الإنتخابات قبل أوانها تدعو إلى عدم الإستقرار السياسي
بالرغم من الحاجة إلى الإنتخابات والإصلاحات السياسيّة في صحوة الربيع العربي، إلاّ أنّ الإنتخابات قبل أوانها قد تؤدّي إلى فترة ٍ من عدم الإستقرار السياسي المستمرّ الذي يتخلّله العنف، أو أنها قد تجلب معها أنظمة حكم استبداديّة جديدة تستلم السلطة بحجّة المحافظة على النظام والإستقرار. ومن الأهمية القصوى تكوين حكومات انتقاليّة تمثل نسبيّا ً جميع شرائح المجتمع لمدّة لا تقلّ عن خمسة أعوام. وقد يُطلب من هذه الحكومة الإنتقاليّة وضع مسوّدة لدستور جديد وإدخال إصلاحات سياسيّة تدريجيّة في حين تقوم هذه الحكومة بتعزيز حقوق الإنسان وبرامج التنمية الإقتصاديّة، وإلاّ فإن هذه الانتخابات ستفشل في تحقيق النتيجة المرجوة وهي نظام سياسي واجتماعي جديد حرّ ونابض بالحياة.
وبالفعل، ليس هناك دولة عربية مستعدّة لإصلاحات سياسية شاملة بدون تنمية ثقافة ديمقراطية أولاً وخلق البنية التي تشجع تكوين أحزاب سياسية ووضع أجندة سياسية واضحة تعلن للشعب بشكل علني وحرّ. وهنا تقدم في هذا السياق مصر وليبيا واليمن والعراق وحتى تونس أمثلة جيدة تبيّن كيف أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تبرز المشاكل والصعوبات التي تمر بها هذه البلدان. ولذا يبيّن الوضع في هذه الدول العربية وبكل وضوح بأنه ما لم تعالج المعوقات السبعة التالية بشكل تامّ سيتحول الربيع العربي إلى أقسى شتاء مبدّداً جميع الآمال التي وعدت بها الانتفاضات.
1. الاستعجال في إجراء انتخابات برلمانية
إن الاستعجال في إجراء انتخابات يدعم بشكلٍ ثابت المجموعات الاجتماعية و/أو السياسية الموجودة على الساحة الأكثر تنظيماً وانضباطاً وتأصلاً في المجتمع. ففي مصر وتونس سيطر الإخوان المسلمون على الساحة السياسية، وفي ليبيا، بالرغم أنه كان هناك احتمالاً كبيراً أن تفوز مجموعة النضال الإسلامي الليبية بالموجة الإسلامية، غير أن هذا الاحتمال تلاشى وتسيطر الآن حالة من عدم الاستقرار السياسي المتواصل على الساحة السياسية الليبية الغير ناضجة. وقد عزّز بشكل عام عجز الأحزاب العلمانية والمستقلة – وتلك التي تساهم بتوجهات سياسية مشابهة – في الالتحام حول أجندة موحدة أداء الإسلاميين حيث أن هذه الأحزاب الغير إسلامية لم يكن لديها لا الوقت ولا المقوّمات لتنظيم نفسها سياسياً وتقديم أجندات سياسية بديلة عن الإسلاميين.
2- تكاثر الأحزاب
تؤيد أنظمة ديمقراطية “ممزّقة” – ناتجة عن التمثيل النسبي الذي يترجم الأصوات إلى مقاعد في البرلمان – تكاثر الأحزاب السياسيّة الذي يؤدي بدوره إلى تجزئة حتميّة لجمهور الناخبين. ونتيجة للتأثيرات التحوليّة الكاسحة للربيع العربي، تمّ دفع بلدان مثل مصر وليبيا وتونس من الداخل ومن الخارج لإجراء انتخابات قبل أوانها، بصرف النظر عن الظروف السياسيّة السائدة التي كانت قائمة ً قبل الثورات. ونتيجة ً لذلك تكوّنت عشرات الأحزاب السياسيّة (مثلا ً 81 حزبا ً خاضت انخابات تونس وأكثر من 40 حزبا ً كان نشطا ً في انتخابات مصر البرلمانيّة وفي ليبيا اشترك 130 حزبا ً سياسيّا ً في أول انتخابات لها منذ عقود ٍ عديدة). هذا التكاثر السّريع للأحزاب السياسيّة بما يشبه تكاثر الفطر لا يربك فقط الجماهير الشعبيّة وإنما يمنع أيضا ًً التوصّل إلى وفاق ٍ وطني حول أية قضايا أو برامج خارجية أو محليّة هامّة.
