كيف ضلّت اسرائيل طريقها
تقوم إسرائيل الآن بعد خمسة وسبعين عامًا من إنشائها بتربية الجيل الرابع من المحاربين الذين تعلموا أن ينظروا إلى كل فلسطيني على أنه مشتبه به أو إرهابي محتمل. للأسف ، لم تفكر أي حكومة إسرائيلية في كيفية أن يقوم هذا التلقين المباشر والدقيق بتسميم عقول شبابها مع نشوء عواقب وخيمة على الدولة على المدى الطويل.
تصحيح الخطأ
تربي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أجيالا من المحاربين وتسمم عقولهم في الجيش والمدارس. لقد تم تلقينهم منذ صغرهم للنظر إلى كل فلسطيني على أنه مشتبه به أو إرهابي محتمل – عدو لا يمكن إصلاحه ويشكل ظاهريًا خطرًا حقيقيًا وقائمًا ويجب كبحه بأي وسيلة ، مهما كانت وحشية ، للقضاء على التهديد الذي يشكلونه. يُعرّف سبعون بالمائة من اليهود الإسرائيليين الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا على أنهم يمينيون ويعتقدون أن الفلسطينيين هم عدو لدود بينما يستعدون نفسياً للمواجهة العنيفة التالية. لم تفكر أي حكومة إسرائيلية بجدية في التأثير النفسي الوخيم على الشباب الإسرائيلي الذين ينمون في بيئة محملة بمثل هذه الكراهية الشديدة تجاه شعب يجب أن يتعايشوا معه إلى أجل غير مسمى وتحت أي ظرف من الظروف.
لقد أدى تطبيع الإاحتلال إلى جعل الشباب الإسرائيلي مخدرًا بشكل متزايد تجاه محنة الفلسطينيين ، ونتيجة لتعليمهم وتدريبهم أصبح لديهم مناعة تجاه الأشخاص الذين يعيشون في عبودية مع أمل ضئيل أو معدوم في مستقبل أفضل وواعد. ولكن عندما تصبح هذه اللامبالاة تجاه آلام ومعاناة الفلسطينيين حالة ذهنية طبيعية للشباب الإسرائيلي ، فإنها تنزع عنهم إنسانيتهم وكرامتهم. إنهم لا يدركون كيف تم غرسهم نفسياً ليصبحوا قساة ولا مبالين تجاه نظرائهم الفلسطينيين الشباب الذين يعيشون في خوف وعدم يقين بينما تصبح الكراهية والانتقام والأخذ بالثأر طريقهم الوحيد للحفاظ على مقاومتهم.
وكما قال ألدوس هكسلي ببلاغة ، “إن طبيعة الإكراه النفسي هي التي تجعل أولئك الذين يتصرفون تحت الإكراه يظلون تحت الانطباع بأنهم يتصرفون بمبادرتهم الخاصة. لايعرف ضحية الإستحواذ بالعقل بأنه ضحية. بالنسبة له ، فإن جدران سجنه غير مرئية ، وهو يعتقد أنه حر … وعبوديته موضوعية بحتة “.
ومما لا شك فيه ، بالنسبة لعشرات الآلاف من الشباب الإسرائيليين ، مثل آبائهم وحتى أجدادهم ، أصبحت الضفة الغربية امتدادًا لإسرائيل نفسها. لقد تعلموا أن هذه الأرض قد ورّثها لهم الله تعالى إلى الأبد وأن اليهود قد عادوا لاستعادة ببساطة ما لهم من إرث. ويتم تصوير الفلسطينيين على أنهم العدو الدائم الذي لا يمكن الوثوق به أو التصالح معه.
أتيحت لي في الأسبوع الماضي فرصة التحدث إلى جندي إسرائيلي سابق خدم في وحدة مراقبة في الضفة الغربية. سألته عن تجربته ومشاعره تجاه الفلسطينيين. اعترض أن يفصح لي عن ذلك في البداية ، ، ولكن بعد لحظة من التردد قال: “أتعلم ، الآن وأنا أتحدث إليك لا أستطيع أن أصدق كيف كنت أفكر في الفلسطينيين ، بأي فئة من الفلسطينيين في ذلك الوقت. لقد تلقيت تعليمي في المدرسة وتدربت في الميدان من قبل الجيش على معاملة أنّ كل فلسطيني مشتبه به أو إرهابي محتمل. وأنه يجب أن أكون دوما ً يقظًا ، وألا أخاطر وألا أتردد في إطلاق النار إذا شعرت ولو بشيء ضئيل بأنني في خطر “.
“وحقيقة أنه كان بإمكاني الضغط على الزناد بسهولة وقتل فلسطيني من نفس عمري وسرقة أحلامه وكل شيء عزيز عليه لا يزال يؤلمني حتى يومنا هذا. ومثل آلاف الجنود الآخرين ، ما زلت أعاني من هذه المشاعر. أعتقد أن هذا ما يحدث عندما يقوم الجيش والقيادة السياسية بتلقين عقيدة ما ، هذا إن لم يتم التلاعب بك وألإستحواذ عليك من خلال التصريحات العامة المستمرة للتفكير والاعتقاد بأن الفلسطينيين هم عدو لا يمكن إصلاحه وأن معاملتهم على هذا النحو أمر أساسي لأمننا القومي “.
بشكل عام ، ضمير كل شخص يحدّ أو يعيق ، إلى حد ما ، غريزة إيذاء الآخرين. ولكن عندما تصبح أنت جزءًا لا يتجزأ من مؤسسات ضخمة ، مثل المؤسسة العسكرية ، ويقال لك ما يجب عليك فعله لحماية نفسك ، فإنك تتنازل عن مبادئك الأخلاقية عن غير قصد. تشعر أنك محصّن طالما أنك تعمل ضمن إطار سلطة أكبر. وهكذا تصبح مجرد أداة أخرى داخل البنية العسكرية التي تجعلك قادرًا على قتل إنسان دون تردد ، ويمكنك إعفاء نفسك بسهولة من أي مسؤولية أخلاقية.
وبالنظر إلى الطريقة التي يلقّن بها الجيش الإسرائيلي الجنود لمعاملة الفلسطينيين ، وخاصة الشباب منهم ، كمشتبه بهم – إرهابيون محتملون – فإن القانون الديني (هالاخا) المدون في رسالة مجمع السنهدرين رقم 72 أ ينصّ بالأصل العبري ، (Habah l’hargecha hashkem l’hargo) أي (“إذا أتى شخص ما ليقتلك، قف ضده واقتله أولاً “) يسمح للجنود الإسرائيليين الذين أصبحوا على دراية بهذا المبدأ أن يطلقوا النار أولاً ويطرحوا الأسئلة لاحقًا لأنك إذا كنت تعتقد أن الفلسطيني يعتزم قتلك إذا استطاع ، يجب أن تقوم وتقتله أولاً.
ومع ذلك ، عندما يقتل جندي إسرائيلي شابا فلسطينيًا في سن 18 أو 19 عاما ً ، فإنه بمجرد أن ينهي فترة خدمته ويخرج من البنية التحتية العسكرية يبدأ في أكثر الأحيان بتجربة صدمة مؤلمة لقتله شخصًا ما لم يكن يعرفه. فهذا الجندي لا يزال في سن مبكرة ، ويعيش لسنوات تحت وطأة هذا الفعل المؤلم الذي أدى إلى وفاة إنسان آخر ولد ونشأ في ظل الإحتلال الوحشي.
