All Writings
فبراير 27, 2020

الدّمار الأخلاقي لاستمرار الإحتلال (الجزء الثاني)

تثبت أربع نظريات أخلاقية – الكانتية ، النفعية ، القائمة على الفضيلة ، والدينية – عدم وجود أساس أخلاقي في استمرار الإحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وخاصة في “صفقة القرن” التي أعلنها ترامب. ناقشت في مقالتي السابقة النظريتين الأخلاقيتين، الكانتية والنفعيّة ، وفي ما يلي أغطي النظريات القائمة على الفضيلة والدين لأنها تنطبق على الإحتلال.

تقول نظرية أخلاقيات الفضيلة – التي لا يزال أرسطو أكبر المدافعين عنها – إن الفعل فعل أخلاقي إذا تم تنفيذه نتيجة لكونه ذا شخصية فاضلة. لا تتعلق أخلاقيات الفضيلة في المقام الأول بتدوين وتطبيق المبادئ الأخلاقية ولكن تطوير الشخصية التي تنشأ منها الأعمال الأخلاقية. وفي هذا السياق ، فإن الإحتلال الإسرائيلي الذي تخلّده بصورة فعليّة “صفقة القرن” – بينما له تأثير سلبي كبير على الفلسطينيين – له تأثير مفسد أخلاقياً على الإسرائيليين أنفسهم وانعكاسات ضارة كبيرة على مكانة إسرائيل الأخلاقية.

تعترف أخلاقيات الفضيلة بأهمية اكتساب عادة التصرف الأخلاقي الذي ينطوي على تربية أخلاقية ؛ كما قال أرسطو ، “تهذيب العقل دون تهذيب القلب ليس تهذيبا ً على الإطلاق”. الإحتلال لا يثقف الشباب الإسرائيلي على الفضائل الأخلاقية ، بل يصلّب قلوبهم لأنهم يستطيعون العيش مع الأحكام المسبقة والتمييز ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين.

وعلى هذا النحو يفشل الإحتلال في تلبية مبادئ أخلاقيات الفضيلة لأنه يخلق بيئة تحط من المضمون الأخلاقي للإسرائيليين أنفسهم. ونتيجة لذلك فإنهم يواصلون ارتكاب انتهاكات ضد الفلسطينيين دون أي شعور بالذنب الأخلاقي.

قد يجادل المرء من وجهة نظر إسرائيلية معينة (أي حركة الاستيطان) بأن الاحتلال يولد فضائل مثل التضامن الوطني والتماسك الإجتماعي والولاء والشجاعة والمثابرة. وفي حين قد يبدو هذا صحيحًا على السطح، إلاّ أنّ الإحتلال يمزق في الواقع النسيج الإجتماعي والسياسي للإسرائيليين ويقوض الأجواء التي يمكن أن تنمو وتزدهر فيها الفضائل الأخلاقية مثل الرعاية والرحمة والشهامة.

علاوة على ذلك ، كلما طال أمد الإحتلال زاد الضرر الذي يلحق بالشخصية الأخلاقية لإسرائيل ، وستصبح إسرائيل أكثر ميلًا إلى التضحية بقيمها ومُثُلها الأساسية كدولة ديمقراطية ملتزمة بحقوق الإنسان.

وأخيرًا ، نحتاج إلى النظر في النظرية الأخلاقية الدينية التي تقول إن الأخلاق تتصرف وفقًا لما تأمرنا به الآلهة. وفي هذا الصدد توجد نظريتان أساسيتان يمكن إرجاع كلاهما إلى إيثيفو أفلاطون حيث يطرح سقراط السؤال التالي: “… ما إذا كان الورع أو المقدس محبوباً من قبل الآلهة لأنه مقدس ، أو أنه مقدس لأنه محبوب الآلهة.”

الأولى هي نظرية القيادة الإلهية التي تنص على أن ما يجعل الفعل أخلاقيًا أو صوابًا هو حقيقة أن الله يأمر به ولا شيء غير ذلك. والنظرية الثانية التي دافع عنها سقراط هي أن الله يأمرنا بالقيام بما هو صواب لأنه هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به. وبعبارة أخرى، الأخلاق تسبق إرادة الله ولا يمكن إنقاصها من الأمر الإلهي.