3- عدم القدرة على تكوين تماسك سياسي:
عندما تملي العجلة مقياس ونطاق الحملات السياسيّة يتعذّر بكلّ بساطة تطوير أو تنمية البرامج السياسيّة المفضّلة في موعدها لمعالجة المشاكل الإجتماعيّة التي تؤثّر على معظم، إن لم يكن كامل، منطقة الشرق الأوسط. وعلى رأس الأحزاب السياسيّة المتعددة التي تعبىء فراغات سياسيّة حديثة الولادة أحدثها الربيع العربي أقحم آلاف المرشحين المستقلين أنفسهم في الدوائر الإنتخابيّة.وقد عمّق تكاثر هؤلاء المرشحين المستقلين مستوى التشرذم السياسي وعزّز الطبيعة المربكة لمجتمعات الشرق الأوسط بعد عصر الديكتاتوريات. فالإندفاع السّريع إلى الإنتخابات مثلا ً أعطى المرشّحين الليبيين فترة ً تقل عن ثلاثة أسابيع لصياغة برامجهم السياسيّة، الأمر الذي يجعل الحكم عليها أو فهمها تماما ً من قبل عامّة الناس أمرا ً عسيراً. ونتيجة لذلك يصعب أيضا ً على المرشحين تقديم أي نوع ٍ من البرامج المترابطة أو المتماسكة بطريقة ٍ تفي بالطموحات السياسيّة للشباب وقطاعات علمانيّة هامّة من جمهور الناخبين.
4- الإفتقار إلى ثقافة الديمقراطية والإصلاحات:
بصرف النظر عن توقيت الإنتخابات فإن الحديث عن الطموحات الديمقراطيّة سابق لأوانه كليّا ً في مجتمعات ٍ لم يكن لديها في الماضي ثقافة للديمقراطية والإصلاحات. فمنذ تأسيسها في صحوة الحربين العالميتين الأولى والثانية منذ مطلع القرن العشرين كان تحكم جميع الدول العربيّة أنظمة استبداديّة تمنع التعبير الديمقراطي وتعيق التنمية الإقتصاديّة لأغلبيّة شعوبها. وقد وضعت السرعة المذهلة لثورات الربيع العربي وامتدادها خوابير في عجلات الأنظمة البالية، ولكن يجب عليها ألاّ تتبع مقولة أنّ الإصلاحات السياسيّة يجب أن تتمّ بنفس السرعة. وبما أنّ العديد من هذه الدول لم يمرّ أبدا ً حتى الآن بأية تجارب مع الديمقراطيّة الحقيقيّة، فإن إجراء انتخابات فوريّة قد أضرّ بالعمليّة الديمقراطيّة وأعاق طموحات أؤلئك اللذين رغبوا في لعب دور ٍ في مرحلة التجديد السياسي لبلدانهم.
5- دور القوات العسكريّة
في البلدان التي لديها جهاز أمن متأصّل كما هو الحال في مصر، تكون نتائج الإنتخابات عديمة الجدوى ولا معنى لها إلاّ إذا بذلت أقصى الجهود لإخضاع العديد من الوكالات والأجهزة الحكوميّة الهامة للسلطة المدنيّة، بما في ذلك القوات العسكريّة وأنظمة الإستخبارات ووزارات الداخليّة والشرطة السريّة وغيرها. فبصرف النظر عن نتائج الإنتخابات سيحتفظ الجيش في بلدان مثل مصر (ولربّما قريبا ً أيضا ً في سوريا) بالسيطرة إلى حدّ ما على النظام السياسي الجديد لكي يمنع التجرّد من سلطته الجامحة. وأشدّ اهتمام الشخصيات العسكريّة هو الحفاظ على الكلمة الأخيرة في شئون الأمن الوطني والقضايا الرئيسيّة في السياسة الخارجيّة، وبالنسبة لمصر ٍ بشكل خاصّ حماية الإمبراطوريّة الإقتصاديّة العسكريّة.
