All Writings
ديسمبر 20, 2013

إيران ستصبح قوة نووية، إلاّ إذا…

الأبعاد السيكولوجية والجيوسياسية وراء اندفاع إيران لحيازة الأسلحة النووية

لقد قمت في مقالتي الأخيرة وبشكل حيادي بقدر المستطاع بدراسة موقف البلدان المختلفة التي تكون قد تأثرت بالإتفاق المرحلي المبرم في الآونة الأخيرة بين إيران والدول الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي وهم الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى ألمانيا. وفي هذه المقالة أتجرّأ أن أشرح سبب اعتقادي بأن إيران لن تتخلّى عن هدفها في امتلاك الأسلحة النووية، وما وراء تصميمها محاولة التوصّل حتّى إلى اتفاقية دائمة، هذا إذا تحقّقت يوما َ ما، ستكون أمراً عابرا ً على أحسن تقدير. وأطرح في النهاية السؤال: هل هناك طريقة لمنع إيران سلمياً من أن تصبح دولة نووية أم لا ؟

وتجدر الملاحظة هنا في البداية بأن معاناة إيران من العقوبات المكثفة التي شلّت تقريباً اقتصادها كان السبب الأول، إن لم يكن السبب الوحيد، الذي جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات. ولم يكن هذا، على أية حال، أكثر من تحرّك تكتيكي، أي نوع من التراجع الإستراتيجي من ساحة المعركة للفظ الأنفاس وحشد القوى ثانية والعودة من جديد للهجوم من موقع استراتيجي أفضل لتحقيق الهدف المنشود.

وهناك أربعة أبعاد مختلفة لاندفاع إيران بدون هوادة لامتلاك الأسلحة النووية.

الإفتخار الوطني: تمنع رؤية إيران لدورها الإقليمي والعالمي ورسالتها الإسلامية التي تفترضها لنفسها لنشر رؤيتها الخاصة حول الإسلام وزهوها الوطني أية اتفاقية من شأنها أن تحرمها من أن تصبح قوّة نووية.

إيران أمّة فخورة بنفسها وبتاريخ عريق يمتد إلى ما يزيد عن أربعة آلاف عام. وقد كانت خلال فترة تاريخها الطويل تبرز القوة والنفوذ في المنطقة وما وراءالمنطقة. لديها ثاني أكبر مخزون للنفط في المنطقة وتقع جغرافياً في إحدى أكثر المناطق استراتيجية في العالم متمتّعة بالسيطرة الفعّالة على مضيق هرمز الذي يمرّ منه حوالي 40% من نفط العالم. الشعب الإيراني متشرّب بالكبرياء الوطني ويشعر أنه يستحق أن يُعامل باحترام. وينظر الإيرانيون إلى امتلاك السلاح النووي كالأداة الإستراتيجية الرئيسية التي قد تمنحهم الإحترام وبالأخصّ بعد عقود من الإستغلال والإذلال من قِبل الدول الغربية العظمى.

الهيمنة الإقليمية: هناك 72 مليون شيعي في إيران (يمثلون 89% من السكان) إضافة إلى أكثر من 20 مليون شيعي في العراق مقابل ما مجموعه 52 مليون سنّي في جميع دول الخليج مجتمعة، أي المملكة العربية السعودية، عمان، الكويت، البحرين، الإمارات العربية المتحدة وقطر.

فمن وجهة النظر الإيرانية، تمنح الأغلبية الديمغرافية الساحقة للشيعة في الخليج مرتبطة مع تاريخ طويل من الثراء الحضاري والمادي إيران الحق التاريخي المتأصّل في أن تصبح القوّة الإقليمية المهيمنة. وهذا يفسّر أيضاً تصميم إيران للإستمرار في شنّ حربٍ بالوكالة في سوريا لدعم نظام الأسد العلوي،(والعلويّون فرع من المذهب الشيعي) ضد مجموعة من الفصائل السنية ودول تقودها المملكة العربية السعودية لكي تضمن نفوذها خلال فترة حكم الأسد وبعده.

