All Writings
ديسمبر 21, 2015

في قبضة الأوهام القويّــة

يبدو الجمود في عمليّة السّلام الإسرائيلية الفلسطينية غير منطقي ومثير للقلق حيث أن غالبيّة الإسرائيليين والفلسطينيين تدرك بأن التعايش، سواء في ظل ظروف العداء أو الصداقة، هو حقيقة لا يستطيع أيّ من الطرفين تغييرها لتفادي وقوع كارثة. ويفهم كلا الجانبين أن الأطر العامة لاتفاق سلام دائم يجب أن يرتكز على حلّ الدولتين على أساس حدود 1967 مع بعض عمليّات لتبادل الأراضي بين الطرفين. ومع ذلك، يختار الجانبان التخبّط في أوهام والعيش في تحدي الزمن والظروف. ويبدو أنهما يفضلان استمرار الإشتباكات العنيفة وإراقة الدماء على التعايش السلمي، في حين أنهما يلقيان اللوم على بعضهما البعض حول الطريق المدمّر الذي لا ينتهي والذي قد اختاره كلا الطرفين بشكل مأساوي للسير فيه.

هناك ضرورات حتميّة أساسية مقترنة بتدابير أمنية مشتركة طويلة الأجل تمثّل ما كان على طاولة المفاوضات في عام 2000 في كامب ديفيد وفي 2010/2011 وأيضا ً في 2013/2014 تحت رعاية إدارة أوباما في القدس ورام الله. كانت كل جولة تهدف، مع درجات متفاوتة من التقدم، إلى وضع اللمسات الأخيرة على إتفاق. وحتى الآن فشلت في نهاية المطاف إلى القيام بذلك. والسؤال هو: لماذا؟

تصوّرات ومفاهيم متحيزة وانتقائية خاطئة، معزّزة بالتجارب التاريخية والدين وأيديولوجيات متناقضة قد حبست كلا الجانبين في مواقف جامدة. وتشمل العوامل التي تحافظ على هذه الأنماط وتعززها مشاعر مثل الخوف وعدم الثقة وانعدام الأمن. والنتائج النفسية هي الإنكار المتبادل لرواية الطرف الآخر ونزع الشرعية المتبادل.

وعند وضع هذه كلّها معاً، تصبح النتيجة الفعّالة الركود والإستقطاب. وبالتالي فإن ما نحتاج إليه هو الحوار الموجّه نحوالوفاق في الآراء على مستوى القيادة من قبل المسؤولين وغير المسؤولين، وعمليات تواصل الناس مع الناس لحسم مسألة الفهم والإدراك – وهو أمر صعب بالنظر إلى البيئة الحالية التي تدعم – بدلاً من أن تقلّل – المفاهيم المتحيّزة والضارّة.

هناك بعض المفاهيم النفسية التي هي ذات الصلة بفهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. مفهوم الوهم واحد من الأساسيّات. في “مستقبل وهم”، يعرض إدموند فرويد التعريف التالي: “… نسمي الإعتقاد وهماً عندما يكون تحقيق رغبة عاملا ً بارزا ً في دوافعه، وبفعل ذلك نتجاهل علاقاته مع الواقع، تماماً كما أنّ الوهم نفسه لا يكترث لأي وزن من التحقق “.

وخصائص الأوهام هي ما يلي: 1) أنها مستمدة من الرغبات الإنسانية العميقة، و2) يتمّ تبنّي الإعتقاد (أو قد يتمّ تبنّيه) في غياب أي أدلة دامغة أو أسباب منطقية جيدة نيابة عنه.

من المستحيل أن ننكر أن كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين في قبضة أوهام قوية جداً لا تؤدي إلاّ إلى إطالة أمد الصراع ومنع أي تفاهم مشترك. وعلى وجه الخصوص، فإنّ الإعتقاد المشترك بين العديد من الإسرائيليين بأن لديهم الحق التوراتي على الأرض (بما في ذلك يهودا والسامرة) وأن الله أعطى هذه الأرض لليهود إلى الأبد، هو مما لا شك فيه وهمٌ من أمس.

هذا الإعتقاد غير مؤكّد بسبب وجود دليل حقيقي بأن الله إرتأى أن يكون ذلك على نفس الأرض (على الرغم من قيام مملكتين يهوديتين بالفعل، الأولى في القرن العاشر قبل الميلاد و الثانية عام 539 قبل الميلاد)، ولكن لأنه يرضي حاجة نفسية عميقة ومتأصلة لوطن قومي لليهود وهبه الله لهم.

