كبش فداء آخــــر ؟
يطرح العدد المتزايد للتصادمات ما بين الإدارة الأمريكية والنظام السوري أسئلة جادة حول نوايا إدارة بوش والحكمة من وراء أعمالها. ويبدو أن هذا التصعيد على الجانب الأمريكي لا تمليه كليا الضرورة الملحة حول موضوع تسلل ثوار أجانب من سوريا إلى العراق، بل إن الدافع من وراء ذلك هو رغبة الإدارة في تغيير النظام الحاكم في دمشق. ويبيّن هذا الاهتمام في تغيير النظام سبب اختيار البيت الأبيض تهديد أمة أخرى مع المجازفة بتصعيد الحرب في العراق وتوريط ليس فقط سوريا ولكن دولا أخرى في المنطقة بدلا من إقناع سوريا بدعم جهود الإدارة الأمريكية في العراق بعرض مشجّعات مادية عليها. ليس من الصعب تقديم بحث كامل حول مساندة سوريا ماضيا وحاضرا لمجموعات متطرفة كانت تقوم بأعمال إرهابية في إسرائيل ولبنان والعراق. قد تنكر سوريا بشدة مثل هذا الدور، غير أن أية مراجعة جادة لتصرفات سوريا في الماضي والملاذ الذي كانت تعرضه سوريا لهذه المجموعات وما زالت تؤكد صحة هذا الادعاء. هذا لا ينفي بأن سوريا قد تعاونت أيضا في الفترة ما بعد صدام حسين مع المخابرات الأمريكية وأثبتت باعتراف وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) بأنها ذات فائدة. ومرة أخرى عرض السوريون على الولايات المتحدة فتح حوار مفيد بين البلدين، غير أن هذا العرض قد رفض من قبل إدارة أمريكية مصممة على تغيير النظام في سوريا. إن نوايا الإدارة الأمريكية هذه، مقرونة بنقد علني ومستمر من واشنطن، هو ما دفع دمشق قبل بضعة أشهر لإنهاء جميع أنواع التعاون الأمني ولاستخباراتي مع الولايات المتحدة. وفيما تظهر الإدارة الأمريكية هدفها علانية وبكل صراحة لتغيير النظام تتجه لسوريا طالبة يد المساعدة لها في العراق، هذا مع العلم أنه في حالة نجاح الولايات المتحدة في العراق سيكون هدفها التالي الحكومة السورية. وبالرغم أنه من السذاجة الاعتقاد بأن يقوم أي بلد على وجه هذه الكرة الأرضية بالمساهمة في قتل نفسه بنفسه أو التنازل عن سيادته طوعا، فان هذه الإدارة لا تتطلع لا لتقرب منطقي لسوريا ولا لرأي سليم فيما يخص سياستها تجاه هذا البلد. وبعد أن قامت الإدارة الأمريكية وبصورة منهجية منظمة بتضليل الرأي العام الأمريكي حول الحقيقة المأساوية في العراق، فإنها تجد الآن نفسها بحاجة لاختراع أزمة دولية أخرى لصرف الانتباه عن الطبيعة الحقيقية لمحنتها في العراق التي تتصدر اهتمام العالم بصورة متزايدة. صحيح أن هناك تسلل لثوار أجانب من سوريا إلى العراق، وهناك أيضا تسلل من إيران. ولكن إلى أي مدى ستستمر الإدارة الأمريكية في إلقاء اللوم على الثوار الأجانب لإخفاقها في إخماد الثورة في العراق في حين أنه في الواقع – استنادا إلى تقارير الاستخبارات الأمريكية – لا يشكل هؤلاء الثوار المتسللون أكثر من نسبة 4 إلى 6 بالمائة فقط من العدد الإجمالي للثوار في العراق ؟ وبالرغم من أن المقاتلين الأجانب هم من يشكل على الأرجح ما يسمى "القنابل البشرية" ويسبّبون بذلك أضرارا متفاوتة، فانه من الأسهل دوما إلقاء اللوم على المقاتلين الأجانب فيما يتعلق بقوة الثورة بدلا من وضع وتطوير استراتيجيات جديدة وفعالة لمقاومة الثورة كما اقترح ذلك ضابط سابق في الاستخبارات الأمريكية أوردته على لسانه حديثا جريدة " النيويورك تايمز". وفي مقابلة أخرى أجريت في اليوم الثاني من شهر أكتوبر الجاري مع الجنرال جون أبي زيد، آمر القيادة المركزية للجيش الأمريكي في المنطقة في برنامج " قابل الصحافة "(Meet the Press)الذي بثته محطة ال "إن.بي.سي" (NBC) قال بأنه أدرك ضرورة "تجنب تضخيم مشكلة المقاتلين الأجانب". وحقيقة فان الأغلبية العظمى للثوار هم من أفراد الجيش العراقي السابق اللذين استغنت عن خدماتهم الإدارة الأمريكية فور سقوط بغداد، خالقة بذلك عدوا لدودا لها، إذ يشكل هؤلاء الجنود والضباط مع أفراد أسرهم ما يزيد عن مليوني سنّي عراقي أصبحوا الآن بدون عمل وبدون مستقبل. هؤلاء هم اللذين يشكلون صلب الثورة. لهذه الأسباب، يجب على الإدارة الأمريكية نزع فتيل الصراع مع سوريا لفتح حوار مع دمشق. قد تؤثر التهديدات على سوريا حتى نقطة معينة فقط، غير أن الرئيس بشار الأسد لن يبقى يوما واحدا في السلطة إذا انصاع للضغط الأمريكي خصوصا بعد انسحابه من لبنان وخسارة ماء وجهه من جراء هذا الانسحاب. ولكن إذا استمرت نية الإدارة الأمريكية على الإطاحة بالرئيس الأسد، فان تخليه عن الحكم لن يعطي الإدارة الأمريكية التغيير الذي تتمناه. قد يكون خلف الرئيس الأسد أذكى وذو خبرة أوسع وبالتأكيد أكثر جرأة أيضا في ضمان قاعدة سلطته لأنه لا يتمكن إلا قائد قوي من حشد ودعم وتأييد حزب البعث السوري الذي يشكل الكيان العسكري للبلد. يبدو العمل مع حكومة سوريا الحالية أمرا شبه مستحيل على حد مزاعم الإدارة الأمريكية.غير أن هذه الإدارة تواصل التفاوض مباشرة وبوساطة مع كثير من الأنظمة "الماسخة" قليلة الشأن، بما في ذلك أنظمة الحكم في كوريا الشمالية وإيران، وكذلك مع حكومات ديكتاتورية وثيوقراطية، وليس هناك سببا واحدا لمعاملة سوريا خلافا لذلك، خصوصا وأنه بإمكان دمشق أن تكون ذات فائدة كبيرة للولايات المتحدة في الوقت الحاضر على الأقل. إن خيارات الإدارة الأمريكية ليست مقصورة فقط على عزل سوريا دوبلماسيا كما تطالب بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، أو تطبيق أساليب أكثر ضغطا وفعالية كما تقترحها وزارة الدفاع. ولكن سوريا، بالرغم من ذلك كله، تتطلع لتطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة لان الحكومة السورية تعلم أن الكثير من التقدم والتطور الاقتصادي لسوريا، إضافة إلى اعتبارات أمنية وطنية، وبالتأكيد أملها أيضا في استرجاع مرتفعات الجولان، تعتمد ببساطة على إرادة الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدة سوريا في هذه القضايا الجوهرية. ولذا ترنو سوريا إلى أن تبدأ من جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية حوارا مفتوحا يخدم المصالح المتبادلة للطرفين الأمريكي والسوري. وتجدر الإشارة بهذا الخصوص إلى أن علاقات سوريا مع المجموعات المتطرفة التي ذكرت آنفا – والتي تنكرها سوريا بالطبع – ليست إلا زواج مصلحة. إنهم يراهنون على أن سوريا ستستجيب بسرور إلى أي عرض لإقامة علاقات بناءة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لذا، وبدلا من اللجوء إلى أساليب فسرية إلزامية لإجبار دمشق على الرضوخ، وهي سياسة من المؤكد أنها سترتد سلبا على ممارسيها، يجب بالأحرى على الإدارة الأمريكية التخلي أولا عن فكرة تغيير النظام واستعمال وسائل تشجيعية لحث سوريا على مساندة جهودها في العراق. قد تقوم الإدارة الأمريكية – مندفعة بنجاحها في لبنان – بخطأ فادح إذا حاولت دفع السوريين باتجاه نقطة الانكسار عن طريق القيام بضربات عسكرية داخل سوريا كما ينوّه بذلك بعض المسئولين في الإدارة الأمريكية. ستكون عواقب صراع دموي غير مقصود مع سوريا أشد وأعنف بكثير مما قد تتصوره هذه الإدارة إذا قورنت بالعراق، وقد يشكل الصراع مع سوريا حربا إقليمية تتورط فيها إسرائيل ولبنان وتقضي على أي أمل متبق أن يرى الشرق الأوسط الديمقراطية والاستقرار في المستقبل المنظور.