زد على ذلك، فإن جهود إيران الثابتة والناجحة في توسيع نفوذها على منطقة الهلال الممتدة من الخليج وحتّى البحر الأبيض المتوسط والتي تضمّ العراق وسوريا ولبنان تضيف فوائد استراتيجية ضخمة لهيمنتها الإقليمية. وإيران المسلّحة نووياً لن ترسّخ فقط هيمنتها الإقليمية وتفوقها على الدول العربية السنيّة بل وستعيد أيضاً أهميتها التاريخية التي فقدتها إلى حدّ كبير خلال الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والسيطرة الأمريكية اللاحقة. أضف إلى ذلك، فإيران النووية ستسمح لنفسها ترهيب جيرانها العرب السنيين وإخضاع أجنداتهم السياسية لمصلحتها، هذا في الوقت الذي تبطل فيه تأثير التهديد النووي لعدوها اللدود إسرائيل.

الهوية الوطنية: وما زاد من تعميق وترسيخ اقتناعات إيران لامتلاك الأسلحة النووية هي هويتها الوطنية الحديثة الولادة بصفتها جمهورية إيران الإسلامية. وبالرّغم من أن لإيران (بلاد فارس سابقاً) تاريخ عريق بهوية وطنية معترف بها، غير أنها لم تُحكم قبل ذلك من قبل زمرة من رجال الدين الإسلامي. وتبقى هوية إيران الوطنية بهذا الشكل ضعيفة لأنها ما زالت في مراحل تكوينها وتبقى أيضاً في موقع دفاعي لأنها لم تضرب جذوراً عميقة بعد في شعب يتمتع بتوجه غربي هام. وعناد رجال الدين، أكان ذو طبيعة عدوانية ( مثل أحمدي نجاد) .أو باسمة (مثل روحاني) تعكس التغطية الوقائية لهوية وطنية تترسّخ، وهي من الداخل مقاومة سيكولوجية للضغوط الخارجية. وتحت هذه الظروف، فإن طبيعة الخلاف بينهم وبين الولايات المتحدة تحمل شعار ” دورنا الآن ضدهم”. وبالنسبة للزعماء الدينيين الإيرانيين، فإن امتلاك الأسلحة النووية تحت رعاية نظام شيعي إسلامي قد يرسّخ ويقوّي الهوية الوطنية التي ما زالت ضعيفة من خلال ارتباطها المباشر بالقوة المرعبة وهيبة امتلاك الأسلحة النووية.

وبالرّغم من إصرار الزمرة الدينية الحاكمة بأن برنامجها النووي سلمي، غير أنهم عملوا منه قضية عامة كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية وحشدوا بنجاح الجماهير للوقوف متحدين وراء النظام وتحدي القوى الغربية وبالأخص الولايات المتحدة.

مقاومة التغيير: يعتبر الإندفاع وراء الحصول على الأسلحة النووية من وسائل الزمرة الدينية الحاكمة لمقاومة تغيير النظام. إن حكام إيران مقتنعون بأن القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة قد عهدت على نفسها بتغيير النظام في إيران. إنهم مرتعبون من هذا الإحتمال لأن وجود إيران كجمهورية إسلامية متأصّل في طول عمر الأنظمة الإسلامية الحالية والمتعاقبة.

ما زال الإيرانيون يتذكرون بارتعاش وحقد الإطاحة بنظام مصدّق في عام 1953 من قِبل وكالة الاستخبارات المركزية وهم مصممون على عدم السماح بعودة مثل هذا الإذلال الوطني وذلك بالسعي وراء استراتيجيات سياسية وعسكرية محصّنة بالأسلحة النووية. ولذا، فإن مقاومة إيران السيكولوجية ضد التغيير مرتبطة مباشرة بعقليتها السياسية تجاه الولايات المتحدة التي تغذي مفاهيمها وتصوراتها بأن نيّة الولايات المتحدة كانت وما زالت هي تغيير النظام. وبالفعل، إذا كان هناك أي شيء يفوق الإندفاع القوي لامتلاك الأسلحة النووية فهو الحفاظ على السلطة، الذي يبقى قلب وروح ثورة الخميني عام 1979. لقد استعارت إيران صفحة أو صفحتين من تجارب كوريا الشمالية والباكستان وتدرك تماماً بأنها إذا وصلت نقطة الإختراق أو اللارجوع فإنها ستحصّن نفسها من أي هجوم تقوم به الولايات المتحدة و/أو إسرائيل. فلماذا إذن تقوم إيران الآن بتاريخها الطويل من الخداع والتحدي لستة قرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي بين عامي 2006 و 2010 بتوقيف برنامجها لتخصيب اليورانيوم ما دامت الإتفاقية المرحلية قد سمحت لها بالإبقاء على بنيتها التحتيّة النووية وقدراتها لتخصيب اليورانيوم بقيت تقريباً سليمة؟

لقد ضمنت طهران مطالبتها الرئيسية وهي تخصيب اليورانيوم على أرضها واستلمت بالمقابل رفع جزئي للعقوبات كانت بأمسّ الحاجة إليه. لقد عارضت تفكيك ولو حتى جهاز واحد من أجهزة الطرد المركزي ووافقت فقط على تجميد منشآت الماء الثقيل التي تنتج البلوتونيوم، وهذه عملية يمكن بسهولة التراجع عنها. وبالرّغم من أن إيران وافقت على تخفيض نسبة التخصيب من 20% إلى 5% لنصف مخزونها من اليورانيوم الذي يقدّر بِ 500 رطل إنجليزي وتحويل النصف الآخر إلى أكسيد، غير أن بإمكانها أيضاً عكس هذه العملية إذا أرادت.

وقبول إيران بما وصفه وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” في جنيف يوم 24 تشرين الثاني بِ”المراقبة الدولية الغير مسبوقة” قد ينتهي فقط”بدخول مدبّر”، وما زال على إيران قبول عمليات التفتيش الغير معلنة لمنشآتها التحت أرضية الأكثر حساسية في موقع فوردو ومجمّع بارشين العسكري حيث يُشك بأن إيران قد قامت بتجارب مستخدمة أجهزة ومعدات نووية.

وبالنظر إلى تصميم إيران على حيازة الأسلحة النووية، فإن الإتفاق المرحلي لا يعطي أملاً كبيراً في أن الإتفاقية النهائية ستمنع إيران من الوصول إلى العتبة النووية. ولمنع إيران بالوسائل الدبلوماسية من أن تصبح قوة نووية وتجنب حاجة اللجوء إلى الخيار العسكري أو القبول بإيران دولة تمتلك السلاح النووي، أرى أن الإجراءات التالية تستطيع على الأقل جسر الخلافات إذا أخذت بعناية بعين الاعتبار:

أولاً، تفكيك العديد من منشآت إيران النووية المصمّمة لتطوير الأسلحة النووية. وأنا لا أستطيع الحكم أو التّوسع في هذا المطلب المهم أفضل من وزيري الخارجية الأسبقين هنري كيسنجر وجورج شولتس اللذين كتبا في العمود المخصّص لهما في مجلة وول ستريت يوم 2 كانون أول (ديسمبر):”إذا أثبتت فترة التجميد وقوامها 6 أشهر والتي تمّ الاتفاق عليها في جنيف بأنها ليست مجرّد استراحة تكتيكية في مسيرة إيران نحو امتلاك القدرة العسكرية النووية، يجب تقليص وبدرجة كبيرة قدرة إيران الفنية على تجميع أسلحة نووية في المفاوضات القادمة وذلك بتخفيض استراتيجي مهم لعدد وحدات الطرد المركزي ووضع قيود على إنشاء وحدات طرد مركزي متطورة، إضافة إلى إغلاق طريقها نحو امتلاك القدرة على إنتاج البلوتونيوم”.

ثانياً، يجب على إدارة أوباما أن توضّح للسلطات الإيرانية بشكل ٍ لا يقبل الإلتباس – ويفضّل أن يكون ذلك في جوّ ٍ من الخصوصيّة للحفاظ على كبرياء إيران – بأن الولايات المتحدة لن تتردّد لحظة واحدة لإعادة فرض أكثر العقوبات صرامةً بتأييد ساحق من مجلس النواب الأمريكي إذا ثبت بأن إيران تغش. أضف إلى ذلك، على الزمرة الدينية الحاكمة أن تأخذ بعين اليقين بأن الولايات المتحدة مستعدة للجوء إلى الخيار العسكري لوقف تحرّك إيران في أن تصبح دولة نووية وذلك بالبقاء يقظة ومستعدة عسكرياً في جميع أرجاء الخليج. أضف إلى ذلك فإن دعم الولايات المتحدة لإتحاد دول الخليج بدفاع مركزي وقدرات عسكرية ضخمة قد يخلق طبقة أخرى من الرّدع ضد طموحات إيران في أن تصبح القوة العظمى في المنطقة.

