انتهـــــاز الفرصــــــة
بقلم: أ.د. ألون بن مئيرأستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسطبمعهد السياسة الدوليــــــــة عاد كاتب المقال منذ فترة قصيرة من رحلة ثانية مكثفة دامت عدة أشهر زار خلالها إسرائيل ومصر وفلسطين وقابل عدداً كبيراً من المسئولين الحكوميين وقادة الأحزاب السياسية وأكاديميين ومواطنين عاديين في هذه الدول. وهذه المقالة هي الثانية من سلسلة ثلاث مقالات تعكس بعض ما توصل إليه من انطباعات ونتائج. على الرغم من أن السياسات الإسرائيلية بطبيعتها تتأثر تقليديا بما يفعله الفلسطينيون, يأتي صعود حماس للسلطة قبل وقت قصير من الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري في شهر مارس (آذار) القادم ليعقّد إلى حد بعيد الجدل السياسي في إسرائيل لدرجة أن كل حزب من الأحزاب الرئيسية يحاول بسرعة أن يرسم اتجاهاً جديداً للأمة لكي تتبعه. ويرى كثير من الإسرائيليين انتصار حماس ضربة قوية لعملية السلام, ويرى آخرون أن هذا الانتصار يشكل نذير شؤم على جبهات عديدة, بينما يراه البعض فرصة تاريخية لإسرائيل لتقوي موقفها وتعيد تشكيل بيئتها الإستراتيجية. من المؤكد أن يقوم حزب الليكود بتصوير صعود حماس للسلطة على أنه خطر كبير لأمن إسرائيل القومي, وبالتالي النتيجة المباشرة لفشل سياسة رئيس الوزراء شارون في انسحاب أحادي الجانب. وسيصر زعيم الليكود بنيامين نتنياهو بأن القيام بأية تنازلات إقليمية أخرى أحادية الجانب سيكون لصالح حماس التي ستنظر لها على أنها إشارة ضعف إسرائيل. غير أن الجمهور الإسرائيلي قادر على التمييز ما بين الخطابة التحريضية ( الديماغوغية) والقول الصادق ويعرفون نتنياهو على حقيقته, أي أنه شخص انتهازي وغير جدير بثقة الأمة. ولكن المشكلة مع الليكود تتخطى شخصياتها. فمنذ أن فقد حزب الليكود منذ وقت طويل بوصلته السياسية, ليس من المحتمل بالنسبة للجمهور الإسرائيلي أن يضع ثقته بالحزب مرة أخرى لرئاسة حكومة جديدة ستحاول أن تبقى على الوضع الراهن كما هو بغض النظر عن التحركات الديناميكية المتغيرة على الأقل من الناحيتين السياسية والديموغرافية. ولذا يقول شلومو أفنيري أحد المحللين السياسيين في إسرائيل:"هناك إمكانية واضحة أن يقوي انتصار حماس ليس المتطرفين من حزب الليكود في إسرائيل, بل حزب "كاديما"(إلى الأمام) الوسط الأكثر اعتدالاً." من الممكن عند هذه النقطة أن يتمتّع حزب العمل حقاً بتأييد شعبي أكبر من تأثير حزب الليكود, هذا بالرغم من أن القاعدة الأساسية لحزب العمل من حيث إجراء تسوية بالتفاوض مع الفلسطينيين لم تعد أمراً حيوياً في سياق موقف حماس الرّسمي من معارضته لحق إسرائيل في الوجود. أضف إلى ذلك بأن الجمهور الإسرائيلي الذي لم يثق بحزب العمل في توفير سلام مع أمن قبل انتصار حماس لن يثق به الآن أيضاً. وإقصاء شريك للسلام سيجبر حزب العمل على مساندة خطط حزب "كديما" لفك الارتباط عند تشكيل الحكومة الجديدة. سيحصل حزب العمل في الانتخابات القادمة على معظم تأييده من ناخبيه التقليديين وسيبرز مرة أخرى على الساحة السياسية كثاني أكبر حزب في إسرائيل بالرّغم من أنه سيكون وراء حزب "كديما" بمسافة كبيرة. هذا ما تشير إليه معظم استطلاعات الرأي. إنّ الحزب الذي سيستفيد القسط الأعظم من فوز حماس هو, كما أعتقد, حزب "كديما", ليس لأنّ "روح" شارون سترفرف فوق الحزب، بل لأن سياسة "كديما" المركزية- فك الارتباط من جانب واحد- صالحة للتطبيق اليوم كما كانت قبل الانتخابات الفلسطينية. فإسرائيل، بتعاون أو بدون تعاون السلطة الفلسطينية، يجب أن تستمر في انسحابها تدريجيّاً من الضفة الغربية وخلق على الواقع حلّ الدولتين. هذه الطريقة الوحيدة التي تتمكن إسرائيل بها من الحفاظ على الهوية الوطنية اليهودية لدولة إسرائيل. فالحفاظ على الوضع الراهن، كما يطالب به حزب الليكود، أو انتظار شريك مفاوض، كما يدعو له حزب العمل، سيقوّض