستقبل مع إسرائيل. واعتراف أغلبية المجتمع الدولي بالحكومة الجديدة يمنحها الفرصة ليس فقط لتوحيد الفلسطينيين فحسب، بل للقيام بجهود حقيقية لتحقيق الحلم الذي طالما يصبو الفلسطينيون إليه، وهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وللوصول لهذا الهدف، على حكومة الوحدة أن تبدأ بمعالجة أكثر القضايا تعقيداً والتي أثلمت جهود الفلسطينيين في الماضي في التّوصل لحلّ الدولتين.
قد لا يكون هناك أمر أكثر أهمية لنجاح حكومة الوحدة الوطنية من كسب ثقة الجمهور الإسرائيلي. يجب على الحكومة أن تدرك بأن المواطن الإسرائيلي العادي يعتقد بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام الحقيقي وأنهم ما زالوا ملتزمين بتدمير إسرائيل. ونتيجة لذلك، فقد كيّف الإسرائيليون أنفسهم للعيش مع الوضع الراهن وأصبحوا راضين عن ذلك تماماً. فعدم وجود تهديدات وشيكة وغياب العمليات الإرهابية والازدهار الاقتصادي، هذه جميعها أبعدتهم عن أي شعور بالإلحاح لتغيير أي شيء. وبالرّغم من ذلك يبقى الإسرائيليون يقظين من الناحية الأمنية وسيساندون أية حكومة في مسألة الأمن القومي. وبالفعل، وبصرف النظر عن مدى القوة العسكرية الإسرائيلية، فما زال الشعب الإسرائيلي يشعر بأنه ليس في أمان. وهذا الشعور يعود للخبرات والتجارب التاريخية الجماعية. هذه العقلية تجعل الإسرائيليين في منتهى الحساسية وعديمي المرونة إذا تعلّق الأمر بقضايا الأمن القومي. ومن الحكمة أن تأخذ حكومة الوحدة هذا الجانب السيكولوجي للإسرائيليين بعين الاعتبار. ومهما كانت الظروف، على حكومة الوحدة الوطنيّة أن تحافظ على التعاون الأمني مع إسرائيل وأن تبني عليه وأن تبقي على مصداقيتها والتزامها فيما يتعلّق بقضايا الأمن. لقد مدح الإسرائيليّون السلطة الفلسطينيّة في الماضي لتعاونها التامّ معهم في هذا الجانب. أضف إلى ذلك، يجب على قوات الأمن الداخلي الفلسطينيّة أن تعمل كلّ ما بوسعها لمنع القيام بهجومات مسلّحة ضدّ إسرائيل من غزّة والضفّة الغربيّة. الهدف من ذلك هو تحرير المجتمع الإسرائيلي من الوهم والخطأ الشائع الذي يزعم بأنّه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين. ولذا من الخطأ الفادح أن تقوم الحكومة الفلسطينيّة الجديدة في المستقبل بالردّ على استفزازات بعض فئات المستوطنين مهما كانت هذه باعثة للإشمئزاز، ويجب عليها – كما فعلت في الماضي – أن تدين أية أعمال عنف متعمّدة لكي تبيّن للمجتمع الإسرائيلي بشكل ٍ خاصّ بأنها تأخذ أمن إسرائيل بمنتهى الجديّة.
ما أقصده هنا هو أن تقوم الحكومة الجديدة بحملة ٍ دبلوماسيّة واسعة تركّز فيها على الأمن لأن التهديد باستخدام القوّة ضدّ إسرائيل أو اللجوء إليها لم يجد ِ نفعا ً في الماضي ولن يجد ِ نفعا ً في المستقبل، فإسرائيل قوّة عسكريّة هائلة وقادرة على التعامل مع أي تهديد، بصرف النّظر عن مصدره وشدّته.
أضف إلى ذلك، فإن أشدّ أعداء الفلسطينيين هي إداناتهم العلنيّة المتكررة لإسرائيل وإخفاقهم في التمييز بين الشعب الإسرائيلي وإجراءات الحكومة الإسرائيليّة وسياساتها تجاه الفلسطينيين. ولذا من المهمّ أن يقلّل المسئولون الفلسطينيّون من شدّة نبرتهم في اتهاماتهم العلنيّة لإسرائيل لأنّه ما دامت تعابير العداء والكراهيّة مستمرّة ضدّ إسرائيل، فإن هذه لن تعزّز سوى إدراك الإسرائيليين بأن الفلسطينيين كانوا وما زالوا العدوّ النهائي.
فصائب عريقات، عضو اللجنة التنفيذيّة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة ورئيس الوفد الفلسطيني المفاوض، يسبّب للقضيّة الفلسطينيّة ضررا ً أكبر ممّا يسبّبه أيّ عدوّ آخر للفلسطينيين وذلك بسبب إداناته المتواصلة لإسرائيل وتصريحاته العلنيّة الغير المسئولة. ففي اليومين الماضيين فقط أصدر عريقات عدّة تصريحات بما فيها تصريحا ً يقول:”تحتفل الحكومة الإسرائيليّة بمرور 47 عاما ً من الإحتلال وجرائم الحرب وبالموافقة على آلاف الوحدات الإستيطانيّة الجديدة في دولة فلسطين المحتلّة”. وتصريح آخر بعنوان:”تسجّل إسرائيل مرور 47 عاما ً من الإحتلال الإسرائيلي، ونحن نسجّل عاما ً آخر من الإحتلال والقمع والإستعمار”. لمثل هذه التصريحات بالذات تأثير عكسي على القضيّة الفلسطينيّة حيث أنها تُستغلّ من قبل الحكومة الإسرائيليّة، وبالأخصّ حكومة يقودها حزب يقف يمين الوسط كحزب نتنياهو الليكود الذي يستفيد من استمرار العداء الفلسطيني، أكان هذا العداء خياليّا ً أم حقيقيّا ً، وذلك بصرف النّظر عن استحقاقات هذه التصريحات. ولهذا السبب، على الفلسطينيين تغيير روايتهم الشعبيّة بشكل ٍ جذري لكي يبيّنوا للمجتمع الإسرائيلي – الذي تُعتبر مساندته للعمليّة السلميّة قضيّة مركزيّة – بأنه يمكن الوثوق بالفلسطينيين، فالفلسطينيّون وحدهم هم القادرون على تعديل وتغيير العقليّة الإسرائيليّة، وهم وحدهم القادرون على أن يفهّموا الإسرائيليين بأن الوضع الراهن غير دائم لأنّ الإحتلال مهما كان سيّئا ً على الفلسطينيين، إلاّ أنّ استمراره سيكون أسوأ على الإسرائيليين.
يجب على الحكومة الفلسطينيّة أن تستفيد من الإيديولوجيّات السياسيّة المختلفة في حكومة الإئتلاف الإسرائيليّة. يجب أن يتذكّر الفلسطينيّون دائما ً بأن نتنياهو ليس محصّنا ً من الناحية السياسيّة، فهو يعتمد على حكومة إئتلافيّة مكوّنة من أربعة أحزاب تعطيه أغلبيّة (68) صوتا ً في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي من أصل (120). إثنان من هذه الأحزاب وهما “يش عتيد” (هناك مستقبل) بزعامة يئير لبيد الحائز على (19) مقعدا ً في الكنيست، و “حتنوا” (الحركة) الذي أسّسته تسيبي ليفني والحائز على (6) مقاعد، ملتزمان بالتوصّل لاتفاقيّة مع الفلسطينيين. وحتّى بدون القائمتين العربيتين، هناك أربعة أحزاب أخرى في المعارضة من الوسط واليسار وهذه الأحزاب متحدة مع “يش عتيد” و “حتنوا” قد تشكّل في مجموعها (52) عضوا ً. وعند ضمّ حزبي “شاس” و “حزب التوراة اليهوديّة المتحد” قد يكون هناك أغلبيّة صلبة قوامها (70) عضوا ً.
إنّ رفض نتنياهو لحكومة الوحدة الفلسطينيّة وللتفاوض معها لن يزيد إلاّ من عزلته محليّا ً ودوليّا ً لأنّه يتخذ موقفا ً متناقضا ً تماما ً مع موقف جميع القوى العظمى التي تريد منح هذه الحكومة فرصة ً لإبداء استعدادها للتفاوض بجديّة مع إسرائيل. ولذا في غاية الأهميّة بالنسبة للحكومة الفلسطينيّة أن تكون هذه مدركة ً بأنها إن أظهرت تصميما ً في التفاوض بجديّة مع إسرائيل ومستعدّة للقيام بتنازلات هامّة، هذا في الوقت الذي ما زال يرفض فيه نتنياهو التفاوض معها بإخلاص ٍ وصدق، فإن لبيد وليفني متفقان فيما بينهما على مغادرة الحكومة، الأمر الذي سيفتح الباب لانتخابات جديدة أو تشكيل جكومة إئتلاف جديدة تستطيع أن تسعى بفعاليّة نحو اتفاقيّة سلام.
في مقابلة له مع مجلّة “تايم” صرّح لبيد قائلا ً:”هدفنا كان وسيبقى استمرار المفاوضات لحين التوصّل لاتفاق، ولكن قبل ذلك علينا أن نعرف شيئا ً أساسيّا ً وهو: مع من سنتفاوض بالضبط ؟”.
لقد كان لبيد يلمّح بوضوح لحكومة الوحدة الفلسطينيّة ولمدى التزام حماس بالعمليّة السلميّة. يجب على حكومة الوحدة الإستفادة من “هشاشة” حكومة نتنياهو بإظهار استعدادها ورغبتها في إنهاء الصراع سياسيّا ً على أساس شروط ٍ يقبلها الطرفان.
وأخيرا ً، يجب على حكومة الوحدة أن تعمل جاهدة ً على كسب الدّعم الأمريكي والأوروبي المتواصل وتعزيزه. وهذا الأمر يعتمد على التزام الفلسطينيين بالنقاط المذكورة أعلاه. أضف إلى ذلك، بإمكان الحكومة الفلسطينيّة تسهيل الأمر على الرئيس الأمريكي أوباما – الذي يريد لحكومة الوحدة النجاح – بأن تضمن قيام حماس باحتضان مبادرة السّلام العربيّة، الأمر الذي سيحفظ ماء وجه حماس من ناحية ويعطي الولايات المتحدة حجّة قويّة لإزالة حماس من قائمة الإرهاب.
وللتأكيد، تمنح حكومة الوحدة الفلسطينيّة فرصة تاريخيّة إمّا لدفع السّلام إلى الأمام وتحقيق حلم الدولة الفلسطينيّة أو تدمير أيّ أمل لاستئناف المفاوضات باتجاه هذات الهدف. وما يهمّ الآن في الأمر هي الإجراءات التي ستتخذها حكومة الوحدة والرواية الشعبيّة التي ستتبنّاها ومدى الدور البنّاء الذي ستلعبه حماس. يجب أن يكون هذا كلّه مصمّما ً لإقناع الشعب الإسرائيلي بأن الوقت والظروف قد تغيّرت وأنّ لا إسرائيل تستطيع السماح لنفسها ولا الفلسطينيّون يستطيعون كذلك السماح لأنفسهم أن يظلّوا سجناء للماضي.