الإعتقاد بأنه من خلال توسيع المستوطنات ستعزّز إسرائيل أمنها الوطني وتحافظ على سيطرتها على كامل الأراضي هو وهم الغد الذي يتجاهل بشكل ٍ عام وجود المسلمين على نفس الأرض لأكثر من 1300 سنة.

ومن المهمّ أن نلاحظ كيف أن هذه أوهام تدعم وتعزز بعضها البعض وتشكل الحاجز النفسي الذي هو أكثر مناعة ًمن ذلك بكثير تجاه التفكير النقدي. وقد خدمت أوهام إسرائيل خلق منطق الإحتلال.

والفلسطينيون، من ناحيتهم، ليسوا هم الآخرون بدون أوهام. هم يعتقدون أيضا ً بأن الله قد “حجز” الأرض لهم ويحتكمون لحقيقة أنهم سكنوا هذه الأرض لعدة قرون. من وجهة نظرهم، وجود المسجد الأقصى المبارك الذي بُني عام 705 ميلادي في القدس يشهد على انتمائهم التاريخي والديني للمدينة المقدسة. انهم يتمسكون أيضاً بفكرة أنهم سيعودون يوماً ما إلى أرض آبائهم وأجدادهم حيث أنهم مستمرّون في الإصرار على حق العودة للاجئين الفلسطينيين رغم أن هذا قد أصبح واقعيّا ً أمراً يكاد يكون مستحيلاً.

يتمسّك الفلسطينيون بشدة بأوهام الأمس والغد بشكل ٍ أعمى ويائس كالإسرائيليين، الأمر الذي يؤدي إلى مقاومة التغيير والخوف منه. وعليه ، ما لم يغير كلا الجانبين المسار ويتقبل كلّ منهما إنتماء الطرف الآخر للأرض، وبشكل ٍ خاصّ لأنه يعتمد على أساس ديني، فإن الوضع سيؤدي حتما ً إلى كارثة.

لقد ساهم ذلك في جعل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني مزمناً ومستعصياً على حد سواء، حيث أنه يتمّ تغذية شتّى الأوهام بشكل ٍ مستمرّ ومقصود بمواجهات يوميّة عدائيّة وغالبا َ ما تكون أيضا ً عنيفة بين الجانبين.

وسعياً لجسر المفاهيم التي قد تربط بين مجالات علم النفس والسياسة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يمكن أن يُقال بأن هناك مقاومة جماعيّة متبادلة ضد التغيير (واعية ومدروسة من ناحية، وداخلية غير واعية من ناحية أخرى) تحمي هوية ضعيفة.

وبالمقارنة، على سبيل المثال، مع هويات سياسية مستقرة وناضجة للأمريكان والبريطانيين والفرنسيين، تعتبر الهويات السياسية لكلا الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني بطريقة ما في مرحلة المراهقة.

الهويات في هذا الإطار أكثر عرضة، والزعماء هم بطبيعة الحال أكثر دفاعية ومقاومة للتغيير. وبحكم طبيعتها،لا بدّ وأن يجد اللاعبون صعوبة (إن لم يكن مستحيلاً) للتعبير عن ذلك علناً، لأنهم لو فعلوا ذلك فإنهم يعترفون بهذا الضعف.

مفهوم المقاومة النفسية للتغيير قد يؤثر أيضاً على الوضع السياسي بشكل عام والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على وجه الخصوص؛ إنه متصل اتصالاً وثيقاً بالتصورات والمفاهيم في العديد من المستويات ويوفر الحماية لتشكيل الهوية الضعيفة.

هذه هي العقلية المعززة بالتجارب التاريخية التي تتجاوز أكثر من سبعة عقود منذ بدء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. الأفراد والجماعات، إسرائيليون وفلسطينيون على حد سواء، يستمرون في تفسير طبيعة الخلاف بينهما على أنها “أنت مقابلي أو ضدّي ” بطريقة مغرضة وانتقائية.

وبالمقابل، فقد خنق هذا الأمر أية معلومات جديدة ومكّن استمرار المقاومة للتغيير، وهذه قد تطرح ضوءاً جديداً على طبيعة وجوهر الصراع وتساعد في دفع عملية السلام.

