فشل ذريع في قيادة كلّ الأطراف
من الصعب وضع قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي في هذه المرحلة بالذات بدون استعمال نعوت مثل “محزن”، “مؤسف” أو حتى “مأساوي”، وأعتقد أن هذه الأخيرة أفضل نعت مناسب للوضع. إنّ انهيار ما يسمى عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية ليس مؤشراً فقط لإخفاق القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، ولكن أيضاً لفشل الأطراف الأخرى المشاركة، وبالأخصّ الدول العربية وإدارة أوباما. إنّه وضع مأساوي لأنه يبدو أنّ جميع الأطراف تركّز على النفعيّة السياسية لتبرير سياساتهم الفاشلة، بينما هم يفقدون القدرة على إظهار الرؤية والشجاعة اللازمتين لتفادي الكارثة الإقليمية الرهيبة التي في طور النّمو.
أنا غير متأكد كيف يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يذكره التاريخ. فكما الأمور تسير اليوم سيتذكّره الناس حتماً كرئيس الوزراء الذي أضاع مرتين فرصة تاريخية لصنع سلامٍ مع الأطراف المتنازعة والمتبقية وهم الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. شيء واحد فقط سيضيّع هذه الفرصة وهو بقاء الوضع الحالي مجمّداً على ما هو عليه. وبالمقابل، الوضع مختلف تماماً على أية حال عندما يقوم أعداء السلام مثل المجموعات المتطرفة وإيران بكسب قوة ونفوذ باستمرار ويشكّلون بالتأكيد خطراً على إسرائيل أكبر بكثير في غياب سلامٍ عربي – إسرائيلي. لقد أظهر نتنياهو ليس فقط عدم مقدرة على القيادة، بل كان طيلة هذه الفترة منشغلاً وبصورة منهجية في خداع محاوريه وهم الأمريكان والفلسطينيين وفي نفس الوقت كان يضلّل أيضاً شعبه. فقيامه باستخدام حكومته اليمينيّة كمبرّر لعدم قدرته على إشراك الفلسطينيين ليس إلاّ درب من الدهماوية. إنّه يعلم بأنّه كان بمقدوره أن يقوم بتنازلات أساسية لا بدّ منها لجذب الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات. وكان باستطاعته أيضاً تغيير تركيبة الحكومة بالتخلي عن حركة شاس وحزب “إسرائيل بيتنا” ودعوة حزب كاديما للإنضمام لحكومته لوضع الفلسطينين تحت الاختبار الفعلي. ولكنه آثر ألاّ يفعل شيئاً من هذا القبيل، لأنه وشركاء تحالفه الحكومي غير راغبين بكلّ بساطة للقيام بأية تنازلات مهمّة، هذا بصرف النظر عمّا يفعله أو يقوله الفلسطينيون. قد يرى نتنياهو إشارة أمل في أنّ إدارة أوباما قد تخلّت عن جهودها لإقناع الحكومة الإسرائيلية بتجميد البناء في المستوطنات اليهودية، غير أنّ حكم الزمن سيكون أفظع ممّا قد يتصوره نتنياهو. سينتهي الأمر بالإسرائيليين لدفع ثمنٍ باهظ للأخطاء المأساوية التي ارتكبها عمداً وحتّ كان مزهوّاً بها.
وبنفس الوتيرة المأساوية لا تتصرّف القيادة الفلسطينية بطريقة أفضل. من “المفهوم” أنّ حماس لأسباب عقائدية وسياسية مستمرة في التمسك بموقفها المتطرّف، حتّى ولو كان ذلك لمضرّة الفلسطينيين. ولكن لا يمكن تطبيق هذا القول على حركة فتح وقائدها محمود عبّاس. بالتأكيد على الرئيس الفلسطيني قيود داخلية وخارجيّة – من الدول العربية – ولكن هذا لا يعلّل فشله في إظهار قيادة قوية والتصرف ضد ميوله السياسية للارتقاء فوق الإجحافات الماضية والشكوكيّة. لا يستطيع زعيم أن يدّعي بأنّه يريد السّلام ثمّ يسمح ببعض الشروط المسبقة – مثلاً تجميد المستوطنات – بأن تمنعه من دخول مفاوضات جادّة. أضف إلى ذلك، لقد أخفق الرئيس محمود عبّاس ورئيس وزراءه سلام فياض في استغلال التقدم الملحوظ الذي أحرزاه في الحفاظ على الأمن في جميع أرجاء الضفة الغربية وكذلك التطورات الاقتصادية المثيرة للإعجاب التي توصلا إليها لتغيير ديناميكية المفاوضات مع إسرائيل بتغيير قواعد الإشراك بما في ذلك المطلب الشرعي بخصوص تجميد الاستيطان. لقد بقي عبّاس عاجزاً عن التقدّم في المفاوضات مع حماس التي يخشاها ويمقتها في آنٍ واحد والتي قلّصت بطريقة ما من حيّز مناوراته في محاولات التفاوض مع إسرائيل. وبالرّغم من أنّ الرئيس محمود عبّاس يبدو صادقاً وملتزماً بالتأكيد بحلّ سلمي خالي من العنف للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، غير أنّه يبقى سياسياً ضعيفاً ومعزولاً. فبدلاً من أن يتخذ مبادرة جديدة، اعتمد بشدّة على الأمريكيين في مخاطبة الإسرائيليين وعلى جامعة الدول العربية لتوفير الغطاء السياسي له في التعامل مع حكومة نتنياهو مفوّتاً مرّة أخرى فرصة ثانية للتوصل إلى اتفاق.
والدول العربية تتحمّل أيضاً مسئولية ليست بأقلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين. فماذا حدث حتى الآن لمبادرة السّلام العربية؟ لماذا لم تفعل جامعة الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية أي شيء تقريباً لتعزيز مبادرتها التاريخية والترويج لها، خصوصاً بين الإسرائيليين اللذين لا يعلمون سوى ما هو قليل جدّا ً عن هذه الوثيقة وحتّى أقل من ذلك عن النوايا الحقيقية للدول العربية لصنع السلام؟ للدول العربية أكثر من أي وقت مضى – خصوصاً تحت ضوء الخطر الإيراني المتنامي – كل الدوافع والمبررات لتسوية خلافاتها مع إسرائيل والشروع بنوع من الدبلوماسية الجديّة الهادئة لطمأنة الإسرائيليين بنواياها الحقيقية من وراء مبادرتها. لا يكفي أن يُقدّم للإسرائيليين إطار عام لسلام شامل، فترجمته إلى أفعال أمر مختلف تماماً. يريد الإسرائيليون – اللذين كانوا وما زالوا متشككين للغاية من النوايا الحقيقية للدول العربية – أن يروا تحركاً ملموساً في اتجاه التطبيع حيث لم يحدث شيء في الواقع منذ أن قامت جامعة الدول العربية بعرض مبادرتها السلمية لأوّل مرة في شهر مارس (آذار) عام 2002. لقد أصبحت الدول العربية في الواقع ضحية خطاباتها في الإبقاء بإصرار على نفس الخطاب السياسي. مثالاً على ذلك، تعطي الخطابة حول حق العودة لللاجئين الفلسطينيين نتنياهو كل الأعذار والمبررات التي يحتاجها لعدم الاشتراك في مفاوضات جادة.
للدول العربية أيضاً دورٌ هام تلعبه، فلا يجوز لها وضع اللوم بغياب السلام على الإسرائيليين فقط. عليهم فعل المزيد لتعديل موقف حماس والاستفادة من الديناميكية الجيوسياسية الإقليمية المتغيرة، وبالأخصّ في مواجهة إيران. وتكشف بهذا الخصوص برقيات ويكيليكس بوضوح مشاعر الدول العربية وخوفها العميق من النفوذ الإيراني المتنامي. إذن حان الوقت لترك نفاقهم واتخاذ موقفٍ صلب ضد حماس وحزب الله لكي يبيّنوا فعلاً بأنهم ملتزمون بالاستقرار الإقليمي وذلك باستخدام قوتهم الجماعيّة لتعديل مواقف المتطرفين. وحان الوقت أيضاً لجامعة الدول العربية للاستفادة بشكلٍ فعلي من المبادرة العربية للسلام ذات الأهمية البالغة لتعزيز رؤية السلام.
وأخيراً، على الولايات المتحدة أن تلقي نظرة أكثر حزماً على إخفاقها الأولي للتوسط في سلامٍ فلسطيني – إسرائيلي. ففي الوقت الذي أحرزت فيه إدارة أوباما على علامات عالية للشروع في العملية السلمية في الأيام الأولى من تولي “السلطة”، عليها الآن قبول اللوم المستحق لفشلها في تقييم المعطيات السياسية والمادية بصورة سليمة على أرض الواقع. حان الوقت لإدارة الرئيس أوباما لأن تدرك بأن لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين حتّى بأحسن النوايا على استعدادٍ لصنع سلام بدون دبلوماسية أمريكية ضاغطة وملزمة وبدون رؤية واضحة للمستقبل. تفتقر إدارة أوباما لاستراتيجية جديدة وفريقٍ جديد وعلى أن تصرّ في نفس الوقت على مشاركة أكثر نشاطاً وفعاليّةً من طرف الدول العربية البارزة وبصورة مباشرة. إنّ الفريق الحالي الذي يقوده السيناتور السابق جورج ميتشيل متعب ولربّما ليس على دراية بالواقع وبالقيود السياسيّة التي يعيش في ظلها الإسرائيليون والفلسطينيون. زد على ذلك، لقد أظهر السيد ميتشيل افتقاراً لفهم عقلية كلا المعسكرين، وبالأخصّ فيما يتعلّق بأمن إسرائيل القومي ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين. أنا أؤكد بأنّه حان الوقت لإدارة أوباما لكي تخرج بخطتها الذاتية لحلٍّ يعتمد على الاتفاقيات السابقة وعلى أساس التفاوض على الحدود أولاً. لم يبق أمام الرئيس أوباما سوى عام واحد للتوصّل إلى اختراق. عليه أن يبيّن لجميع الأطراف وبكل وضوح بأن المصالح الوطنية الأمريكية يتم تقويضها بصورة منهجية بسبب الصراع المستمرّ وأنّ سلام إسرائيلي – فلسطيني يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية بالقدر الذي يخدم مصالح الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم. لا تستطيع لا إسرائيل ولا الفلسطينيون طلب استمرار الدّعم الأمريكي والضمانات الأمنية من ناحية وفي نفس الوقت تجاهل المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة التي يتم تقويضها من قبل إيران والقاعدة. وللولايات المتحدة كلّ الحق أن تطالب كلا الطرفين بتناول كلّ ما هو مطلوب للتحرك نحو حلّ سياسي. ويجب على إدارة أوباما ألاّ تتردّد في ممارسة كل ضغط ممكن على السلطات الإسرائيلية والفلسطينية للقيام بالتنازلات اللازمة. وإذا استدعى ذلك انهيار أي من الحكومتين أو كليهما، فليكن.
لا يستطيع أي طرف، أكان إسرائيل أم الفلسطينيين أم الدول العربية أم الولايات المتحدة، أن يتوصّل لسلامٍ شامل إلاّ إذا كانت جميع الأطراف الأخرى مستعدّة للقيام فعلاً بالتنازلات الضرورية – وليس التشدّق فقط بنيّة القيام بها – أو القيام بمبادرة جديدة لتحقيق السلام. وفي الوقت الذي يستمرّ فيه الصراع، فإن الدولة الوحيدة التي تستفيد من هذا المأزق وتساهم أيضاً فيه هي إيران. تسيطر إيران فعلياً على كلّ العراق وتمارس نفوذاً هائلاً في سوريا ولبنان أيضاً. إيران مصمّمة على تطوير أسلحة نووية وتطمح في أن تصبح القوة المهيمنة في المنطقة. لا تستطيع لا إسرائيل ولا الدول العربية ولا الولايات المتحدة السّماح بحدوث ذلك ويجب على هذه الأطراف الثلاثة متضامنة أن تمنع ذلك. ولكن هذا سيحدث ما دام الصراع العربي – الإسرائيلي مستمراً في جيشانه وما دامت قيادات جميع الأطراف لم ترقَ بعد للدعوة التاريخيّة بل تمهّدالطريق بدلاً من ذلك لحربٍ مأساوية أخرى.