All Writings
أبريل 27, 2015

الطريق المختصرة لنزع التطرّف هي الطريق الطويلــة

يجب على كلّ دولة عربيّة – بصرف النّظر عن مدى انشغالها أو مشاركتها في محاربة التطرّف العنيف – أن تدرك بأنه لا توجد طريق مختصرة لهزيمة هذا البلاء. وهؤلاء الذين ينظرون لحلول سريعة بحاجة إلى صحوة ٍ عنيفة. وفي حين أنّ القوّة العسكريّة ضروريّة انتقائيّا ً لتدمير منظمات متعطّشة للدماء لا ترحم، ولا سبيل لإصلاحها مثل تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق وسوريا (داعش)، لا تكفي أية قوّة عسكريّة – مهما كان بطشها – للقضاء على التطرّف العنيف على المدى البعيد. ولذا يجب على الدّول العربيّة أن تدرك بأنّ الأسباب الجذريّة للتطرّف تكمن في الفوضى التي تعاني منها أنظمة هذه الدّول الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة وأنّه فقط باتخاذ تدابير منهجيّة وثابتة لمعالجة هذا المرض المحلّي سيضعف وسيتلاشى تدريجيّا ً.

وبالرّغم من أنّ الغرب، وبالأخصّ بريطانيا وفرنسا، وفي مرحلة ٍ لاحقة أيضا ً الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن معصومة ً عن الخطأ وساهمت في محنة وبلاء الجماهير العربيّة، غير أنّه ليس من الحكمة للزّعماء العرب أن يضعوا اللوم لمشاكلهم على القوى الغربيّة. فالقمع الذي استمرّ عقودا ً طويلة من الزّمن والمعاناة والعبوديّة التي عانت منها الجماهير العربيّة، وبشكل ٍ خاصّ الشّباب، في ظلّ حكم قادة فاسدين وغير مبالين إلى حدّ كبير مع نهم ٍ لا يشبع للسلطة – كما هو الحال الآن في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن وغيرهم – قد وصل لنقطة تحوّل جديدة.

يجب على الدّول العربيّة أن تفهم الآن بأن يقظة شبابها التي تجلّت في الربيع العربي لم تتجاوز مراحلها الأولى. وتلك الدّول التي لم يقحمها الرّبيع العربي بعد وتقول بأنه ظاهرة عابرة هي في الواقع في ضلال ٍ مبين، فالأمر ليس سوى مسالة وقت ٍ فقط حتّى تصل ثورة الشباب العربي شواطئها لتطارد زعماء وقادة هذه الدّول.

والتقاء عدد كبير من الجماعات الجهاديّة في العراق وليبيا وسوريا واليمن ليس من قبيل الصّدفة. وما دامت المظالم وفقدان الأمل والعزلة والكآبة سائدة ً في أيّ مجتمع، ستستمرّ هذه في خلق أرض ٍ خصبة للإسلاميين المتطرفين للدخول والإستفادة من يأس الجماهير.

لا يوجد هناك بالتأكيد طريق مفردة تقود للتطرّف، فالبعض ينضمّ لمجموعات متطرفة عنيفة لتتمتّع بشعور الإنتماء، والبعض الآخر يبحث عن التخلّص من الإهانات اليوميّة، وآخرون ينجرّون وراء رغبتهم في الإعتراف بهم أو اندماجهم، والبعض الآخر تغريهم المغامرات أو البطولة، وآخرون كثيرون لا يجدون مخرجا ً للتنفيس عن مظالمهم في غياب عدالة حقيقيّة أو أيّ مدخل ٍ لعمليّة سياسيّة.

القاسم المشترك بين كلّ هذه الجماعات هو أنّ هؤلاء الشباب والشابات قد أصبحوا غرباء عن مجتمعاتهم ومنفتحين لأي مسار ٍ أو طريق ٍ تقريبا ً قد تقودهم لمعنى جديد أو هدف ٍ جديد لحياتهم، حتّى في الممات. والفيلسوف الفرنسي فولتير كان صائبا ً عندما قال:”من يستطيع أن يجعلك تؤمن بالسخافات، يستطيع أن يجعلك تقترف الفظائع”.

ومما لا غرابة فيه أنّ مقابل كلّ إرهابي أو جهادي يُقتل أو يُسجن، يتمّ تجنيد إثنين أو ثلاثة عوضا ً عنه. هذا يعني أنّه بصرف النّظر عن حجم أو بطش القوّة العسكريّة التي تستخدم لمحاربة الإرهاب أو التطرّف العنيف، وبصرف النّظر أيضا ً عن الجهود التي تُبذل لإعادة تأهيل متطرّفين أسروا من قبل بعض الدّول العربيّة (بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة، مصر والعراق) لن يكون هناك نهاية للتطرّف العنيف.

ولذا يجب على الدّول العربيّة إمّا الشّروع الآن في إصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة تقدّم أفقا ً جديدا ً وأملا ً لمستقبل أفضل وأكثر إشراقا ً، أو أن تُجرف بفعل تيّار التطرّف العنيف المتصاعد الذي سيدمّر ألأساس السياسي الذي بُنيت عليه هذه الأنظمة. فالعراق وليبيا وسوريا واليمن أمثلة صارخة على ذلك.