ثالثاً، على الولايات المتحدة أن تحذّر المسئولين الإيرانيين بأن عليهم التوقف والكف عن تهديد دولة عضو في الأمم المتحدة وحليف لها، ألا وهي دولة إسرائيل. ويجب أن تفهم إيران بأن إسرائيل ستأخذ مثل هذه التهديدات بدرجة كبيرة من الجدية في حالة وصول إيران لنقطة الإختراق. وعلى إدارة أوباما أن ترفض وبشدة مثل هذه التهديدات مستقبلاً وتحذر إيران بأن الولايات المتحدة لا تستطيع منع إسرائيل من اتخاذ اي إجراء عسكري إذا تبيّن لها بأن أمنها القومي في خطر.

رابعاً، على إدارة أوباما أن تصرّ بأن أية اتفاقية دائمة يجب أيضاً أن تضمن قيام إيران بتعديل مسارها في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وإنهاء دعمها العسكري للإسلاميين المتطرفين مثل حماس وحزب الله وغيرهما من المجموعات الإرهابية المختلفة التي تعمل على تعزيز أجندة إيران السياسية. وإذا أرادت إيران أن تصبح عضواً محترماً في المجتمع الدولي، لا تستطيع بعد الآن أن تمسك بحبلين. وهذا مطلب يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من أية اتفاقية جديدة.

خامساً، ولتهدئة مخاوف إيران الأكثر تهديداً لها، يجب على إدارة أوباما أن تؤكد للإيرانيين بأن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في طهران، الآن أو في المستقبل. وبحكم تاريخها وثرواتها وحضارتها وأهميتها الإستراتيجية، سيكون لإيران الإحترام والتقدير اللذين تسعى لهما وبإمكانها لعب دور مهم وإيجابي على الساحة الدولية الذي بإمكانها أن تستفيد منه بشكل كبير بدون امتلاك الأسلحة النووية.

ولإيران مخرج مثالي لحفظ ماء وجهها لأنها لم تعلن أبداً بأنها كانت تسعى وراء الأسلحة النووية بل أن برنامجها النووي كان وما زال للأغراض السلمية. زد على ذلك، وحيث أن العقلية الإيرانية ما زالت مبنيّة حول الإفتخار والزهو الوطني، يجب ألاّ تقوم الولايات المتحدة بوصف أية اتفاقية جديدة على أساس “الرابحين والخاسرين” بل وصفها اتفاقية تعتمد على المصلحة المتبادلة تبرز منها جميع الأطراف رابحة.

أنا لست ساذجاً لدرجة أن أعتقد بأن “وصفتي” لإنهاء المأزق النووي مع إيران بسيط وبالإمكان تطبيقه فقط بإرادة أمريكية، فالمعتقدات الدينية للزمرة الحاكمة في إيران ونظرتهم للعالم ومكانهم في هذا العالم قد يعميهم عن رؤية النور. لا تحتاج معتقداتهم الدينية إلى إثبات أو برهان، وهم نتيجة لذلك قد يستمرون في نهجهم النووي الغدّار الذي سيؤدي لمضرتهم.

ولكن مرّة أخرى، إذا شعرت إدارة أوباما بأن هناك فرصة ولو كانت باهتة للوصول إلى اتفاقية نهائية ودائمة مع إيران، بإمكان إدارة الرئيس أوباما تخفيف نقاط الخلاف بإصرارها على الشروط الواردة أعلاه وإقناع نفسها وحلفائها بأنها قد عملت كلّ ما بوسعها لمنع الخيار العسكري.

وبالنظر إلى غرائز إيران لتدمير نفسها بنفسها وافتقار أوباما الواضح للمصداقية، وبالأخص في صحوة هزيمته السورية، ما زال هناك حيّز كبير للأخطاء. وهذا قد ينتهي بإجبار الرئيس أوباما أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ: فإمّا ضرب منشآت إيران النووية أو التسوية معها على أساس الإحتواء. وكلّ من هذين الخيارين يحمل معه عواقب وخيمة للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين ولإيران نفسها.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE