ملف انتهـــــــــــــــــــــــــــــ&#
إن الانسحاب الإسرائيلي من غزة من أهم التطورات في الصراع الطويل والعنيف القائم ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين مع فرصة تغيير ديناميكية الصراع وتقريبه من حل تفاوضي بين الطرفين. ويعتبر معارضو الانسحاب، وخصوصا وزير المالية السابق بنيامين نتنياهو من المقامرين المتهورين المستعدين للمتاجرة بمستقبل إسرائيل لصالح طموحاتهم الشخصية. ان الادعاء بأن الانسحاب من غزة يقوّض أمن إسرائيل، كما يصرح نتنياهو، هو أمر لا أساس له من الصحة ومضلل بصورة خطرة. ولعل نتنياهو يتغافل عن قول ما يعرفه جيدا وهو أن الاحتلال هو لب الصراع ولا يمكن لإسرائيل أن تسترد أبدا الأرضية الأخلاقية الصلبة التي تحتاجها للتعامل بفعالية مع الكفاح الفلسطيني المسلح الا بانتهاء الاحتلال. يذكر نتنياهو في رسالة استقالته الأخيرة من مجلس الوزراء مرارا وتكرارا اتهامه بأن الانسحاب سيعرض إسرائيل فقط لخطر جديد، غير أنه لا يقدم أي دليل يبيّن كيف يخفض استمرار الاحتلال من وتيرة الكفاح الفلسطيني المسلح. "إن ما يتضح لنا أكثر فأكثر هو أن الانسحاب من جانب واحد في ظل إطلاق النار لا يقدم لنا شيئا" يقول نتنياهو في رسالته . بل "في الواقع العكس هو الصحيح. انه يعرض أمن إسرائيل للخطر ويفرق الأمة ويضع الأساس للانسحاب لخطوط عام 1967 التي لا يمكن الدفاع عنها." ولعل المرء يتساءل كيف يتضح هذا الأمر أكثر فأكثر بمنظار نتنياهو ؟ اذا كان السيد نتنياهو يلمح لانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في شهر أيار عام 2000، فالعالم كله يعلم أنه بالرغم من أن حزب الله يطالب بضم بعض المناطق (مزارع شبعا)، إلا أن منسوب العنف ما بين البلدين قد تدنى فعلا لمستويات لا تتعدى كونها "إقلاق راحة". وفي الوضع الحالي، نعم، يدعي حزب الله وحماس ومجموعات إسلامية أخرى بأن إسرائيل تنسحب في ظل إطلاق النار، وسيستمرون في نشر مثل هذه الادعاءات بصرف النظر عن الظروف التي يتم فيها الانسحاب. هم يفعلون ذلك بدافع حضاري متأصل في عقلية وطنية لشعب يرزح تحت الاحتلال وأيضا كوسيلة لإثبات جدواهم السياسية والعسكرية في عيون أتباعهم. ولكن إذا نظرنا ما وراء هذه الادعاءات، نرى أن هناك حد أدنى - يعود فضله لرئيس الوزراء شارون - من وقف إطلاق النار تم تثبيته بجهد كبير من السلطة الفلسطينية لمنع إطلاق النار على إسرائيليين أثناء الانسحاب. يتساءل نتنياهو أيضا في رسالته "بفصاحة":" ماذا نحصل مقابل استئصال عائلات من جذورها بأطفالها ومنازلها وقبورها ! " ويجيب هو نفسه بقوله: "سنحصل على قاعدة إرهاب إسلامية". انه الاحتلال الطويل الأمد والحياة البائسة لمعظم الفلسطينيين في غزة هما اللذان قد خلقا "قاعدة الإرهاب" التي يخشى نتنياهو من نشوءها. بالتأكيد، لا الكفاح الفلسطيني المسلح ولا مطالبة الفلسطينيين بمزيد من التنازلات الإقليمية ستنتهي بالضرورة مع الانسحاب من غزة، ولكن يجب أن يكون هناك بداية لنهايتها. وخلافا لسلفه عرفات، فان الرئيس الفلسطيني محمود عباس ملتزم بحل سلمي، وعلى إسرائيل أن تقوي ساعده لإعطاء السلام فرصة. إلى متى، سيد نتنياهو، يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يموتوا على مذبح السياسات الضالة مثل سياستكم التي لم تجلب سوى الموت والدمار ؟ سيكون لإسرائيل بخروج رعاياها من غزة أكثر حرية للتعامل مع الاستفزازات العنيفة بإيقاع أضرار جسيمة بالمسلحين في حالة استمرار العنف. يقول نتنياهو أيضا في رسالته بأن "المجتمع الدولي يتفهم أكثر فأكثر بأنه من المستحيل محاربة الإرهاب والهروب منه، حيث أن الخبرة المكثفة تدل على أن الإرهاب يقوي بذلك نفسه فقط ويطاردنا". لا أحد يقترح بأنه علينا الهروب من الإرهاب, ولكن الإرهاب لا ينتهي بمجرد قتل إرهابيين مزعومين. هذا النهج الذي اتبعته إدارة بوش منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) قد لاقى فشلا ذريعا. يجب علينا أن نعالج الأسباب الجذرية للإرهاب. والسبب الجذري للإرهاب الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي. أجل، لربما يعترض بعض الناس على ذلك. وأجل، فالمجموعات الفلسطينية المتطرفة مثل حماس تسعى جهارا لتدمير إسرائيل وترنو إلى استعادة جميع الأراضي المحتلة في حرب عام 1967 كمرحلة أولى لهذه النهاية. إنهم يعنون ما يقولون، وعلى القادة الإسرائيليين عدم الاستخفاف بتصريحاتهم هذه. ولكن مرة أخرى، ما دام ليس لديهم أي شيء يخسرونه، سيستمر هؤلاء بالقيام بمطالبات لا يمكن مساندتها. لقد سببت الانتفاضة الثانية التدمير الكامل للبنية التحتية الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية. وتبين استطلاعات الرأي، الواحد تلو الآخر، وبشدة، بأن أغلبية واضحة من الفلسطينيين تريد نهاية للصراع. لقد سئموا سفك الدماء ومن النظر إلى مستقبل بدون أمل. أعطهم شيئا ذو قيمة يخشون فقدانه – مثلا فرصة للنمو والازدهار والتعلم والبناء – وسترى بأن هؤلاء الناس سيحاربون بأنفسهم جماعاتهم المسلحة لأنهم يريدون العيش والازدهار. ولكن إذا اتضح عكس ذلك وقامت إسرائيل بتخليص نفسها من وصمة عار الاحتلال، تتمكن بعد ذلك أن تسير على أرضية أخلاقية صلبة وتتعامل مع أي اعتداء فلسطيني بطريقة قوية حازمة لا تدع مجالا للشك بأنه لن يكون هناك دولة فلسطينية أو سبيل لحياة فلسطينية تقام على قبور إسرائيليين. هذا هو الدرس الذي تعلمه المصريون والأردنيون والسوريون في الستينات والسبعينات والذي أنهى تسلل الإرهابيين إلى إسرائيل من أراضيهم. وما يميز أيضا نتنياهو في وضعه مصلحة الحزب فوق مصلحة الأمة ما ورد في رسالة استقالته من اتهامات تقول بأن " حكومة متوازنة (يعني الحكومة الحالية) التي تعكس إرادة الشعب في الانتخابات الأخيرة قد تحولت إلى حكومة تنفذ بصورة آلية سياسات تعارض مبادئ الليكود والتفويض الذي استلمناه من ناخبينا". صحيح أن أغلبية نسبية من حزب الليكود قد عارضت الانسحاب من غزة, ولكن الأغلبية العظمى من الإسرائيليين أيدت بعد ذلك الانسحاب ( 69 إلى 73 % حسب استطلاعات الرأي). لقد استخلص رئيس الوزراء شارون – الذي لا يستطيع أحد أن يتهمه بأنه أقل حماسا وطنيا من نتنياهو والذي يعتبر بحق الأب المؤسس للمستوطنات – بصورة نهائية ولكن صحيحة بأنه من المستحيل من وجهة النظر السكانية ومن النواحي السياسية والاقتصادية وبالتأكيد من الناحية الأمنية دعم الاحتلال وإبقائه وفي نفس الوقت أيضا الحفاظ على الهوية القومية لإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية. لقد خاض السيد شارون الانتخابات على أرضية دعت للسلام مقرونا بالأمن، ولا يستطيع أي عضو من حزب الليكود، بما في ذلك نتنياهو، أن يتوهم بأنه من الممكن ضمان السلام أو الأمن بدون تنازلات إقليمية رئيسية. لقد برهن شارون قدرته على إدارة شئون الدولة وعلى مرونة لا تصدّق في التعامل مع العاصفة السياسية التي أحدثتها خطة انسحابه من غزة. هل بإمكان نتنياهو أن يضاهيه في ذلك ؟ لربما بقي نتنياهو، كغيره من وزراء الليكود اللذين استقالوا من مناصبهم الوزارية، على ولائه لخط حزبه السياسي المتشدد، ولكن ذلك على حساب خداع الجمهور الإسرائيلي، لان هؤلاء الوزراء قد وضعوا إيديولوجيتهم الشخصية – التي لم يعد بالإمكان الدفاع عنها والمتمثلة بالدعوة لقيام دولة إسرائيل العظمى – فوق المصلحة الوطنية. ويناشد نتنياهو عند نهاية رسالته بالتمسك بالوطنية قائلا:" والآن وفي هذه الأيام التي أمامنا جميع أطراف الأمة والحكومة أحوج من أي وقت مضى للتحفظ والانضباط وتحمل المسئولية ". كم هي جوفاء وماكرة هذه الكلمات ! أي نوع من الانضباط والمسئولية يشير إليه السيد نتنياهو ؟! هل قصر النظر والهروب يرمزان إلى الانضباط وتحمل المسئولية ؟ لقد تحملت إسرائيل أكثر من حصتها من المعاناة والخسائر، وحان الوقت الآن للالتفاف حول قائد يستطيع سحبها من مستنقع الاحتلال. لا تستطيع شريحة صغيرة لا تمثل لربما أكثر من 17% من الشعب الإسرائيلي فرض إرادتها على الأغلبية. ولو كان نتنياهو وطنيا حقا، لأصغى لنداء الشعب، لصغيري وكبيري السن اللذين دفعوا بدمائهم الثمن، نفس الثمن الذي دفعته أيضا عائلته ولكن نتنياهو على ما يبدو قد نسي لأي هدف. لقد قدم الإسرائيليون التضحية النهائية للعيش في أمة حرة وديمقراطية. لم تخلق إسرائيل لتحكم شعوب أخرى أو تحتلهم لأنها بهذه العملية تفقد أهليتها لتكون وطنا وملجأ لليهود. ويختتم نتنياهو رسالته بقوله:" لست مستعدا لان أكون شريكا في تحرك غير مسئول يعرض أمن إسرائيل للخطر". يحق له أن يقول ذلك، فليس لنتنياهو أي فضل أو اعتبار لما يمكن أن يصبح يوما خطا فاصلا في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. إن استقالته قبل أيام معدودة فقط من الانسحاب لا تضع فقط تساؤلات حول استقامته الشخصية بل وأيضا حول نواياه وخططه الماكرة. لقد لخصت هاآرتس (Haaretz)، أشهر الصحف الإسرائيلية اليومية، في افتتاحية لها موضوع الاستقالة بجدارة قائلة بأن الاستقالة "تضعه أخيرا في المكان المناسب له كزعيم الجناح اليميني المتطرف في إسرائيل…..ولا يمكن قبوله جماهيريا كمرشح ملائم لمنصب رئيس الوزراء في المستقبل".