عام من الحساب
لقد أثبت مرة أخرى العام الذي انقضى منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، والرد الإسرائيلي الإنتقامي عليه، أن أياً منهما لم يتعلم أي شيء منذ عقود من العنف المروع حيث يواصلان سوء تقدير نوايا وعزم بعضهما البعض.
لقد وصلت العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها في العام الذي انقضى منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، والرد الإسرائيلي الإنتقامي عليه. لم تصل علاقتهما منذ تأسيس إسرائيل في عام 1948 إلى هذا المستوى من التعطش للدماء في السعي إلى تدمير الآخر تمامًا. لقد أخطأت كل من إسرائيل وحماس في تقدير نوايا الطرف الآخر وعقدتا العزم على مر السنين على التخلص من بعضهما البعض. إن المواجهات العنيفة المتكررة والحروب على مدى العقود لم تغير شيئا، بل إنها فقط سممت جيلا بعد جيل وزرعت بذور دورة أخرى من العنف التي أدت إلى الهجوم المروع في السابع من أكتوبر.
ورغم أن حماس توقعت هجوما انتقاميا كبيرا من جانب إسرائيل، إلا أنها أخطأت بشكل خطير في تقدير مدى ما ستذهب إليه إسرائيل لمواجهة وحشية حماس غير المسبوقة التي ألحقتها بالمجتمعات المدنية الإسرائيلية في يوم مقدس، لا أقل من ذلك، حيث استحضرت الذكريات المروعة للهولوكوست (المحرقة). إن تجاوز هذا الخط الأحمر حطم أي قيود لتدمير حماس كان من الممكن أن تمارسها إسرائيل عدا ذلك.
من جانبها، قلّلت إسرائيل من تقدير قدرة حماس على شن مثل هذا الهجوم. كما قللت إسرائيل من تقدير قدرة حماس على الصمود والقتال، وهو أمر كان ينبغي لرئيس الوزراء نتنياهو أن يعرفه لأنه جعل من الممكن لحماس تسليح نفسها وتدريب عشرات الآلاف من المقاتلين وبناء مئات الأميال من الأنفاق، هذا مع الوقت للاستعداد لشن مثل هذا الهجوم العنيف.
لقد أخطأ حزب الله أيضا ً في تقدير نوايا إسرائيل واستراتيجيتها. ولكن على الرغم من أن حزب الله دافع عن حماس فور بدء حرب إسرائيل ضد حماس من خلال الدخول في مواجهة عنيفة مع إسرائيل، إلا أنه أخطأ في تقدير نهجه الذي كان يناسب استراتيجية إسرائيل بشكل مثالي. فقد أعطى إسرائيل الوقت اللازم لتدمير قوات حماس القتالية وبنيتها التحتية بشكل فعال، ثم حوّل تركيزه على حزب الله. وأخيرا، أخطأ حزب الله بشكل قاتل تقديراته بشأن البراعة التكنولوجية والقدرة الإستخباراتية غير المسبوقة لإسرائيل، مما أدى إلى قطع رؤوس معظم كبار قادتها، بما في ذلك الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وشلّ قدرة التنظيم القتالية، على الأقل في هذه المرحلة من الصراع.
لقد أدركت إيران بسرعة أن سنوات الاستثمار الضخم في حماس وحزب الله لم تسفر عن الفوائد التي كانت تتوقعها. كما أدركت إيران بمرارة أن ترساناتها – مجموعة من الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار – لا تضاهي أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية وأن أنظمة الدفاع الجوي لديها غير فعالة في مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية المتفوقة والصواريخ الدقيقة التي يمكنها اختراق مجالها الجوي دون عقاب.
للولايات المتحدة نصيبها من سوء التقدير أيضًا. فقد وقفت إدارة بايدن بثبات خلف إسرائيل؛ ولم يكن لديها استراتيجية بشأن كيفية إنهاء هذا الصراع قبل أن يلتهم المنطقة بأكملها. أجل، لقد أوفت الولايات المتحدة بالتزامها بحماية الأمن القومي الإسرائيلي؛ ومع ذلك، فقد مكنت إسرائيل، في ظل الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، من التصرف كما يحلو لها ضد الفلسطينيين، متجاهلة حقيقة أن الأمن القومي الإسرائيلي في نهاية المطاف يعتمد على السلام الإسرائيلي – الفلسطيني.
أستشهد بالمراجعة الموجزة أعلاه للحسابات الخاطئة التي ارتكبتها جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة في الصراع لإثبات أنه بغض النظر عن كيفية انتهاء هذه الحرب ضد حماس وحزب الله، فإن القليل جدًا من شأنه أن يغير ديناميكية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ما لم يقبل الطرفان حتمية التعايش.
وحيث إن حماس الآن مشلولة عسكرياً، غير أنها تظل منظمة قابلة للحياة وسوف تعيد بناء نفسها ببساطة لأن إسرائيل غير قادرة على استئصال حركة وطنية. وقد هلّل عدد متزايد من الفلسطينيين لهجوم حماس لأنهم لم يروا أي وسيلة أخرى لإنهاء معاناتهم ما لم ينهضوا ضد الإحتلال الإسرائيلي. والآن أصبح جيل جديد من الفلسطينيين على استعداد لمواصلة نضالهم ضد إسرائيل وسوف يمررون عباءة النضال إلى الجيل التالي حتى يحققوا طموحاتهم في إقامة الدولة.
إن إسرائيل قادرة لأجيال قادمة على الفوز في كل معركة ضد الفلسطينيين ، ولكنها لن تفوز أبداً في أي حرب من شأنها أن تخضع الفلسطينيين إلى الأبد. إن الفلسطينيين وُجدوا ليبقوا ولن تتمكن أي قوة أو ظرف من إبعادهم. يجب على إسرائيل أن تتقبل حقوق الفلسطينيين. وإذا كان هناك شيء واحد ينبغي للإسرائيليين أن يتعلموه من الأعوام السبعة والخمسين الماضية، فهو أن الإحتلال لن يكون مستداماً أبداً. أكثر من سبعة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وغزة وفي إسرائيل ذاتها، وهو ما يعادل تقريباً عدد اليهود الإسرائيليين، ولن يخضع هؤلاء لوضع من الدرجة الثانية أو للإحتلال مهما كانت المعاناة وطول أمد القتال ضد إسرائيل.
وعلى نحو مماثل، ورغم أن حزب الله سيخرج من المواجهة العنيفة مع إسرائيل مصاباً بجروح وكدمات، فإنه أيضاً سيعيد تجميع صفوفه ويستعد للجولة التالية من الأعمال العدائية مع إسرائيل طالما لم يتم التوصل إلى حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. والواقع أن تجربة إسرائيل مع حزب الله على مدى العقدين الماضيين تقدم درساً جيداً لكل إسرائيلي مفاده أنه طالما تنظر إيران إلى حزب الله باعتباره خط المواجهة في دفاعها ضد الهجمات الإسرائيلية و/أو الأميركية على أراضيها، فإن طهران ستستمر في تمويل وتسليح حزب الله بغض النظر عن حجم خسائرها في الصراع الحالي.
وإيران أيضاً سوف تدرك لو لم تكن قد تعلمت بالفعل أن طموحاتها إلى تدمير إسرائيل ليست سوى كابوس خطير. يجب على إيران أن تتعايش مع الواقع الإسرائيلي الذي لا رجعة فيه، وأن تدرك أن أي تهديد حقيقي لوجود إسرائيل سيرقى إلى مستوى الإنتحار. ولقد شهدت إيران الآن كيف كان حال العضوين البارزين في “محور المقاومة” ـ حماس تدمرت، وحزب الله ينهار أمام عينيها.
وأخيراً، حان الوقت لكي تفهم الولايات المتحدة أنه في حين أن التزامها الراسخ بأمن إسرائيل ضروري ليس فقط لحماية إسرائيل بل وأيضاً لحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، فإنها لابد وأن تتخلى الآن عن هذا الالتزام المطلق وتتوقف عن الوعظ بحل الدولتين وتبدأ في العمل على هذا الأساس. ويتعين على الولايات المتحدة أن تجعل استمرار دعمها السياسي والعسكري والمالي لإسرائيل مشروطاً بتحرك إسرائيل بجدية نحو حلّ الدولتين.
وفي التحليل النهائي، لم يؤد التزام الولايات المتحدة غير المشروط بأمن إسرائيل إلى السلام. بل إنه لم يفعل سوى إطالة أمد الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني حيث وجدت إسرائيل الراحة في الدعم الأميركي غير المشروط على الرغم من استمرار احتلالها الوحشي الذي دام ما يقرب من ستة عقود من الزمان.
إن السؤال المطروح الآن هو: هل تعلمت إسرائيل والفلسطينيون والجهات التي تدعمهم أي شيء من هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟ وإذا لم يتعلموا، فإن الهجوم المروع الذي شنته حماس والرد الإسرائيلي عليه لن يكون سوى فصل مأساوي آخر في التاريخ المظلم الكئيب للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.