فجر جديد أم طريق مسدود
الآن وبعد أن قامت إسرائيل بالانسحاب بنجاح من غزة دون مقاومة عنيفة من طرف المستوطنين ودون استفزازات فلسطينية، بإمكان كلا الطرفين إما انتهاز الفرصة والبناء باتجاه تعايش سلمي مع بعضهما البعض أو السماح لأنفسهم بالوقوع في شرك الاحتكاك الداخلي المستمر وتفويت فرصة تاريخية جديدة. التحديات جسيمة والمخاطر كبيرة، فكلا القائدين، رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون والرئيس الفلسطيني محمود عباس يواجهان متطرفين، حماس والجهاد الإسلامي على الجانب الفلسطيني وجزء كبير من حزب الليكود اليميني إضافة إلى بعض الأحزاب الدينية على الجانب الإسرائيلي. يرفض المتطرفون على كلا الجانبين المطلب الأساسي وهو التنازلات الإقليمية لإجراء سلام، وقد أقسموا على تقويض حكوماتهم والقبض على سلطة التحكم بالأجندة السياسية لصالحهم. ففي إسرائيل، ومن زاوية أن الانسحاب من غزة يشكل هزيمة كبيرة لحركتهم، وخشية منهم أن يكون المزيد من الانسحابات الإقليمية من الضفة الغربية مسألة وقت فقط، فقد بدأ المستوطنون في تجنيد مؤيديهم لنزع السلطة من شارون. إنهم يتطلعون لوزير المالية السابق بنيامين نتنياهو ليقوم بمنافسة شارون على زعامة حزب الليكود، وهو أمر من الممكن أن يفوز فيه نتنياهو وبذلك يجبر شارون على المناداة باجراء انتخابات مبكرة. وردا على ذلك، فمن المحتمل جدا أن يقوم شارون بتشكيل ائتلاف وسط يضم أحزاب أخرى مثل حزب شنوي (حزب التغيير)، الاتحاد الوطني (National Union) وحزب "إسرائيل بعاليه" (Yisrael B' Aliya) من يمين الطيف السياسي وكذلك حزب العمل من اليسار، وهذه جميعها ستتحالف معه لتشكيل حكومة ائتلاف تسندها أغلبية مطلقة في البرلمان الإسرائيلي. وبالرغم من أن العنف الفلسطيني كان دائما يلعب دورا رئيسيا في تقرير نتيجة الانتخابات الإسرائيلية، فان الكيفية التي سيتصرف فيها المسلحون الفلسطينيون والسلطة الفلسطينية في الفترة ما بعد الانسحاب من غزة سيكون لها الآن تأثير أكبر بكثير. ففي حالة ثبات وقف إطلاق النار بصورة عامة سيؤيد الإسرائيليون أحزاب الوسط واثقين بأن الانسحاب المستقبلي من الضفة الغربية سيتم بحذر باتجاه الاستمرار في عملية الفصل وفتح الباب لتعاون اقتصادي وأمني. ولكن – على أية حال – إذا اشتعل فتيل العنف من جديد واستؤنفت عمليات التفجير الانتحارية، فان نتنياهو وغيره من القادة اللذين يفكرون مثله سيشعرون بأنهم على حق وسيجادلون بأن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة قد حول غزة ببساطة إلى قاعدة إرهاب. هذا وستؤدي أعمال العنف الفلسطيني إلى عمليات عسكرية إسرائيلية خاطفة للأخذ فورا بالثأر والتي من المحتمل أن تكون أكثر عنفا ( لكون غزة الآن فارغة من الإسرائيليين ) وهكذا ستدمر دورة العنف الناتجة من ذلك ما تبقى من البنى التحتية والمؤسسات الفلسطينية. وفي ظل هذه الظروف من المحتمل أن يفوز نتنياهو بأغلبية نسبية ويطلب منه بعد ذلك تشكيل حكومة جديدة تتكون على الأرجح من جميع الأحزاب الواقعة على يمين الوسط وسيكون لها عواقب وخيمة لإسرائيل وللفلسطينيين. وبالنسبة للسيد محمود عباس، فان المشاكل أكثر حدة وأكثر خطورة. انه يدرك أفضل من معظم القادة الفلسطينيين بأن أعمال العنف ضد إسرائيل ستضر فقط بصالحه. ستتأثر حظوظه السياسية ليس فقط بسبب التوقف الفعلي لأي تقدم ولكن أيضا بالنظر لطبيعة الديناميكية السياسية لإسرائيل ومطلب الجمهور الإسرائيلي للأمن. قد ترغب حماس بالادعاء بأن إسرائيل انسحبت من غزة بسبب العمليات التفجيرية الانتحارية والصواريخ التي لا ترحم، غير أن هذه اللغة الجوفاء جميلة ما دامت للاستهلاك الداخلي وما دامت لا تعمل على إجبار إسرائيل بالفعل للخروج من الضفة الغربية واللجوء إلى إستراتيجية استعمال العنف سيكون خطأ فادحا. وهذا هو الخط الذي يجب أن يكون واضحا جدا لدى السيد محمود عباس في تعامله مع حماس والجهاد الإسلامي. لن تتعهد أية حكومة إسرائيلية بمزيد من الانسحاب من الضفة الغربية تحت ظل إطلاق النار. لقد تمت انسحابات إسرائيل من جنوب لبنان وغزة على أساس اعتبارات ديموغرافية وأمنية أكثر منها اعتبارات عدد الإصابات والحوادث. لن يزحزح مليون مفجر انتحاري إسرائيل بوصة واحدة، مثلا من مستوطنة معالي أدوميم أو من الجزء الأكبر من القدس الشرقية. وبقولنا هذا يتضح أن السيد محمود عباس ليس في وضع يجبره على المبالاة بصورة جدية بالضغوط الأمريكية أو الإسرائيلية لنزع سلاح حماس الآن. انه على صواب في محاولته أولا لضم حماس والجهاد الإسلامي إلى العملية السياسية. ليس لدى السلطة الفلسطينية (استنادا إلى دراسة أمريكية شاملة على قوات الأمن الفلسطيني) قوة كافية ن الشرطة وغيرها من القوات العسكرية لنزع سلاح 5000 مقاتل من حماس ذوي تدريب وتسليح جيدين. وفي الواقع، لا ضرورة لنزع السلاح فورا من حماس أو الجهاد الإسلامي ما دام هذان الفصيلان ملتزمين تماما بوقف إطلاق النار ميدانيا. لقد استغرق الأمر في ايرلندا الشمالية بالنسبة للجيش الجمهوري الايرلندي (IRA) ثماني سنوات بعد معاهدة الجمعة العظيمة للاتفاق نهائيا على تسليم أسلحته، ولكن المعاهدة خلال هذه الفترة كانت مصانة بصورة جيدة. هذا يعني بأنه لم تحدث خلال هذه الفترة حوادث عنف جسيمة. وإذا كان هناك أي تأخير قبل أن تلقي حماس أسلحتها، بإمكان السلطة الاستفادة من الوقت لتوحيد وبناء وتنظيم وتجهيز قواتها الأمنية بصورة أفضل وتكون مستعدة لمنافسة حماس بمصداقية إذا دعت الضرورة لذلك. وأثناء ذلك، على إدارة بوش ألا تبخل بأية مجهود أو موارد لمساعدة السلطة على بناء قواتها، لأنه بدون هذه المساعدة يبقى كلام الرئيس بوش حول ضرورة نزع السلاح من حماس والجهاد الإسلامي ومحاربة الإرهاب كلاما فارغا ومضللا لا أهمية له. يجب أن يتحول تركيز السلطة الآن لبناء غزة ودعوة جميع الأطراف المعنية للعب دورا في إعادة بنائها. صحيح، قول هذا أسهل من فعله. إن قطاع غزة مشرذم سياسيا واجتماعيا. فهناك المجموعات المسلحة المتنوعة وعائلات ذات نفوذ والسلطة بفصائلها المتعددة وفسادها المتفشي وحالة غياب القانون. ولكن لغزة القدرة على أن تصبح مكانا عصريا يجذب له السياحة والاستثمارات والتجارة، أي كيان يبرهن للعالم بأن السيد محمود عباس كان محقا بقوله أن الفلسطينيين شعب يتحمل المسئولية وجدير بمكانه فوق الأرض وتحت الشمس.