وتمثل الحوادث المميتة التالية مثالاً على الأثر النفسي المرعب لهذه الحالة الذهنية التي تعاني منها القوى العسكرية العاملة في الضفة الغربية. ففي عام 2014 كان هناك رجل فلسطيني يبلغ من العمر 64 عامًا يحتمي في قبو منزله مع أسرته وجيرانه عندما داهم جنود إسرائيليون منزله. قال أحد الجنود للرجل ألا يصعد درجة أخرى على السلّم. حاول الرجل ، الذي كان يحمل علمًا أبيض ، أن يشرح بالعبرية أنهم مدنيون مسالمون في اللحظة التي كان فيها يخطو خطوة أخرى إلى الأمام دون وعي. فأطلق الجندي النار عليه على الفور في قلبه وسقط الرجل ميتًا أمام أطفاله. هذا ولم يتم العثور على أي سلاح من أي نوع أثناء تفتيش جسده. ومنذ ذلك الحين ، تفاقمت حالة انعدام الثقة والعداء بين الجانبين بشكل تدريجي.
وفي شهر يناير/ كانون الثاني من هذا العام أطلق جنود إسرائيليون النار على فتى فلسطيني يبلغ من العمر 14 عامًا في رأسه وتوفي لاحقًا خلال غارة عسكرية في مخيم الدهيشة للاجئين زعمت القوات الإسرائيلية خلالها أن فلسطينيين كانوا يرشقون الجنود بالحجارة والزجاجات الحارقة. ومن المؤكد أن حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة أصبحت غير ذات أهمية ولا يترتب عليها أية عواقب. ومع كل جيل جديد يمر ، يعتاد الشباب الإسرائيلي بشكل متزايد على واقع يزيد من تدهور إنسانيتهم.
أتحدى كل زعيم إسرائيلي يميني مثل نتنياهو وشركائه ، الذين ينكرون حق الفلسطينيين في إقامة دولة ، أن يخبروني أين ستكون إسرائيل في غضون عشرة إلى خمسة عشر عامًا في ظل هذه البيئة التي تجرد الفلسطينيين ليس فقط من إنسانيتهم ولكن أيضًا الشباب الإسرائيلي الذين هم تدربوا ليكونوا مضطهديهم؟ إنهم يغرسون عمدًا في أذهان الشباب الإسرائيلي الاعتقاد بأن الفلسطينيين لن يقبلوا أبدًا بحق إسرائيل في الوجود ، وبالتالي لم يعد أمام إسرائيل خيار سوى النظر إليهم على أنهم عدو أبدي يجب التعامل معهم وفقًا لذلك.
وعلى هذا النحو ، يضلل قادة اليمين الإسرائيلي بشكل منهجي الشباب الإسرائيلي للاعتقاد بأن استمرار الإحتلال أمر أساسي لأمن إسرائيل القومي ، في حين أن الإحتلال نفسه في الواقع يعزز التطلعات الوطنية للفلسطينيين ، ويغذي ويضمن مقاومة الجيل القادم للإحتلال. .
إنه لأمر مأساوي أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تهتم إلا بالقليل ، إن وجد ، لما أخضعت الشباب الإسرائيلي له. فخلافا ً لضم الضفة الغربية ، تريد الحكومات الإسرائيلية اليمينية ، مثل الحكومة الحالية بقيادة نتنياهو ، الحفاظ على الإحتلال ولهذا فهي بحاجة إلى إعداد جيل آخر من المحاربين لمواصلة القتال وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وهم من يجب أن يتعايشوا معهم بسلام. والسؤال هو: هل يريدون القتال 75 سنة أخرى أم قبول الواقع الراسخ للتعايش والعيش بسلام ؟
هكذا ضلت إسرائيل طريقها حيث تنشيء جيلًا تلو الآخر من المحاربين بدلاً من صانعي السلام ، وتسلب ملايين الإسرائيليين سعيهم من أجل السلام. لذا يجب على الجمهور الإسرائيلي الآن أن ينهض لاستعادة العقل الذي فلت من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وإنقاذ البلاد من قادتها المتطرفين المضللين بشكل مأساوي.
هذه المقالة واحدة من سلسلة مكونة من ثلاث مقالات ؛ الثانية ستتناول كيف ضلّ الفلسطينيون طريقهم أيضا. وتوصي المقالة الثالثة بإجراء فحص للواقع كلا الطرفين بحاجة ماسة له لتفادي تطورات كارثية.