ومفهوم المقاومة الغير واعية للتغيير في هذا الإطار مرتبط إرتباطا ً وثيقا ً بنظرة المفاهيم والتصورات التي تقود الإستقطاب في الصراع. وتخدم التجربة التاريخية التي تصيغ المفاهيم والتصورات – بين أمور أخرى – لتعزيز الشعور بالهوية من حيث “من نحن حقا”، وهو افتراض جماعي تشكيلي يجلس على حجر الأساس لكلا اللاعبين الرئيسيين ويحرك السلوك الوظيفي والمختلّ وظيفيا.ً

ومن حيث المبدأ، تمنع مثل هذه العقلية قيام اي من الطرفين من التفكير بأفكار جديدة قد تؤدي إلى تنازلات للتوصل إلى حلّ سلمي. والمفارقة هنا هي أن الأغلبية على كلا الجانبين تريد وتسعى فعلا ً للسلام، وهي تعلم حقّ العلم أن ذلك سيتطلب تنازلات كبيرة، ولكنها غير قادرة على التوفيق بين التنازلات المطلوبة والمفاهيم والتصورات الراسخة التي حالت دون هذه التنازلات نتيجة للمقاومة والخوف من تغيير. ولذلك، يجب أن يتضمّن أي إطار للسلام أحكاماً وشروطا ً من شأنها أن تزيد كثيرا ً من الفوائد والمنافع لصالح حلّ. أولاً، يتعيّن على الجانبين الإلتزام بالتوصل إلى اتفاق على أساس حل الدولتين من واقع الإقتناع بأن التغيير، وهو ما يترجم إلى التعايش، أمرٌ لا مفرّ منه. ولذلك، فإنه ينبغي على كلّ طرف أن يتكيف مع متطلبات الطرف الآخر التي بالضرورة ستتطلب منه تقديم تنازلات كبيرة.

ثانياً، لتسهيل ذلك، يجب القيام بمصالحة بين الشعبين بالتواصل من النواحي الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والتفاعلات الأمنية للحد من مقاومتهم للتغيير، والتي يجب أن تبدأ، على الأقل، قبل عام واحد من بدأ المفاوضات لخلق الأجواء النفسية و السياسيّة لزراعة وتعزيز الثقة اللازمة لمفاوضات سلام حقيقية وناجحة.

لن يفضي استئناف محادثات السلام إلى أية نتيجة ما لم يغيّر الإسرائيليون والفلسطينيون تصوّرهم المغرض ومقاومة والخوف من التغيير، ويتوصّلوا في النهاية إلى إدراك أن مصائرهم متشابكة مع بعضها البعض ولا يمكن أن يعيش أيّ منهم في سلام وأمن دون الآخر.

****************************

أجد نفسي مضطراً لختام مقالي الأخير لهذه السنة مع تحذير شديد لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء للتفكير جيّدا ً بمصيرهما مع اقترابهما من نهاية العقد السابع من صراعهما المأساوي.

وأقول لكلّ متطرف إسرائيلي وناشط فلسطيني، أولئك الذين يريدون كل شيء، يجب أن تتوقف وتفكر في أين ستكون إسرائيل والفلسطينيون بعد عشرة سنوات إذا استمر الوضع الحالي؟ فأوهامك اليوم لن تصبح حقيقة واقعة غداً، وما سيجلب لك الغدّ ليس سوى المزيد من الألم والدموع والعذاب.

صراعكم، أيّها الإسرائيليّون والفلسطينيّون، يتطور بسرعة كبيرة نحو حرب دينية. وهرمجدون إسلاميّة – يهوديّة هي في طور التشكّل وستحوّل المنطقة كلها إلى جحيم لا يُسبر غوره.

إذا كنتم مؤمنين حقيقيين، لا تجرؤوا على تحدي إرادة الله، لأنه قد وضعكم معا ً لاختباركم، ولذا يجب عليكم إما العيش بسلام ووئام، أو سيحكم عليكم بالنسيان واليأس والدّمار في نهاية المطاف. لديكم القدرة على اختيار مصيركم. هل سيكون التدمير الذاتي أو أنه سيكون تحقيق حلم عظيم ؟ ارتقوا للمسؤوليّة ومرّروا إرثاً من الأمل لكل طفل إسرائيلي وفلسطيني، فهؤلاء لهم حق منحه الله لهم ليكبروا ويزدهروا ولا ينبغي أن يموت أحد منهم من أجل أوهامكم العبثيّة.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE