إضطهاد المسيحيين في الشرق الأوسط
بالرّغم من أنّ المسيحيين قد عاشوا في الشرق الأوسط – مهد الديانة المسيحيّة – لما يقرب الألفي عام، فإنهم لا يشكّلون الآن، نتيجة سنوات الإضطهاد والتمييز ضدهم وبالأخصّ في الأعوام ال 15 الماضية، أكثر من نسبة 3 – 4 % من إجمالي عدد سكان المنطقة، هذا من أصل 20 % قبل قرن ٍ من الزمن. والمسيحيّون ليسوا الأقليّة الوحيدة التي يُمارس ضدها التمييز في هذه المنطقة، ولكن محنتهم أكثر وضوحا ً في أماكن عديدة ممّا مرّ به اليزيديّون والأكراد والدّروز وغيرهم. وللأسف، فبالنظر إلى الثورات والإضطرابات في الشرق الأوسط وبروز التطرّف الإسلامي، قد لا يستطيع المسيحيّون وأقليّات دينيّة أخرى بعد الآن، باستثناء بعض الشواذ، أن تعيش بانسجام ووئام مع جيرانهم المسلمين ذوي الأغلبيّة.
وهناك عوامل عديدة تساهم في اضطهاد الأقليّات الدينيّة في الشرق الأوسط. وبالرّغم من أنّ الصراعات الطائفيّة في المنطقة ليست بالشيء الجديد، فإنّ حرب العراق التي اشتعلت عام 2003 والربيع العربي قد أطلقا العنان لتيّار جديد من العنف ما بين السنيين والشيعيين وغيرهم من الأقليّات الدينيّة الأخرى.
لقد كان بروز التطرّف الإسلامي قوة دافعة فريدة في محنة الأقليّات الدينيّة، مشعلا ً رغبة ً متنامية للإلتجاء للدين كمسكّن. وظهور الإنقسام الديني على السّطح، متمثّلا ً في الصراع السنّي – الشيعي ، وبين الطوائف السنيّة المختلفة ذاتها، يخلق عقليّة مجتمعيّة تفترض المجموعات الدينيّة الأخرى بمثابة “العدوّ”. فمجموعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) تستغلّ هذا التعصّب للجماعات الدينيّة الخارجة عن إجماع الأديان، وهذه الأخيرة “ترقى” بمثل هذا التعصّب لمستويات جديدة وبربريّة. أضف إلى ذلك، فإن ما يُضاعف الإضطهاد الوحشي للأقليّات الدينيّة هو خطر التطرّف الذي يهدّد النسيج والتماسك الإجتماعي ويجمع ما بين العقيدة الدينيّة والعنف التعصّبي. وقد عبّر عن ذلك بلايز باسكال بوضوح بقوله:”لا يصنع الرجال الشرّ بصورة كاملة وبسرور إلاّ عندما يفعلون ذلك من قناعة دينية”.
ويضيف الإحباط والألم والعذاب الذي يسود المنطقة نتيجة القنوط الإجتماعي – الإقتصادي من زخم وتيرة التمييز، أي عندما تفشل الحكومات في أن تتدخّل وتخفف هذا الوضع المأساوي يكون هناك ميل لإيجاد حمل ضحية يضع الناس اللوم عليه لمشاكلهم.
وواقع أن هناك بطالة متفشية وفرص محدودة للتعليم العالي وعيش عشرات الملايين من المسلمين في الفقر، هذه كلها تعزّز شعور الإستياء والإمتعاظ ضد الأقليّات الأخرى.
وتشكّل القوميّة العربيّة عاملا ً رئيسيّا ً آخر أعيد تنشيطه في صحوة الربيع العربي. ونتيجة لذلك فقد ازدادت حدّة التمييز ضد المسيحيين في دول معيّنة، شاملة العراق والمملكة العربيّة السعوديّة. والتأثير المتنامي للإسلام داخل إطار الدولة قد خلق انشقاقات ما بين مجموعات الأقليّة الدينيّة والغالبيّة. وسيطرة قوانين التجديف في جميع أنحاء المنطقة تضيف طبقة معقّدة أخرى للتمييز الديني. هذه القوانين التي كثيرا ً ما يساء استخدامها لتصفية حسابات شخصيّة غالبا ً ما تحمل معها عقوبة الإعدام الإلزاميّة. وغالبا ً ما تُرفع اتهامات التجديف بدون بيّنة، لأنّ تقديم البينة بحدّ ذاته يعني تكرار التجديف مرّة أخرى.
وأخيرا ً، فإن هناك تصوّرا ً واسع الإنتشار في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر مفاده بأن العديد من مشاكل المنطقة الإجتماعيّة والإقتصادية تؤول إلى تركة الحقب الإستعماريّة التي تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية والأنظمة الإستغلالية في تلك الفترات الزمنيّة. وبالرّغم من أنّ العديد من هذه الدول المستقلّة حديثا ً قد تحوّلت فور استقلالها لأنظمة استبداديّة، فإن هياكل الدولة التي كانت موجودة قبل ذلك قد بقيت إلى حدّ كبير في مكانها بدون تغيير، الأمر الذي ساعد الأقليّات الدينيّة.
وبالرّغم من أنّ الربيع العربي قد وضع هذا النظام السياسي تحت الإختبار، غير أنّ مطلب الديموقراطية قد جعل العديد من الأقليات الدينيّة غير مرتاحة وقلقة من أن تسقط الحمايات القانونيّة المنقولة من الحقبة العثمانية.
هناك عدد من الطرق العلاجيّة والإجراءات والتدابير المضادّة التي يجب اتخاذها لتخفيف التمييز الديني. من الضروري، في البداية، القيام ب”دفعة” مجددة ومنسّقة على المستوى السياسي تقودها القوى العالميّة الكبرى لإنهاء العديد من الصراعات الإقليميّة المتأججة. ولكن لا حاجة للمثل القائل “القول أسهل من الفعل “، ولكن بصرف النظر عن استعصاء حلّ العديد من هذه الصراعات، ينبغي ألاّ يتوقّع أحد بأن إضطهاد الأقليّات سيُقضى عليه أو يُقلّص بشكل ملحوظ عند انتهاء هذه الصراعات. فإنهاء الصراعات الإقليميّة ، بما في ذلك حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، قد يخفّض بشكل ٍ ملحوظ التوترات في جزء كبير من المنطقة ويقرّب إسرائيل أكثر للعالم العربي السنّي المذهب، هذا في الوقت الذي يحرم فيه مجموعات متطرّفة مثل حماس وحزب الله من الهدف من وجودها.
أضف إلى ذلك، فإن حلّ الصراع السوري من شأنه أن يثبّت ما بقي من الشعب المجزّأ وقد يساعد في تحسين ما تبقّى بصورة خاصّة من الجالية المسيحيّة التي كانت شاهدا ً على تشويه العديد من أماكنها المقدسة أو حتّى تدميرها كليّا ً بأمر من ميليشيات إسلاميّة متطرفة مثل “داعش”.
والصراع السنّي – الشيعي الذي تقوده المملكة العربية السعوديّة وإيران على التوالي هو صراع آخر يغذي جنون التطرّف ويجب إخماده أيضا ً حتّى لو استغرق ذلك سنوات، إن لم يكن عقود من الزمن.
والدبلوماسية الوقائيّة مهمّة جدّا ً في أيّ وقت تظهر فيه إشارة لاحتمال حدوث أعمال إضطهاد، أو في حالة اتضاح بزوغ تدريجي لظرف قد يؤدي إلى اضطهاد، فإن إجراءات يتخذها الغرب، وبالأخصّ الولايات المتحدة في الوقت المناسب قد تمنع حدوث مثل هذه التطورات.
علاوة ً على ذلك، في الردّ السريع على الأعمال الوحشية والفظائع ضدّ الأقليّات الدينيّة تحتاج القوى الخارجيّة إلى إقحام نفسها في الساحة بقوّة أكبر قبل خروج الصراعات عن السيطرة. وهناك أدلّة على أنّ التدخّل في الوقت المناسب في سوريا، بصرف النظر عن ضيق مجال هذا التدخّل، بإمكانه أن يمنع المزيد من المصائب ضدّ الأقليات الدينيّة. مثال على ذلك، عندما كان “داعش” يهاجم اليزيديين في العراق بقصد الإبادة الجماعيّة لهذه المجموعة الدينيّة، تدخّلت الولايات المتحدة وأنقذت عشرات الآلاف من اليزيديين الذين كانوا محاصرين على جبل سنجار تحت خطر إبادتهم من قبل المجموعة الإسلاميّة المتطرّفة. وبالمثل، فإن تدمير مدينة كوباني ذات الأغلبيّة الكرديّة في سوريا قد مُنع من الحدوث عندما قامت الولايات المتحدة بمساعدة القوات الكرديّة المحليّة بطرد قوات “داعش” منها واستعادة المدينة.
ومن المطلوب أيضا ً تقديم مساعدة ماليّة قيّمة للبرامج الدينيّة بحيث يتمكّن مواطنو بلد ٍ معيّن من وضع وتطوير ممارسات قانونيّة وأدوات ثقافية تعرض عليهم التدريب والتوجيه في مجال التسامح الديني. ولمعالجة مثل هذه القضايا، من الضروري أن تفرض الوكالات الفيدراليّة مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليّة (USAID) على موكليها بأن تعمل كالمؤسسات الغير ربحيّة التي تعزّز رسالتها مبادرات الحريّة الدينيّة. وعندما تقوم هذه الدّول بتعديل ممارساتها الحالية، يمكن مكافأتها ماليّا ً أو بطريقة أخرى حسب الحاجة الخاصّة لذلك البلد، ولكن من الضروري مشاهدة نتائج ملموسة قبل منح أية حوافز. ولمزيد من توضيح هذه النقطة بالذات، على المخالفين أن يفهموا تماما ً بأنه سيكون لمخالفاتهم عواقب. فالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بنفوذهم الدولي الهائل قادرون على المضي قدما ً حتّى عقد اتفاقيات تجارية دوليّة أو غيرها من الإتفاقيات السياسيّة مشروطة بإنهاء انتهاكات أو مخالفات ضدّ الأقليّات الدينيّة.
قد يُعاقب المعتدون أو المخالفون عن طريق فرض عقوبات عليهم، مثلا ً فرض قيود على سفر المسؤولين، تقييد التجارة..وغير ذلك، الأمر الذي قد يحفّز الدول المخالفة على إيقاف الممارسات التمييزيّة. هذا ولا يجوز تعميم الطرق والأساليب لمعالجة الإنتهاكات ضدّ الحريّة الدينيّة، فكلّ بلد ٍ يختلف عن الآخر ولا يجوز تطبيق نفس الإجراءات على كلّ الدول.
لا يمككنا في هذا السياق التقليل من شأن التعليم والثقافة في دعم وتعزيز التسامح الديني والحوار بين الديانات. فتعديل الكتب المدرسيّة والتعلّم حول ديانات غير ديانة المرء نفسه من شأنها أن تشكّل خبرة وتجربة لا تقدّر بثمن إذا تمّ انتهاجها بدون تحقير أو وجهات نظر نابية أو رفض الأفكار التي تختلف عن الأفكار والمعتقدات التي يعتنقها المرء. من شأن التعرض الإيجابي للديانات الأخرى أن يعمّق فهمنا وتقديرنا لمعتقداتنا الذاتيّة. لقد أصاب غاندي عندما قال:” من واجب كلّ رجل أو امرأة حضاري(ة) ومثقف(ة) أن يقرأ بتعاطف الكتب المقدسة للعالم. فإذا كنّا نريد احترام ديانات الآخرين كما نريدهم أن يحترموا ديانتنا، تُعتبردراسة وديّة لديانات العالم واجبا ً مقدّسا ً”.
هناك حالات لا ُتعد ولا تُحصى لا تقوم فيها دولة – بسبب تحالف قائم مسبقا ً أو مصالح ذاتيّة – بلوم أو معاتبة دولة شريكة بسبب انتهاكاتها لحرية الأديان، فالمملكة العربية السعودية وباكستان والعراق على رأس قائمة الدول في التمييز ضدّ المسيحيين، ولكن لا أحد يسمع بأنّ الولايات المتحدة قد أثارت هذه المسألة علنا ً لاعتبارات سياسيّة. فإذا كانت الولايات المتحدة تريد جعل اعتراضاتها واضحة للدول الحليفة، يجب عليها فتح حوار ٍ هادىء والضغط على هذه الدول لتصحيح سجلاتها حول الحريّة الدينيّة.
وعلى الصعيد الدولي، فإن أي تقدّم باتجاه ضمان حماية الحريّة الدينيّة وتقليص التمييز والإضطهاد ضد الأقليّات الدينيّة قد أعيق بسبب إخفاق الأمم المتحدة بهذا الشأن. فمجلس الأمن مُسيّس بشكل ٍ مفرط، ونادرا ً ما مرّر قرار لإيقاف إضطهاد الأقليّات، حتّى أنه ليس هناك آليات تنفيذ تتفق عليها كلّ الدول الأعضاء في مجلس الأمن، والجمعية العموميّة للأمم المتحدة حتّى أقلّ فعاليّة ً لأنّ أيّ قرار تتخذه الجمعية العموميّة غير ملزم ويتجاهله أعضاؤها إلى حدّ كبير.
لا تشكّل الإستراتيجيّات التي تمّ تعدادها آنفا ً لمعالجة الإضطهاد الديني للأقليّات في الشرق الأوسط رصاصة ً فضيّة من شأنها أن توقف التمييز وسوء المعاملة. إنها لمأساة بالنسبة للعالم أجمع عندما تُحرم أية مجموعة من الأشخاص – أكانوا مسيحيين، مسلمين، يزيديين أو دروز – من كرامتهم الإنسانية وحريتهم الأساسيّة في الإيمان والعبادة التي يرغبون فيها.
ستُستعاد بالكامل حرية الدين وكرامة كلّ فرد عندما يتذكّر أولئك الممتلئون بالكراهية تجاه الآخرين كلمات السيد المسيح الواردة في إنجيل متّى، الأصحاح 25، الآية 40:”بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم”.