ليس هناك ترياق أو دواء عامّ يضع حدّا ً للعنف والتطرّف، وقد يستغرق الأمر عقدا ً من الزّمن أو أكثر قبل حدوث تغيير واستقرار لهما معنى ً وشأن وبشرط أن يتمّ ما يلي: (أ) أن يكون هناك استراتيجيّة بديلة للتعامل في أعقاب هزيمة تنظيم “داعش” وغيره من الفصائل الرئيسيّة للتطرّف العنيف (وباعتبار هذه الهزيمة شرط مسبق لا بدّ منه) و (ب) أن تشرع الدول العربيّة ببناء هيكل ٍ إجتماعي – اقتصادي وسياسي ثابت ومستديم (هذا خلال فترة مواصلة الحرب ضدّ التطرّف) للتخفيف من غضب الجماهير التي تريد هذه التغييرات، وإلاّ سعت لتحقيقها بطرق ووسائل أخرى، بما فيها العنف.

ولفعل ذلك، على الدّول العربيّة أن تبدأ أوّلا ً بتقليص الفجوة المتزايدة ما بين الأغنياء والفقراء. ليس هناك شيء أكثر فظاعة ً من مشاهدة كيف “يركب” الأثرياء في معظم الدّول العربيّة على ظهور الفقراء، وكيف أنّ الحكومات لا تفعل شيئا ً تقريبا ً لرفع أغلبيّة الشعب من الفقر المدقع.

التوزيع العادل للموارد ليس صدقة تقدّم إعانة مؤقتة من محن يوميّة. لا، التوزيع العادل يعني – ضمن أمور ٍ كثيرة – تخصيص أموال لبناء البنية التحتيّة، وكذلك المدارس والمستوصفات الصحيّة وأنظمة إدارة المياه وتوزيعها وخلق فرص عمل جديدة يستفيد منها المواطن العادي.

وبالرّغم من أنّ الشباب العربي غير صبور ويريد تحسينات فوريّة، ولكن طالما جهود الحكومة في هذا المجال حقيقيّة والشباب يشعر بتقدّم ملموس ومتواصل، فسوف يحتضنه ما دام يعده بمستقبل ٍ أفضل.

وثانيا ً: على الحكومات العربيّة أن تلزم نفسها بإصلاحات اجتماعيّة وسياسيّة لإنهاء تهميش الأغلبيّة الساحقة من الجماهير العربيّة. وليس بالضرورة أن تُترجم هذه الإصلاحات الإجتماعيّة والسياسيّة إلى ديمقراطيّة ناضجة وكاملة. ولكن على أية حال توفير “جرعات” أكبر من العدالة الإجتماعيّة والحرية السياسيّة مقترنة بتنمية إقتصاديّة هو أمر ٌ ضروري للسماح بتقدّم ثابت بدون تهديد قبضة الحكومة على السلطة.

فبدلا ً من حشر الديمقراطيّة ذات الطابع الغربي في حناجر الشعب، الأمر الذي أدى إلى قيام ثورة مضادّة (مثلا ً في مصر) وفوضى وحروب أهليّة (في سوريا والعراق وليبيا)، ستقوم الدّول العربيّة مع الوقت ببلورة نموذج الديمقراطيّة الذي يتماشى مع حضارتها وديانتها.

لا يعتمد اجتثاث التطرّف على الإصلاح الديمقراطي بقدر اعتماده على الإلتزام بتطبيق حقوق الإنسان. فالشباب العربي يهمّه أكثر خلق فرص عمل له والعيش بكرامة من أن تعطيه حقّ التصويت وهو ما زال يعيش في فقر ٍ مدقع.

ثالثا ً: لربّما لا شيء يوقف التطرّف العنيف أكثر من تمكين الناس العاديين. ولا شيء يستطيع أن يحقّق ذلك بشكل ٍ مباشر وفعّال أكثر من مشاريع التنمية المستدامة التي تتطلّب نسبيّا ً مبالغ قليلة من الأموال ولكنها تحقق عوائد مجزية على نحو غير متناسب.

التنمية المستدامة بحدّ ذاتها ليست فكرة جديدة. لقد بيّنت التجارب مرارا ً وتكرارا ً بأن التمكين الذاتي الذي ينشأ من تكوين الثروة يوفّر حياة عائليّة قويّة وشعورا ً بالإنتماء، وغياب ذلك يدفع الناس للبحث عنه في أيّ مكان آخر من خلال التطرّف. ويجب على الدّول العربيّة التي يعصف بها الفقر بشكل ٍ خاصّ أن تجعل من خلق المشاريع التنموية المستدامة أولويّة لها في حربها ضدّ التطرّف العنيف.

وبمنح المجتمعات الصغيرة فرصة اختيار وتنمية مشاريعها الخاصّة لا يوفّر فقط الإستقرار الإقتصادي، بل يخلق أيضا ً جهودا ً تعاونيّة من قبل أعضاء المجتمع المحلّي المعني ويعزّز عمليّة حرّة لصنع القرارات لتحقيق أهدافهم، وهذا هو جوهر التمكين الذاتي.

وللإنطلاق نحو هذا الهدف، فإن التخطيط الديمقراطي التشاركي – الذي يتضمّن قيام المجتمعات المحلية بأنفسها بتحديد وتنفيذ مشاريعها التنمويّة البشريّة ذات الأولويّة والإستفادة منها – هو العنصر الأساسي للإستدامة والثبات. فالتنفيذ الفعّال أمر ٌ أساسي، وإشراك المجتمعات والجاليات المحليّة المهمّشة والبعيدة بشكل ٍ مباشر يتطلّب درجة عالية من الإلتزام لفترة طويلة من الزّمن.

رابعا ً: بالنظر إلى أنّ سكّان العديد من الدول العربيّة مكوّنين من طوائف وأجناس وديانات وقبائل مختلفة، تدعو طموحاتهم وأهدافهم المختلفة مجموعات أو دول متطرّفة لاستغلال مثل هذا الإنقسام وزرع الخلافات داخل هذه المجتمعات والجاليات. ومثالا ً على ذلك، ففي حين أنّه ليس من المرجّح أن تتمّ في المستقبل المنظور تسوية المنافسة وحرب الوكالة ما بين السعوديّة السنيّة المذهب وإيران الشيعيّة من أجل الهيمنة الإقليميّة ، يجب ألا تسمح أية دولة عربيّة أن يعمق الصّراع القائم ما بين إيران والسعوديّة الخلافات أو النزاعات ما بين الجاليتين السنيّة والشيعيّة اللتين تعيشان ضمن حدود هذه الدّولة.

إنّ إيران عازمة في الواقع على زرع بذور الخلاف بين الأقليّة الشيعيّة، أكانت هذه متواجدة في البحرين أم اليمن أم المملكة العربيّة السعوديّة. والطريقة الوحيدة لمنع إيران أو مجموعات متطرفة عنيفة من فرصة التدخّل في الشؤون الداخليّة لأية دولة عربيّة هي بعدم التمييز ضد الأقليّات وتسوية أيّ خلاف ناشيء بين شرائح المجتمع المختلفة بطريقة سلميّة.

وهناك إجراءات وتدابير أخرى مهمّة على الدول العربيّة اتخاذها لمنع العديد من الإسلاميين من الإنضمام لصفوف المتطرفين، وهذه جديرة بعناية خاصّة ومنها:

  • إصلاح السجون لمنعها من أن تصبح حاضنات للتطرّف.
  • إدخال مسارات جديدة في جميع المعاهد والمؤسسات التعليميّة لتعليم القيم الأخلاقيّة للإسلام وبالأخصّ قدسيّة الحياة البشريّة.
  • استخدام وسائل الإعلام لتشجيع وتعزيز الحوار الشعبي بقيادة علماء دين مشهورين وذلك لمناقشة الدّور الإيجابي للإسلام في حياة المسلمين العاديين ودحض بشكل ٍ حادّ وقوي سوء تفسير واستغلال التعاليم القرآنيّة التي يستخدمها المتطرّفون لتبرير القتل والإغتصاب والتشويه باسم الله.
  • تشجيع القادة السياسيين على الحديث يوما ً بعد يوم ضدّ المتطرفين العنيفين.
  • التأكّد بأن الأئمة يستخدمون منابر المساجد كمكان لوعظ رسائل الإعتدال وقيم المحبّة بدلا ً من السّماح للمساجد بأن تصبح أوكار للتطرّف، هذا مع تقديم بدائل وطرق بنّاءة للشباب للعيش بدلا ً من محاولة البحث عن الخلاص بالموت.
  • التحرّك بالتأنّي وتنفيذ قرار الدول العربيّة لإنشاء قوّة عسكريّة موحّدة وصلبة وجاهزة للقتال يكون لها هدفان رئيسيّان هما: أ) ردع إيران من مواصلة التدخّل في شؤونها الداخليّة و ب) تدمير شبكاتها الإرهابيّة التي مهمتها الرئيسيّة زعزعة استقرار هذه الدول ، الواحدة تلو الأخرى.

وللأسف، العديد من العلاجات والإصلاحات التي على الدول العربيّة القيام بها لصدّ مدّ التطرّف هي أسهل للوصف منها للتنفيذ، حيث أنّه ليس هناك إصلاحات سريعة والطريق المختصرة لإزالة التطرّف هي طريق طويلة ومحفوفة بالمخاطر.

وبالنظر للموت والدّمار اللذين يجتاحا الشرق الأوسط على نطاق ٍ واسع، ليس للدول العربيّة خيارات كثيرة سوى وضع وتطوير استراتيجيّة بعيدة المدى وشاملة للتعامل مع خطر الإسلاميين المتطرفين الذي يلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى. والفشل في القيام بذلك سينقلب عليها ويعرّض وجودها للخطر. فالدّول العربيّة تواجه تحدّ ٍ غير مسبوق يتمثّل في التطرّف العنيف، وبإمكان هذه الدول فقط مواجهته بتوفير أهمّ ما يحتاجه شبابها – الأمل، الفرص وحياة كريمة.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE