تحدي نتنياهو الصفيق والمحفوف بالمخاطر
قد يعتقد المرء بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعصبته يعودون يوماً ما لرشدهم ويدركون بأن هناك حدود لتحديهم المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، دون أن يكون لذلك ردود فعل حادة، إن لم تكن محفوفة بالمخاطرلدولة إسرائيل. ولكن ما دام نتنياهو في السلطة, ليس لديه نيّة الآن أو في أي وقتٍ آخر بالسماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة تؤدي وظيفتها كما يجب. وحديثه حول حلّ الدولتين ليس إلاّ شعارات فارغة هدفها تضليل المجتمع الدولي، والمفجع أنه يقود الكومنويلث اليهودي الثالث إلى كارثة تاريخية مماثلة لدمار الهيكل. يجب على الإسرائيليين من يسار ووسط الطيف السياسي أن يصحوا ويوقفوه عن مساعيه قبل فوات الأوان، وإلاّ سيحكم عليهم التاريخ بقساوة وبدون رحمة كما سيحكم على نتنياهو نفسه لعدم تفاديهم الكارثة التي تلوح في الأفق لتدمير آخر ملجأ لليهود.
قد أعطي بقولي هذا انطباعاً بأنني دراماتي أكثر مما ينبغي، ولكن أي شخص كان شاهداً على أحداث الأسبوع الماضي في الأمم المتحدة وأدان تأييد الجمعية العامة الساحق في منح الفلسطينيين دولة عضو مراقب يساهم ضمناً في دثر إمكانية حلّ الدولتين وهو الحل الوحيد الذي سيحافظ على وجود إسرائيل ويحميها. لقد رحبت شخصيات إسرائيلية قيادية، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، بقرار الأمم المتحدة ليس لأنهم معنيين برخاء الفلسطينيين بقدر ما هم قلقون على مستقبل إسرائيل نفسها. لقد وصلت عزلة إسرائيل أوجها كما ظهر ذلك في تصويت الأمم المتحدة، والمزيد من تحدي المجتمع الدولي سيجعل من إسرائيل دولة منبوذة تعيش في ظلام وعالم مجهول، لا صديق لها ليحمي ظهرها.
ونظراً للأحداث السياسية المتقاربة والظروف في إسرائيل وفي المنطقة أشعر أنا شخصياً كملايين الناس في جميع أنحاء العالم وفي إسرائيل بأن تحرّك السلطة الفلسطينية الناجح للأمم المتحدة يقدم فرصة زخم لاستئناف عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية بجدية. وعلى إسرائيل والولايات المتحدة – اللتين تدّعيان بأن تحرّك السلطة الفلسطينية الأحادي الجانب يقوّض فقط مفاوضات السلام – أن يقدّما أية حجة مهما كانت تدعم ادعائهما. والحقيقة تقول أن إسرائيل هي التي تتخذ إجراءات أحادية الجانب في المناطق المحتلة، بما في ذلك نزع ملكية أراضٍ فلسطينية بدون عقاب، ويعارضها في ذلك العالم أجمع.
وهناك عدة أسباب مركزية تدفعني للشعور بأن المزيد من التأخير في استئناف المفاوضات لأسباب تكتيكية أو استرتيجية من قبل أي من الطرفين سيقضي على آخر آمال لاتفاقية مقبولة من الطرفين وبعواقب وخيمة لكليهما.
أولاً: بما أن مباحثات السلام كانت مجمدة خلال السنوات الثلاث الماضية، أعتقد بأن مكانة السلطة الفلسطينية المرفوعة دولياً قد تغيّر من دينامية الصراع بشكلٍ غير مسبوق، مجبرة الإسرائيليين على مواجهة واقعٍ جديد. وما دام لعدة سنوات مضت حتى الآن لم يكن هناك مشاكل بالنسبة للعنف أو تهديدات بخطرٍ محدق منبعث من الضفة الغربية، أصبح الإسرائيليون بشكلٍ متزايد أكثر اقتناعاً ورضىً مفضلين الوضع الحالي “لا سلام ولا حرب”. هذا الوضع سمح لنتنياهو أن يكون سيد الطريقين، أي تماماً ما أراد أن ينجزه مستمراً بتوسيع المستوطنات بدون قيود، ولكن جهود الرئيس عباس لدى الأمم المتحدة قد هزّت الآن هذا الوضع الراهن. وقد عبّر السيد أولمرت عن دعمه للتحرك الفلسطيني قائلاً بأن هذا التحرك”يتوافق مع استراتيجية حلّ الدولتين” وأية محاولات لإعاقة أو كبت هذا الزخم ستسبّب العودة إلى الوضع الذي كان راهناً، الأمر الذي سيشلّ بشدة حيوية حل الدولتين ويضر بشكل خطير بمصالح إسرائيل الوطنية.
ثانياً: بالرّغم من أن إدارة أوباما قد صوتت ضد قرار الأمم المتحدة، غير أن توقيت تحرك السلطة الفلسطينية مهم بشكل خاص حيث أن الرئيس أوباما يحضر لولايته الثانية في وقتٍ يجب عليه الآن التعامل مع الأوضاع المتغيرة في الشرق الأوسط. وقد أضافت الأحداث الأخيرة في غزة المزيد من العجلة والأهمية لتدخل أمريكي مباشر في حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لقد أهملت إدارة أوباما إلى حد كبير الصراع بعد محاولات قامت بها في العام 2010، غير أن آخر ثورة لأعمال العنف بين إسرائيل وحماس أوعزت “بصحوة فظّة” للولايات المتحدة لا تستطيع بعدها تجاهل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني دون عواقب لمصالح أمريكا الاستراتيجية. وقيام الولايات المتحدة بمساندة إسرائيل في الأمم المتحدة لا يعني بأن الرئيس أوباما يدعم سياسة نتنياهو المعوّقة تجاه الفلسطينيين.
وإعلان حكومة نتنياهو في اليوم التالي من فوز السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة بأنها مستمرة في خططها لبناء مدينة جديدة في المنطقة المتنازع عليها والمعروفة بِ (E1) الواقعة بين معالي أدوميم والقدس سيجعل من قيام دولة فلسطينية مجاورة أمراً مستحيلاً في الواقع، وهذا كله لم يكن سوى صفعة على وجه الرئيس أوباما. فتحدّي الحليف الوحيد لإسرائيل ليس قصر نظر فحسب، وإنما أيضاً يصيب إسرائيل بضررٍ شديد لأن الولايات المتحدة أصبحت تضيق ذرعاً بشكلٍ متزايد من رئيس وزراء فقد عقله ولم يعد يعي ما يفعل. وبصرف النظر عن تصرف نتنياهو الكريه، يجب أن يعجّل تحرك السلطة الفلسطينية على أية حال في إقحام الولايات المتحدة نفسها مباشرةً وبكلّ جدية ومثابرة ونشاط للدفع للتوصل إلى اتفاقية، موضحة في نفس الوقت بشكلٍ جلي لحكومة نتنياهو بأنها لن تستلم بعد الآن الدعم الأمريكي الشامل كشيء بديهي.
ثالثاً: وبصرف النظر عن من سيفوز في الإنتخابات في إسرائيل في شهر كانون ثانٍ/يناير 2013، على رئيس الوزراء الجديد أن يواجه المشكلة الفلسطينية بطريقة أو بأخرى، فاللعب لكسب الوقت كما كان نتنياهو يفعل على مدى السنوات الأربع الأخيرة لم يعد يجدي الآن. وستكون انتخابات كانون ثانٍ/يناير القادم مصيرية فقط إذا قامت أحزاب الوسط واليسار بإدراك الخطر الذي ستواجهه إسرائيل إذا منح نتنياهو فرصة أخرى لتشكيل حكومة جديدة. هذه ليست أوقات وظروف عادية. يجب على المجموعات السياسية المتشذرمة والمتصارعة في إسرائيل إمّا أن ترقى للحدث وتنقذ – بكل ما في الكلمة من معنى – البلد من الإنزلاق باتجاه الهاوية، أو أن تسمح لمصالحها الشخصية وأنانيتها المتضخمة بالوقوف في طريق النضال من أجل بلدهم. أنا أعلم بأن هذا مهمّة صعبة، ولكن إذا لم يقابلوا نقدهم لنتنياهو بأفعال، سيضحون بمستقبل الأمة على مذبح انغماسهم الأعمى بمصالحهم وأهوائهم. ومع كل ذلك، إذا شكّل نتنياهو حكومة جديدة سيواجه – أو ستجعله الولايات المتحدة أن يواجه – ديناميّات متغيرة، فلدى الفلسطينيون الآن وسائل أخرى لتسليط انتباه المجتمع الدولي بشكلٍ دائم وثابت على محنتهم ومعاناتهم، وذلك بالذهاب مثلاً إلى محكمة الجنايات الدولية وممارسة نفوذهم المكتسب حديثاً. على إسرائيل أن تنظر إلى الظروف المتغيرة بنظرة بنّاءة. فبدلاً من أن تلتجىء إلى خيار معاقبة الفلسطينيين، على الحكومة القادمة أن تستجيب إلى مطالبات الأغلبية بأن تقوم إسرائيل بالتخلص من شرور الإحتلال وأن تعيد الكرامة لكلا الشعبين. الإسرائيلي والفلسطيني على حدّ سواء.
رابعاً: لقد بعث التأييد الساحق من طرف المجتمع الدولي رسالة قوية وواضحة إلى الحكومات الإسرائيلية الحالية والمستقبلية بأنه لم يتبق لإسرائيل أي أصدقاء. وأكبر ضربة سياسية لنتنياهو جاءت من الدول الأوروبية التي إمّا اختارت دعم القرار (مثل فرنسا) أو الإمتناع عن التصويت (مثل بريطانيا وألمانيا). والإمتناع عن إعطاء نتنياهو حتّى أدنى مخرج لحفظ ماء وجهه لا يعني إلاّ تعرية سياسة نتنياهو المفلسة. فالتصويت الغير متناسب في الأمم المتحدة (138 صوت مؤيد مقابل 9 أصوات معارضة و 41 امتنع عن التصويت) قدّم شهادة صارخة لعزلة إسرائيل شبه الكاملة، الأمر الذي يستدعي ضرورة القيام بشيء الآن لمواجهة الصراع مباشرة ً. لا تستطيع أية حكومة جديدة حتى لو قادها نتنياهو تجاهل إجماع المجتمع الدولي، بشرط أن تكون الدول الأوروبية الكبرى، وبالأخصّ بريطانيا، ألمانيا وفرنسا تحت قيادة الولايات المتحدة مصممة على استخدام أية وسائل وضغوطات دبلوماسية بإمكانهم ممارستها لحلّ الصراع. وبهذا السياق، ما حدث في الأمم المتحدة قد أعطى زخماً جديداً لأن المخاطر عالية جداً لجميع الدول المعنيّة.
وأخيراً، من غير المحتمل أن يبقى الفلسطينيون مكتوفي الأيدي في صحوة الربيع العربي في الوقت الذي يضحي فيه الشباب العرب بأرواحهم من أجل حريتهم وكرامتهم في بلدان مثل ليبيا ومصر وسوريا. والسؤال هو فقط متى سينتفضون للمرة الثالثة ضد الإحتلال المهين. من المحتمل أن يؤجل نجاح السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة الانتفاضة الشعبية المحتملة في المناطق وأن يعطي وقت أكثر للمفاوضات. أضف إلى ذلك، فإن التحرك الناجح للفلسطينيين يقوي مركز السلطة الفلسطينية وغيرها من الأصوات المعتدلة على حساب حماس التي تعزّز موقفها السياسي مع غيرها من المجموعات المتطرفة في صحوة الحرب الأخيرة بينها وبين إسرائيل. وهذا التطور يقدم للولايات المتحدة بشكل خاصّ فرصة جديدة لإعادة إقحام إسرائيل والفلسطينيين في حوار مثمر.
وللإستفادة تماماً من هذه التطورات، من الحكمة أن يستعمل الفلسطينيون مركزهم الدولي المحسّن بطريقة بنّاءة. فبدلاً من التهديد بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، عليهم بالأحرى التركيز بتصميم على استئناف المفاوضات دون شروط وأن يتركوا الأمر للولايات المتحدة لتضع قوانين اللعبة. بفعلهم هذا سيقطعون الطريق على نتنياهو من اللعب لكسب الوقت، بالأخصّ لأنه هو الذي أصرّ على استئناف المفاوضات بدون شروط. ومن الحكمة أيضاً أن تمتنع إسرائيل عن اتخاذ أية إجراءات عقابية، حتى وإن كانت رمزية، ضد السلطة الفلسطينية، الأمر الذي لن يزيد الوضع إلاّ سوءاً وسيضعف موقف إسرائيل لأنها ستعمل بذلك ضد مصالحها، هذا في الوقت الذي ستزداد فيه عزلتها عن المجتمع الدولي بأكمله. والقرار الأخير الذي اتخذته حكومة نتنياهو لبناء 3000 وحدة سكنية في القدس الشرقية وفي مستوطنات الضفة الغربية هو بالضبط الوصفة الخاطئة لاستئناف المفاوضات فوراً، ولكن ما دام هذا المشروع في مراحل التخطيط تستطيع الولايات المتحدة أن تلعب دوراً مباشراً في نزع فتيلة قضية النزاع هذه.
على إدارة أوباما مهمة صعبة في الدفع لحل الصراع بإثبات أنه بمقدورها أن تكون وسيطاً أميناً وحيادياً. ولذا عليها أن تسحب تهديدها باتخاذ إجراءات ضد السلطة الفلسطينية، فبإمكان الرئيس أوباما أن يقدّم دفاعاً مقنعاً للكونغرس مفاده أن اتخاذ إجراءات عقابية سيزيد من تقويض نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وأن إيقاف المساعدات الحالية عن السلطة الفلسطينية سيقوّي فقط شوكة المتطرفين من الفلسطينيين.
وهنا يجب التوضيح بأن لا شيء مما ذكر أعلاه سيعفي الفلسطينيين من المسئولية. لقد قاموا في الماضي بتجاوز عملية السلام ولجأوا إلى العنف، وبالأخص الإنتفاضة الثانية التي كانت نقطة تحوّل بالنسبة لإسرائيل مقدمةً لها التبريرات لمخاوفها وشكوكها والإفتقار الكامل للثقة. وأقول في هذا السياق أنه إذا كان الفلسطينيون في الماضي “لم يفوتوا فرصة لتفويت فرصة”، لا تستطيع إسرائيل أن تسمح لنفسها بتفويت هذه الفرصة ووضع نهاية بكرامة لصراع دموي استمرّ حتى الآن قرابة سبعة عقود.
والخلاصة، فإن الأمل المتضائل في التوصل إلى حلّ الدولتين يتطلب نهجاً مبدعاً يعتمد على مبادىء وأسس متينة من طرف الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد يقدّم التحرك الأخير للسلطة الفلسطينية الزّخم والقوة الدافعة لإيجاد حلّ، مهما بدا ذلك بعيداً في الأفق.