فقط قدرة إسرائيل على ضمان الإبقاء على أغلبية يهودية. وبصرف النظر عن موقف حماس المعلن، لن يكون للحكومة الإسرائيلية الجديدة خيار آخر إذاً، سوى الإسراع لا الإبطاء من عملية فك الارتباط. لو كان شارون مستيقظاً من غيبوبته لحثّ حسب اعتقادي زملاءه السياسيين بقوله:"استمروا قدماً في فك الارتباط وأمّنوا حدود إسرائيل بجميع الوسائل الضرورية, بما في ذلك جدار الفصل, لأنّ إسرائيل هي الوحيدة التي ستقرر مصيرها". هذا من ناحية. من الناحية الأخرى على الشعب الإسرائيلي وحكومته أن يميّزوا ما بين أغلبية الفلسطينيين (حوالي 70%) اللذين يريدون نهاية للعنف والتوصل إلى نوع من الاتفاق مع إسرائيل, وحماس التي ترى دمار إسرائيل قادم على مراحل وتتبع سياسات تتوافق مع هذا الهدف. ولكن وبالرّغم من ذلك, فإن استئناف العنف من قبل حماس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لن يخدم بكل بساطة أجندتها الحالية, لذا يمكن أن نتوقع بأن تحافظ حماس على الهدنة. وفي الوقت الذي توجه فيه الحكومة الإسرائيلية إشارة إلى حماس بأنّها لن تتسامح أبداً مع العنف بصرف النظر عن مصدره, يجب على قوات الأمن الإسرائيلية الامتناع عن الاغتيالات والعقوبات الجماعية التي قد تثير ردود فعل عنيفة. ومن البديهي بأن فك الارتباط أحادي الجانب يعمل بشكل مثالي في جو التهدئة. وحماس ستقبل بذلك, بل حتى ستتعاون معه بشكل غير مباشر بالرّغم من أنّ هذا قد يقلل من نشوة المقاومة المسلّحة لديها وبذلك ينكر عليها فرصة الادعاء بأن إسرائيل تنسحب تحت قوة السلاح. ويجب على الحكومة الإسرائيلية في هذه الفترة الحرجة أن تحرص بصورة خاصة على عدم اتخاذ أية لإجراءات أو خطوات من شأنها حرمان جموع الناخبين الفلسطينيين الغير مسيّسين اللذين دعموا حماس بدوافع غير إيديولوجية. هذا يعني أنه في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بحذر بأعمال موازنة صعبة وترفض تقديم حماس يد المساعدة, على إسرائيل ألاّ تغلق باب أي احتمال أو إمكانية لإيجاد طريقة للتعامل مع حماس. أمور غريبة حدثت في التاريخ بعد إدراك مسئوليات الحكم, فاللذين في السلطة مجبرون على اتخاذ قرارات حياة أو موت, وحماس ليست قاعدة شاذة عن هؤلاء. إنّ تقلد حماس السلطة لم يضعف بأية حال من الأحوال الموقف الإسرائيلي. إن كون حماس على رأس حكومة فلسطينية سيمكن كلاً من الطرفين, حماس وإسرائيل, أن يرى الطرف الآخر على حقيقته بكل وضوح. وبمعنى آخر, سيمكّن كلا الطرفين أيضاً من القول:" أنا أعرف الآن عدوّي". إن هذا الفهم الأفضل لكل طرف للطرف الآخر, بما في ذلك إزالة الغموض والالتباسات, من شأنه أن يحدث تغييراً جوهرياً في طبيعة العلاقات بينهما. قد يجادل بعض الناس, إن لم يكن نسبة كبيرة منهم بالطبع وبشدّة بأن حماس لن تتغير أبداً. لربما ينطبق ذلك على تاريخ حماس ومعتقداتها الإيديولوجية والدينية. هذا ما لا نستطيع أن ننكره. ولكن أن ندفع بأنه لن يكون هناك أي تغيير بأي حال من الأحوال, هذا يعني أن نتجاهل بأن هناك العديد من الحركات الثورية العنيفة التي ضحت بالكثير من جوهر إيديولوجياتها وقبلت بواقع جديد أمامها, خصوصاً, كما أشرت بعد وصولهم إلى السلطة الشرعية. إن إدراك هذه الحركات بأنها قد تخسر كل مكاسبها وحتى المخاطرة بوجودها إذا استمرت في نهجها الثوريّ يجبرها على التغيير. ولهذه الأسباب, على الحكومة الإسرائيلية الجديدة ألاّ تتصرف بافتراض أن علاقة إسرائيل مع الفلسطينيين أمر مقضي عليه ما دامت حماس في السلطة. إن قادة حماس براغماتيون ويدركون أنه ليس بإمكانهم أن يحكموا بمعزل عن العالم وأن عليهم في النهاية الاستجابة بجدية لأية مبادرة إسرائيلية. وإسرائيل دولة قوية لا تحتاج أن تتصرف دائماً من موقف "التفوق والإستعلاء" لكي تضعف حماس, فبقيامها بذلك قد تضيع عليها الفرص التي من الممكن أن تحدث تغييراً دراماتيّاً في السيناريوهات الحالية.