هجوم ترامب على الأمم المتحدة يُلحق الضرر بنفسه
من الصعب تخيّل عدم وجود شخص بالغ واحد في دائرة ترامب ليُخبره أن الإنسحاب من العديد من وكالات الأمم المتحدة التي تُقدّم خدمات إنسانية بالغة الأهمية يُقوّض المصلحة الوطنية للولايات المتحدة ومكانتها العالمية بدلاً من تعزيزها.
لا يُمكن وصف كيفية تعامل إدارة ترامب مع الأمم المتحدة إلا بأنها تُلحق الضرر بالمصلحة الوطنية للولايات المتحدة، وتُقوّض نفوذها في جميع أنحاء العالم بشكل كبير. من الصعب أن نفهم كيف يُظهر ترامب، الذي يريد “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، مثل هذا العداء الصارخ تجاه الأمم المتحدة، وهي المنظمة العالمية الوحيدة التي لعبت فيها الولايات المتحدة، على مر السنين، دورًا محوريًا وقياديًا تفوّق على أي دولة أخرى منذ إنشائها في عام 1945.
في خطابه أمام لجنة الإدارة والميزانية التابعة للأمم المتحدة في 6 أكتوبر، صرّح السفير جيف بارتوس، الممثل الأمريكي لإدارة وإصلاح الأمم المتحدة، قائلاً: “لقد أصبحت الأمم المتحدة منتفخة وغير مركزة وغير فعالة في كثير من الأحيان، بل وأحيانًا جزء من المشكلة”، مضيفًا: “إن فشل الأمم المتحدة في الوفاء بولاياتها الأساسية أمر مثير للقلق ولا يمكن إنكاره”. إن بيانه في أحسن الأحوال غير دقيق وفي أسوأ الأحوال خاطئ تمامًا.
لم يكن سراً أبدًا أن الأمم المتحدة متأخرة عن إجراء إصلاحات كبيرة، بدءًا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي عفا عليه الزمن وغير فعّال بشكل متزايد والذي لا يمثل المجتمع الدولي والعديد من وكالات الأمم المتحدة الأخرى. إن تجاهل العمل الحيوي للأمم المتحدة على جبهات متعددة دفعة واحدة، وقطع المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها ملايين البشر في الدول الفقيرة تعسفيًا، أو الإنسحاب من وكالات الأمم المتحدة الحيوية، أمرٌ غير مقبول ويضرّ بشدة بقيادة الولايات المتحدة ومصالحها الوطنية.
بأي منطق تبرّر إدارة ترامب انسحابها من منظمة الصحة العالمية التي تتمثل وظيفتها الأساسية في تنسيق الإستجابات الصحية العالمية للأزمات كالأوبئة ووضع المعايير الصحية الدولية؟ قد يظن المرء أن إدارة ترامب ستدعم بقوة منظمة كهذه تخدم المصالح الأمريكية من منظور الصحة العالمية، وأن لعب دور هام في إصلاح وتحسين وظائفها لن يؤدي إلا إلى تعزيز النفوذ الدولي للولايات المتحدة.
كيف يمكن لإدارة ترامب أن تفسّر انسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي يعزّز حقوق الإنسان ويحميها في جميع أنحاء العالم من خلال التعاون الدولي؟ وبانسحابه من هذه المنظمة يتخلى ترامب عن أي دور يمكن للولايات المتحدة أن تلعبه في منع انتهاكات حقوق الإنسان مما يؤدي إلى تقليل الضوابط العالمية على انتهاكات حقوق الإنسان وإضعاف المعايير الدولية. قد لا يكترث ترامب كثيرًا بانتهاكات حقوق الإنسان، ولكن كيف يخدم الإنسحاب من منظمة كهذه أجندته “أمريكا أولاً”؟ في الواقع، لا يمكن لأمريكا أن تكون الأولى عندما تُقوّض مصالحها الوطنية والعالمية الشاملة.
ومثال آخر على ذلك هو قرار إدارة ترامب الصارخ بقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التي كانت تُركّز على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، كالتعليم والرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية. واجهت الأونروا اتهامات عديدة، منها سوء الإدارة ومزاعم بتحيّز بعض موادها التعليمية، وأن حفنة من موظفيها الفلسطينيين على صلة بحماس، بل وشاركوا في هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع ذلك، ونظرًا لدورها الحيوي الممتد لعقود في التعليم والرعاية الصحية والإغاثة والخدمات الإجتماعية والمساعدات الطارئة والإنسانية للاجئين الفلسطينيين، فإنها لا تزال حيوية، لا سيما في هذه المرحلة التي استؤنفت فيها عملها في أعقاب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وهنا أيضًا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تجعل مساعداتها المالية مشروطة بتبسيط عمليات الأونروا وتوفير المساءلة لها بدلًا من عرقلتها ماليًا. إن سحب التمويل لا يؤدي إلا إلى حرمان الولايات المتحدة من إبداء رأيها في عمليات المنظمة، وخاصة الآن عندما أصبح ترامب منغمسا بشكل متزايد في البحث عن حل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
ومن الإجراءات المُحبطة الأخرى رفض إدارة ترامب المشاركة في المراجعة الدورية الشاملة للأمم المتحدة، وهو ما يُمثل ضربةً قاصمة للمساءلة في مجال حقوق الإنسان عالميًا. يُضاف إلى ذلك انسحاب ترامب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إذ يُقوّض هذا القرار مصداقية الولايات المتحدة، ويُرسل إشارةً إلى الحكومات الإستبدادية مفادها أنها هي الأخرى يُمكنها تجاهل المساءلة.
بالإضافة إلى ما سبق، يُثير قطع التمويل الأمريكي عن وكالات الأمم المتحدة الأخرى، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، تساؤلًا جديًا حول الملاءة المالية للأمم المتحدة، بما يسمح لها بمواصلة المهام الحيوية التي كانت تؤديها رغم أوجه القصور في جوانب مُختلفة من عملياتها.
وبشكل عام، أدى انسحاب ترامب وقطعه للمساعدات إلى فجوة فورية في الخدمات الإنسانية، مما أثقل كاهل المنظمات الإنسانية التي تُركت تُحاول ملء الفراغ، في حين زاد من معاناة المناطق المُستضعفة. على سبيل المثال، تعاني اليمن وجنوب السودان، اللتان تعتمدان بشكل كبير على المساعدات الدولية في خضم أزماتهما الإنسانية، معاناةً مروعة بسبب نقص الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء ومياه الشرب. إضافةً إلى ذلك، يؤثر خفض التمويل على برامج دعم اللاجئين في أماكن مثل سوريا والأردن وميانمار وأوغندا.
وكما صرّح السفير بارتوس في خطابه أمام لجنة الميزانية التابعة للأمم المتحدة، قائلاً: “ترامب محق تمامًا – يمكن للأمم المتحدة أن تكون مؤسسة مهمة في حلّ التحديات الدولية، لكنها انحرفت بعيدًا عن هدفها الأصلي”. حسنًا، إذا كان الأمر كذلك، فأي دولة أفضل تجهيزًا ومكانة من الولايات المتحدة لاقتراح أفكار جديدة واتخاذ تدابير محددة وقيادة إصلاح الأمم المتحدة، التي “انحرفت بعيدًا عن هدفها الأصلي”؟
ولكي تحافظ الولايات المتحدة على قيادتها ونفوذها العالميين بما يتماشى مع شعار ترامب “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، يجب عليها توسيع نطاق مسؤوليتها بدلًا من التنصل منها، والعمل مع القوى الأخرى على تحسين مهمة الأمم المتحدة في حل التحديات الدولية. إن عدم القيام بذلك لن يؤدي إلاّ إلى خلق فراغ تسعى الصين، على وجه الخصوص، جاهدةً لملئه. يجب على ترامب أن يتذكر أن بكين ستظل دائمًا تتربص لأي فرصة لاستغلال إخفاقات الولايات المتحدة – فترامب يُسلّم دور القيادة الأمريكية في الأمم المتحدة للصين على طبق من فضة.
ينبغي على إدارة ترامب أن تأخذ زمام المبادرة وتُشرك الدول الأخرى في الدفع نحو إصلاحات محددة، بما في ذلك زيادة إجراءات المساءلة، وتعزيز الرقابة، والشفافية داخل مختلف الوكالات. وبدلاً من قطع جميع الأموال، ينبغي على الولايات المتحدة توفير التمويل مشروطًا بتحقيق معايير محددة. علاوة على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة العمل بشكل وثيق مع حلفائها لصياغة جدول أعمال وكالات الأمم المتحدة ومهمتها بشكل جماعي، والإستثمار في التدريب والموارد لمساعدة الوكالات على تحسين فعاليتها.
وأخيرًا، ينبغي على إدارة ترامب بناء تحالف أوسع، مع الدول ذات التوجهات المتشابهة، لإنشاء جبهة موحدة أقوى في عملية الإصلاح، وتقديم حوافز دبلوماسية لمعالجة المخاوف المحددة للدول المعارضة لتسهيل إيجاد أرضية مشتركة.
في خطابه أمام الجمعية العامة في 23 سبتمبر، قال ترامب: “ما هو هدف الأمم المتحدة؟ إنها لا تقترب حتى من الإرتقاء إلى مستوى إمكاناتها”. أتحدى ترامب نفسه أن يرتقي إلى مستوى التحدي إذا كان يعتقد أن الأمم المتحدة لديها الإمكانات. إنه يعلم أن الولايات المتحدة أكثر ملاءمة بكثير ولديها الموارد للقيام بذلك بالضبط، مما سيسمح للولايات المتحدة باستعادة موطئ قدمها الأخلاقي.
إن هجوم ترامب على الأمم المتحدة هو مظهر آخر من مظاهر تجاهله للأعراف والمعايير والإلتزامات الدولية. وبدلاً من سحب وقطع المساعدات المالية عن العديد من وكالات الأمم المتحدة ذات الأهمية الحيوية وتعريض بقائها الإقتصادي للخطر، ينبغي على ترامب أن يضع أمواله حيث يكون فمه لاستعادة مصداقية أمريكا التي حطمها في تسعة أشهر فقط من فترة رئاسته.