6- المقاومة المسلّحة المستمرّة
تستمرّ أحزاب عديدة وشخصيّات سياسيّة مهمّة على الساحة – من اللذين برزوا من الديمقراطيات الناشئة في الشرق الأوسط – في اللجوء إلى المقاومة المسلّحة لمواجهة العناد الذي تلاقيه من جانب السلطات المركزيّة أو العسكريّة أو غيرها. فما زال مثلا ً ميدان التحرير في مصر يمتلىء بأصدقاء وأعداء الإخوان المسلمين على حدّ سواء، هذا إضافة ً إلى السلطات العسكريّة الحاكمة. وبالرغم من الإنتخابات الأخيرة في ليبيا، ما زالت المليشيّات المسلّحة منتشرة في أرجاء واسعة من البلد تعمل بشكل ٍ عنيف، ممارسة ً سيطرتها على أجزاء ٍ عديدة من الأراضي الليبيّة. وسوريا تواجه السيناريو المعاكس حيث تستمرّ السلطة المركزيّة في استخدام الوسائل الوحشيّة للبقاء في الحكم. ومنذ أن أصبحت قضيّة الإطاحة بالأسد أمراً مركزيّا ً لبزوغ نظام ٍ سياسي جديد، من المتوقّع أن تنتشر المذابح في سوريا إلى حدّ أبعد من ذلك بكثير لأن النظام يقاتل الآن من أجل البقاء على الحياة.
7- الإفتقار إلى الإجماع حول طبيعة الإصلاحات
يبدو أنّه لن يكون هناك – في حالة إجراء انتخابات فور القيام بثورة ٍ اجتماعيّة – إجماعا ً حول دستور ٍ جديد وحول الإصلاحات الديمقراطيّة التي يجب تشريعها. هذا ما حوّل العمليّات الإنتخابيّة في مصر وتونس وليبيا إلى سباق ٍ لإقامة مجالس وطنيّة وسلطات انتقاليّة وعسكريّة. يجب على أنظمة الحكم الديمقراطي القابلة للتطبيق مهما كان نوعها أن ترفض الإنتخابات السريعة لإعطاء الوقت اللازم للمجتمعات الطائفيّة والعرقيّة المختلفة الموجودة في الشرق الأوسط لكي تنهي خلافاتها وتتفق على المبادىء والشروط الأساسيّة للحريات الإنسانيّة والسياسيّة. وبالفعل، فإن الطبيعة القبليّة لليبيا، كمثال، قد أحدثت جدالا ً عنيفا ًما بين فكرة تبنّي النظام الفيدرالي أو النظام اللامركزي، علما ً بأنّ الأخير تحبّذه المجتمعات القبليّة أكثر وهو خيار مفضّل في ليبيا حيث أنّ النظام الفيدرالي قد يفاقم التوتّر ما بين الصراعات العرقيّة والقبليّة الموجودة أصلا ً قبل الثورة.
وختاما ً، وبصرف النظر عن جودة أو ملائمة هذه الإصلاحات وعن الوقت الذي قد تستغرقه، فإن الإصلاحات السياسيّة بحدّ ذاتها غير كافية إلاّ أذا لازمتها برامج تنمية اقتصاديّة ثابتة ومستمرّة سأتكلّم عنها في مقالة ٍ لاحقة. الشعب لا يريد فقط الحريّة، بل يريد مع الحريّة أيضا ً الغذاء وفرص العمل ورعاية صحيّة وتعليم ومستقبل ٍ واعد للشباب. والإصلاحات الديمقراطيّة الحقيقيّة تستغرق عقودا ً من الزمن لكي تتطوّر. ولن تنجو، عاجلا ً أم آجلاً، أيّة دولة عربيّة من التغيير السياسي الهامّ، ولكن العجلة في إجراء الإنتخابات لن تدعم – على أيّة حال – التغيير المستمرّ وستجعل من الأهداف الديمقراطيّة السامية التي مات كثيرون لأجلها مدعاة ً للسخرية.