تجاوز المفاهيم الخاطئة
دافعت في مقالة سابقة عن فكري بأن على إسرائيل والإخوان المسلمين في مصر قبول حقيقة أنّ الطرفين يعيشان في نفس الجوار وسيستمران كذلك لأجلٍ غير مسمى، أي اعتراف كل منهما بوجود الآخر هو سبيل لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتحسين للعلاقات الإسرائيلية – المصرية. ومع ذلك، فما هو أعمق من قبول الواقع وما وراء إيديولوجية الإخوان المسلمين هو الحاجة لتقارب ما بين إسرائيل والعالم العربي الإسلامي الذي يجب أن يعتمد لا على الضرورة بل على رغبة التعايش ما بين المسلمين واليهود.
يُعتبر القرآن المصدر الأساسي الذي يثبت بأن المتطرفين الإسلاميين يستمدون على هواهم تفسيرات نصيّة خاطئة وذلك لتبرير فكرة الجهاد الأبدي والمحتوم ما بين المسلمين واليهود. هذا يعني، بأنه ليس بمقدور المصالحة الدينية ما بين الجانبين أن تحدث ما لم تتم تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على أساس حلّ الدولتين، وهو حلّ يتطلب بالضرورة إنهاء الاحتلال الذي قدّم الأساس المنطقي والمبرّر للجهاد ضد إسرائيل.
على إسرائيل والعالم العربي الإسلامي أن يتعايشا بسلام، فالتعايش السلمي ليس خياراً والبديل سيطيل فقط النزاع وسفك الدماء بين الطرفين. مثال حيّ على ذلك هو الوضع في القدس والخليل حيث المسلمين واليهود متلازمين من الناحية الدينية في نفس المكان ويعيشون جنباً إلى جنب ولا يستطيعون إضمار فكرة استبعاد طرف للطرف الآخر أو التعدي على حرمة المقدسات بدون تكبّد عواقب لا تُحمد عقباها. ويقول بعض المسلمين بأنّ مثل هذا التعايش السلمي ناتج عن الضرورة الملحة وليس عن الخيار الحرّ. ولكن لاحظ أن حدث مهم مثل الإسراء والمعراج الذي يتضمن صلاة النبي محمد مع جميع الأنبياء السابقين، بما فيهم إبراهيم وموسى في الجامع الأقصى بالقدس، يدل ضمناً على طبيعة الرسالة السماوية الشاملة.
وإذا أدلى الإسلاميّون الأصوليّون والنشطاء الإسرائيليّون المتطرّفون من الجناح اليميني بأن الإسلام الحقيقي من حيث الفطرة معادٍ لليهودية وبحاجة إلى مزيد من الإقناع بأن الأمر ليس كذلك، عليهم تجاوز مفاهيمهم الخاطئة والتمعن بعمق في القرآن الكريم ليجدوا بأن التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين أمر طبيعي بالنسبة لتعاليم الإسلام. هناك نصوص قرآنية لصالح التعايش السلمي بين المذهبين، أمّا التفسيرات الحرفيّة التي تؤخذ من سياقٍ معين لها قد تقوّض العلاقات كما فعلت في الماضي بين المسلمين واليهود. ومن المهم أنّ الصورة العريضة التي يقدمها القرآن تعترف ضمناً باليهود كأمة جديرة بالاحترام.
وبالنسبة للمسلمين، فإن رسالة الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) هي امتداد واستمرار للرسالة السماوية التي أنزلها الله عن طريق النبي موسى وغيره من الأنبياء الوارد ذكرهم في الكتب السماوية (أنظر القرآن الكريم، سورة البقرة: 285) والذي يعتبر الإيمان بهم أحد أسس الإسلام (سورة البقرة: 136). ويشار ليس فقط لليهود، بل أيضاً للمسيحيين (النصارى) في أكثر من سورة على أنهم من أهل الكتاب، ويذكّر القرآن الكريم المسلمين وباستمرار بأن من "بين" أهل الكتاب من "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين" (سورة آل عمران: 113 – 115). وتعبير "من بين" هو تعبير مهمّ يغفل عنه كثير من قارئي القرآن في الوقت الحاضر. فالسّنة – سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم – تعلن بأن المسلمين واليهود من أمة واحدة حسبما جاء في صحيفة المدينة عام 622 ميلاديّة والتي أبرمت بين المسلمين وسكان "يثرب" (المدينة المنورة). القرآن الكريم ليس بأي حالٍ من الأحوال مصدراً تختار منه ما تشاء. إنه يمثّل تعاليم متماسكة مع بعضها البعض تدعو للسلام كما تدعو المؤمنين لمقاومة جميع أشكال الظلم والغبن، بما في ذلك استخدام القوة إذا دعت الضرورة لذلك، كما يفعل ذلك ذلك أيضاً العهدان القديم والجديد.
وبالرغم من النصوص القرآنية التي تسمح للمسلمين القتال في الدفاع عن أنفسهم، فإن القرآن يحذّر المسلمين من الذهاب إلى ما هو أبعد من الدفاع عن أنفسهم، إي الإعتداء على الآخرين. ويسمح القرآن الكريم للمسلمين بالدفاع ضد من يقاتلوهم بقوله في الآية الكريمة: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"(سورة البقرة: 194). ولهذا السبب، فبمقتضى التعاليم الإسلامية يستطيع الفلسطينيون وغيرهم من المسلمين تبرير مقاومتهم المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومن هذا المنظور، فإن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هو فقط القادر على جعل السلام ممكناً ومرغوباً فيه. إذا أدرك المسلمون حسب التعاليم الإسلامية بأنّ عدوهم راغب في السلام وبوقف جميع أشكال الاعتداء، فإن الإسلام يأمر المسلمين بقبول رغبة عدوهم بقوله:"فإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله." (سورة الأنفال: 61).
قد يجد المتطرفون الإسلاميون في الاستشهاد بآيات قرآنية أمراً سهلاً لتبرير عمليات إرهابية ضد اليهود. ولكن اقتراف أعمال إرهابية باسم الإسلام – وآخرها القتل العشوائي في فرنسا لصبيين يهوديين ووالدهما وطفل يهودي آخر – هي في الواقع إهانة للتعاليم الإسلامية التي تعتبر جميع أشكال الحياة مقدسة وتدين إرهاب وقتل الناس الأبرياء حتى في أوقات الحرب. كما وأنّ الإحتلال الإسرائيلي المستمرّ وإخضاع الفلسطينيين لممارسات يومية مهينة لا تخدم الصورة الحقيقية للتعاليم اليهودية. لم يُقصد بالاعتقاد الديني، أكان يهودياً، مسيحياً أم مسلماً، تقديم تغطية لأي شكل من أشكال الظلم. بل على العكس من ذلك، فإن الديانات السماوية الثلاث تدعو بقوة للأخوة والعدل والسلام.
هناك العديد من الإسرائيليين المتشككين الذين لا يعتقدون بأن العالم الإسلامي العاجز عن العيش بسلامٍ مع نفسه (بالإشارة إلى الصراع المستمر بين السنّة والشيعة) سيقبل إسرائيل كدولة يهودية. هؤلاء يشيرون إلى ذبح المسلمين بأيدي مسلمين في السودان والعراق وليبيا والآن في سوريا، الأمر الذي – من وجهة نظرهم – يوحي بشدة بأن العنف متأصّل في الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية. أنا شخصياً لا أؤيد هذا الرأي لأربعة أسباب: أ) تعاليم القرآن تدعو وبإصرار إلى العكس. ب) لا العنف ولا التطرف من المتلازمات الإسلامية (ولكن راجع التاريخ الأوروبي من عند محاكم التفتيش حتى العصر الحديث). ج) لقد تغيّر الوقت والظروف بصحوة الشباب العربي والتركيز في نفس الوقت على معاناتهم في ظلّ الأنظمة الاستبدادية بحيث لم يعد ينجرّون إلى ذريعة أن إسرائيل هي المتهمة الأولى وراء معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و د) لقد توصّل العالم الإسلامي إلى قناعة أن إسرائيل حقيقة ملموسة باستثناء فصيلٍ ضئيل من المتطرفين الإسلاميين المناهضين لإسرائيل مقارنة بسكان العالم الإسلامي الذي وصل إلى 1.4 مليار نسمة.
وبالمقابل، لتتمكن إسرائيل من العيش بسلام وسط العالم العربي عليها أيضاً أن تكيّف نفسها مع رياح التغيير السياسي والواقع الفلسطيني وذلك بإزالة وصمة الاحتلال عنها. إسرائيل قوية بقدرٍ كافٍ للمخاطرة بوضع زعم الدول العربية تحت الاختبار بأنها تبحث عن سلام ٍ فقط في حالة التوصل إلى حلّ عادل ومقبول من الطرفين للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. والإدعاء في الواقع بأن العلاقة بين إسرائيل والدول العربية التي تعتمد الإسلام شريعة لها علاقة لا تقبل المصالحة هو ادعاء منافٍ للواقع، وعلى إسرائيل في هذا السياق أن تتذكر بأن المملكة العربية السعودية – وهي أشد الدول الإسلامية تحفظاً – هي التي قدّمت مبادرة السلام العربية في عام 2002 وأن إسرائيل – بعد أكثر من عقدٍ من إعلان هذه المبادرة – هي التي ما زالت ترفض تبنيها.
وأخيراً، فإن هناك حقيقتان كاملتان يعتبر تحقيقهما في نظري أمراً لا مفر من. الأولى هي أن نهضة القوى الإسلامية في الدول العربية قد أخذت مجراها في تونس ومصر، وعلى الأرجح ستأخذ مكانتها أيضاً في ليبيا وسوريا وستمتد بالتأكيد إلى دول عربية أخرى. والحقيقة الثانية هي أن إسرائيل ستحافظ على قدرتها في الدفاع عن نفسها وستطلق أية أسلحة بحوزتها ضد أولئك الذين يشكّلون خطراً على وجودها مثل إيران والتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
ولتحرير الرأي اليهودي والعربي – الإسلامي من مفاهيمهما الخاطئة عن بعضهما البعض، على علماء الدين اليهود والمسلمين الشروع في حوارٍ مفتوح. بإمكانهم الآن جميعاً استخدام وسائل حديثة للاتصال لكي يروا ويسمعوا "كيف" و"لماذا" يجب على الطرفين قبول ما هو محتوم وتسوية جميع خلافاتهم بالتوافق، بما في ذلك مستقبل القدس، وفي نفس الوقت استخدام التعاليم الدينية لتبرير مواقفهم هذه.
بالفعل، ما هو مطلوب هنا هو تغيير الروايات والقصص الشعبية العامة قبل أن نتمكّن من تغيير المفاهيم حول بعضنا البعض. وهذا مع مرور الوقت سيمد صنّاع السياسة، أكانوا دينيين أم علمانيين. بالتغطية السياسية التي يحتاجونها لمتابعة المصالحة. والسؤال الآن هو كم من الكرب والشكّ يجب أن تتحمله أو تمر به إسرائيل والعالم العربي الإسلامي لقبول هذه الحقيقة التي لا مفر منها.