قد يبدو في سياق هذا النقاش القديم أن اغتصاب الأرض الفلسطينية وضمها يمكن الدفاع عنه على أساس نظرية الأمر الإلهية لأنه إذا طلب منا الله القيام بأية مجموعة من الأعمال، حينئذ ٍ حسب التعريف سيكون هذا الشيء الأخلاقي للقيام به.

يتمسك الكثير من اليهود الأرثوذكس بنظرية الأمرالإلهي حيث يفسرون مفهوم “ميتزفه” (العمل الصالح) أولاً وقبل كل شيء كـ “أمر” ، حيث لا يمكن حتى التفكير في صلاحيته بمعزل ٍ عن حقيقة أن هذا هو ما أمرنا به الله أن نفعل.

وعلى هذا النحو ، فإن أولئك الذين يأخذون الكتاب المقدس باعتباره الوحي لأوامر الله يستخدمونه لتبرير مفهوم إسرائيل الكبرى. ونتيجة لذلك ، ينظرون إلى الوجود الفلسطيني باعتباره عائقًا وضعه الله أمامهم لاختبار عزمهم. لذلك ، فإن معاملتهم القاسية للفلسطينيين جائزة أخلاقياً لأنها تتفق مع المرسوم الإلهي.

ومن خلال تبني نظرية الأمر ، فإنهم يعزون إلى موقف كان وما زال يستخدم لتبرير الأفعال غير الأخلاقية بشكل صارخ. قد يتصدى المدافع عن هذه النظرية لذلك بالقول أنّ الله صالح ، فهو لا يأمر بأي شيء غير أخلاقي.

ومع ذلك ، فإن هذه الحجة جوفاء لأنه إذا كانت الأخلاق هي ببساطة ما يوافق عليه الله ، فإن القول بأن الله صالح هو مجرد تأكيد أنه يوافق على نفسه وإرادته. وفي هذه الحالة، لا يوجد حتى الآن أي حماية ضد المتطرفين الذين يستخدمون نظرية الأمر الإلهي لتبرير حتى أكثر الجرائم بشاعة. علاوة على ذلك ، إذا كان الأمر المعني يلبي حاجة نفسية عميقة الجذور – على سبيل المثال وطن يهودي منحه الله – فإن ما ينسبه البشر إلى الله يصبح في النهاية “إرادة الله”.

هناك مشكلة أخرى في نظرية الأمر الإلهي وهي – كما لاحظ الفيلسوف غوتفريد لايبنيتس – أنها تحول الله إلى نوع من الطاغية لا يستحق حبنا وتفانينا: “فلماذا نسبّحه على ما فعله إذا كان يستحق التسبيح بنفس القدر لفعل العكس تماما “؟.

وبالإنتقال إلى النظرية القائلة إن الله يأمرنا بالقيام بالخير لأنه جيد ، فإن الأمر الواضح هو أن أي فعل يجب أن يستمد قيمته الأخلاقية بشكل مستقل من إرادة الله. في هذه الحالة ، يجب أن تكون السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين مبررة أخلاقياً دون الرجوع إلى بعض الصلاحيات الإلهية. لقد كشفنا آنفا ً، ولو بشكل ٍ موجز ، عن سياسة إسرائيل في ضوء علم الأخلاق والنفعية وأخلاقيات الفضيلة ووجدنا أن هذه السياسة قاصرة وفاشلة في تلبية المتطلبات الأساسية لهذه النظريات. لذلك ، فهي تفتقر إلى التبرير الأخلاقي المستقل الذي يمكن أن تستند إليه أوامر الله.

لا يمكن الدفاع عن احتلال إسرائيل المستمرّ – كما ستؤدي إليه بالتأكيد خطة ترامب – لأسباب أخلاقية أو فيما يتعلق بالأمن القومي. يمكن لإسرائيل أن تدافع عن نفسها وتتغلب على أيٍّ من أعدائها الآن وفي المستقبل المنظور، ولكنها غارقة في فساد أخلاقي لا يعمّقه إلاّ إستمرار الإحتلال. إنه العدو من الداخل الذي يشكل أكبر خطر تواجهه إسرائيل.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE