لمنع الإبادة الجماعية في العراق
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الشئون الدولية بجامعة نيويورك
ويلقي محاضرات حول المفاوضات الدولية ودراسات الشرق الأوسط
لمنع حدوث الإبادة الجماعية في العراق على مستوى الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا/إفريقيا ما بين قبيلتي التوتسيس والهوتوس, يجب على إدارة بوش أن تتحرّك بسرعة لتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات رئيسية بحكم ذاتي وتربط بينها روابط فيدرالية مرنة. لن تتوقف الثورة ولا المذابح الطائفية إلاّ إذا تمكّن السّنة من حكم أنفسهم. ولذا على إدارة بوش أن تدفع بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ باتجاه هذا الحل قبل فوات الأوان.
ولإنهاء الملحمة, يجب على إدارة بوش أن تعالج الأسباب الجذرية التي تكمن وراء التصعيد اللامتناهي للحرب الأهلية التي عصفت الآن فعلاً بالعراق. وكلما أسرعت الإدارة في إيقاف الدّفع نحو ديمقراطية على النمط الغربي وتحاول في هذا السياق الإبقاء على ما يسمّى "حكومة الوحدة الوطنية الديمقراطية", كلما أسرعت أكثر نحو إيقاف الوصول إلى حافة الهاوية. أضف إلى ذلك, يجب أن يكون الآن واضحاً لإدارة بوش بأنه لا يوجد حلّ عسكري. لا تستطيع لا القوات العراقية ولا القوات الأمريكية إنهاء الثورة أو نزع سلاح المليشيات المتعددة. سيستمر العنف في التأجج لأنّ الأمر أصبح بالنسبة للسنة مسألة البقاء على قيد الحياة. إنّ تاريخ العراق والعلاقة ما بين الفصائل الرئيسية الثلاثة وهي السنة والشيعة والأكراد تجعل من خيار خلق الكيانات الثلاثة المنفصلة الخيار الوحيد الممكن الذي سينهي العنف. وفيما يلي الأسباب:
أولاً: يسبق الصراع القائم حاليا تاريخ من الكراهية والعداء ما بين السنّة والشيعة في العراق ً. إنه يعود إلى قرون من الزمن الغابر ولكنه زاد حدّة باستمرار بعد إنشاء العراق الحديث في عام 1922. لقد عانت الشيعة قمعاً لا يتصّوره عقل وانتهاكات فظيعة على يد الأقلية السنية, خصوصاً تحت حكم صدام حسين الجائر. لقد أصبح الثأر والعقاب راسخين في حضارة كلتا الطائفتين وليس هناك عمليّاً شيئاً تستطيع الإدارة تغييره.
وثانياً: لم تتقبّل السنة – التي استلمت السلطة في العراق منذ اليوم الأول لتأسيسه- حقيقة أنّها أقليّة وقد لا تعود أبداً إلى السلطة مرّة أخرى. والجلوس في حكومة ائتلافية تستطيع الأغلبية الشيعيّة فيها من تمرير أي قانون تريده يجعل السنّة يشعرون بالاقتراب من نهايتهم السياسية. سيخرجون من الحكومة بشكل
نهائي عاجلاً أم آجلاً بصرف النظر عن الضغط الذي قد تمارسه إدارة بوش للإبقاء على الحكومة, فالائتلاف العراقي الحالي لن يدوم.
وثالثاً: إن القتل بدون تمييز والوحشية التي يوقعها كل طرف بالطرف الآخر قد دمّرت في الواقع أي أثر للمدنية والثقة بين الطرفين. إنّ القتال من أجل البقاء بحد ذاته قد أصبح الدافع الرئيسي ولذا فكل الوسائل لضمان البقاء, خصوصاً بالنسبة للسنة, قد أصبحت مبرّرة. علاوة على ذلك, وخشية على حياتهم فقد أصبح الفصل الطائفي الذي فرض نفسه بنفسه أمراً روتينياً في مناطق مختلطة في بغداد وفي أماكن أخرى حيث هاجر مئات الألوف إلى مناطق أكثر أمناً للعيش مع إخوانهم أتباع نفس الطائفة خالقين بذلك فعلياً ما يشبه الكانتونات جميع سكانها إمّا سنّة أو شيعة.
إنّ العراق مقسّم في الواقع حالياً حيث يتمتع الأكراد بحكم ذاتي كامل خلال الخمسة عشر سنة الماضية وهم لن يتخلوا في أية حال عمّا كسبوه بالدم. وبالرّغم من كونهم يشكلون الأغلبية, فإن الشيعة يتحركون نحو إقامة مناطقهم المستقلة الخاصّة بهم وهم مصمّمون على التّمسّك بالثروة النفطية الموجودة في باطن أراضيهم في الجنوب. وفي جميع الأحوال, فإن الدستور العراقي يسمح بخلق مناطق مستقلة مانحاً الفرصة لكل مجموعة أن تنفذ قوانينها الخاصة وتبني مؤسساتها الخاصّة بها أيضاً.
إنّ الطريقة الوحيدة التي سيقبل بها السنّة بوضعهم كأقلية هي إذا تمكنوا من حكم أنفسهم مع حصولهم على حصّة عادلة ومضمونة من النفط أو من عائداته. إنّ وجود كيان سني قابل اقتصادياً للحياة ومستقلّ سياسياً هو فقط ما سيقدم للسنة الضمانات التي يحتاجونها لوقف القتال. عدا ذلك, ومهما بدت فرص الفوز قاتمة, فإنهم سيستمرون في قتال الشيعة لأنهم لا يرون خياراً آخراً قابلاً للحياة. إنّ الترتيبات السياسية الاصطناعية التي قامت وتقوم بها إدارة بوش لضمّ السنّة سياسياً لم تفعل شيئاً لتغيير النزعة النفسيّة ما بين الشيعة والسنّة والتي تربّت عقوداً من الزمن, إن لم يكن قرونا, على الفظاظة والعداء وعدم الثّقة.
وفي الوقت الذي تفكر فيه إدارة بوش بإجراءات جديدة في العراق, عليها أن تدرك بأن العراق قد تحطّم على أسس خاطئة كانت دوماً موجودة ولكن الإدارة كانت تتجاهلها تماماً. والمذبحة القائمة الآن لا تعكس فقط الحالة المأساوية للأمور ولكن من المفروض أن تدلّ أيضاً على المدى الذي سيسوء فيه الوضع أكثر إذا ما تمسكت الإدارة بعناد بفكرة أنّه قد يكون هناك مخرجاً آخر أو نتيجة مختلفة.
قد لا يقبل كل السنيّين بهذه الشريحة من "كعكة" بلادهم لحلّ جميع الخلافات القائمة, ولكن بالإمكان إفهامهم مرّة أخرى بحفر المصائد التي قد يقعون فيها نتيجة العنف الذي لا ينتهي. الجيش والشرطة وجميع قوات الأمن الداخلي الأخرى مسيطر عليها من قبل الشيعة ومسنودة من الداخل والخارج بالعديد من المليشيات الشيعيّة التي ستجعل من ترجيع حظوظ الماضي للسنّة أمراً بعيد الاحتمال جداً, ولكن تقسيم العراق مع وجود روابط اتحادية مرنة سيوفر للسنّة وللشيعة نفس الوضع القائم حالياً للأكراد وهو فرصة أن يديروا شئون حياتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة والتعاون معاً تحت مظلة الاتحاد لأنّ كل شكل من أشكال التعاون سيفيدهم مستقبلاً.
لقد تمّ تحذير إدارة بوش مراراً وتكراراً قبل وبعد الحرب بالنتائج الغير مقصودة لحرب العراق ولكنها لم تكترث للأمر وبقيت متشبثّة بسياسة فاشلة. لقد تقسّم العراق عملياً ومذابح جماعية على نطاق لا يتصوره العقل تلوح في الأفق, وعلى إدارة بوش أن تتصرّف فوراً لمنع ذلك من الحدوث قبل فوات الأوان.