تركيا وإسرائيل – حان الآن وقت المصالحة
أعتقد جازما ً بأنّ الوقت مناسب الآن لتركيا وإسرائيل لإصلاح علاقتهما الثنائيّة المهمّة جدّا ً التي قد عانت من تدهور ٍ شديد منذ عام 2010. فبالنظر إلى الإضطرابات والتقلبات التي تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط نتيجة الربيع العربي والأزمة المتفاقمة المحفوفة بالمخاطر في سوريا والمخاوف المتزايدة حول البرنامج النووي الإيراني والتوسّع الأخير في حكومة نتنياهو، وأخذا ً أيضا ً بعين الإعتبار أنّ مستوى العلاقات التجاريّة الثنائيّة بين تركيا وإسرائيل في صعود ٍ مستمرّ ويبقى غير متأثرا ً بهذه التطورات، كلّ ذلك يوحي بأن إعادة علاقتهما الثنائيّة الآن سيخدم المصالح الإستراتيجيّة الوطنيّة لكلّ من الحليفين السابقين. والسؤال هو: هل ستدرك إسرائيل وتركيا المكاسب الكبيرة التي سيجنيها كلا البلدين عند قيامهما بإزالة أية عوائق في طريق تقاربهما، عالمين بأن التعاون الكامل في هذا الوقت هي قضية مركزية للاستقرار الإقليمي الذي يؤثر مباشرة على مخاوفهما الأمنية الوطنية؟
إضافة إلى تطورات مهمة أخرى، لربما اخطرها في الوقت الحاضر هي قضية الثورة في سوريا التي اتخذت تركيا حيالها موقفاً قوياً مبنياً على مبدأ ضد المذبحة المستمرة التي يقوم بها نظام الأسد. لقد صرّح رئيس الوزراء التركي طيب أوردوغان بوضوح بأن على بشار الأسد وزمرته التخلي عن السلطة لكي تنتهي الأزمة. تركيا تشترك مع سوريا بحدود يزيد طولها عن 800 كم (حوالي 510 ميل) ومتورطة كثيراً في سوريا حيث أنها مستمرة في توفير المساعدة الإنسانية وحماية اللاجئين واستضافة المجلس الوطني السوري الذي يمثل المعارضة الرئيسية لنظام الأسد. وإسرائيل من جانبها قد منعت حدوث "حريق" أكبر في المنطقة بمراقبة الوضع بعناية وبهدوء والامتناع عن اتخاذ أي إجراء استفزازي للحفاظ على الهدوء النسبي الذي بدوره منح تركيا الحيّز الضروري للقيام بدور الوسيط الرئيسي القوي في معارضة الأسد بتفويض غير مباشر حتى من جامعة الدول العربية. سيكون للنظام السياسي الجديد الذي سيبرز في سوريا تأثيراً هائلاً على كلا البلدين، إسرائيل وتركيا. فلكون البلدين مجاورين لسوريا لكلاهما مصالح وطنية فريدة في التعامل مع سوريا ما بعد الأسد وذلك بطريقة تضمن الاستقرار الإقليمي وتعزز مصالحهما الاستراتيجية والأمنية قصيرة وبعيدة الأمد.
أضف إلى ذلك، فإن الإضطراب الإقليمي الشامل الناتج عن الربيع العربي قد حوّل بصورة جذرية علاقات القوى من الوضع الذي كانت فيه. هناك تخفيض ملحوظ في العلاقات الثنائيّة ما بين إسرائيل ومصر التي كانت عامود الإستقرار الإقليمي منذ التوقيع على اتفاقيّات كامب ديفيد في عام 1979 ونمت بشد في نفس الوقت مكانة تركيا في المنطقة نظرا ً لشعبيّة رئيس الوزراء التركي طيّب أردوغان العالية من ناحية وموقفه من سوريا ومن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من الناحية الأخرى. لقد خفف موقف تركيا القوي حيال سوريا بشكل ٍ خاص من الإنطباع بأن تركيا تفضّل الإسلاميين وبيّنت للعالم على أنها قادرة على اتخاذ أسلوبا ً أكثر توازنا ً، الأمر الذي سكّن بعض مخاوف إسرائيل السابقة. ونتيجة لذلك برزت تركيا كمحاور جذّاب ونموذج للعالم العربي في حين تعمّقت عزلة إسرائيل. وتتطلّب حالة عدم الإستقرار الإقليمي المستمرّة أن يسعى البلدان لشراكة استراتيجيّة مجدّدة لمعالجة طبيعة ثورة المنطقة التي لا يمكن التنبّؤ بها.
لقد زاد موقف إسرائيل المتشدّد من البرنامج النووي الإيراني وبشكل جذري من التوتّر الإقليمي في الوقت الذي تستمرّ فيه القوى الدوليّة في العمل نحو ايجاد حلّ سلمي لطموحات إيران النوويّة. وما دام هناك صراع مستمرّ بين إسرائيل وإيران بإمكان تركيا – وهي المعنيّة بالمثل ببرنامج إيران النووي – أن تلعب دورا ً مهمّا ً لنزع فتيل التوتّر. وبالرغم من أنّ هناك توتّر متزايد بين أنقرة وطهران حول مصير حكومة الأسد، غير أنّ تركيا ما زالت على علاقة مع إيران وتتمتّع ببعض النفوذ وقادرة على ممارسة درجة من الضغط على طهران لإبداء مرونة أكثر بخصوص المفاوضات الجارية بين إيران والدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن + ألمانيا في بغداد التي بدأت يوم 23 أيار (مايو) الجاري. وتبدي تركيا مقاومة شديدة ضد تنفيذ عقوبات على إيران، وهذا موقف مضادّ لموقف إسرائيل المتشدّد. وبما أنّ تركيا تخشى احتمال هجوم إسرائيلي على منشآت إيران النوويّة وقد تسعى حتما ً لمنع ذلك، يستدلّ بأنّ للبلدين – إسرائيل وتركيا – مصالح مشتركة في الشروع في حوار ٍ بنّاء بينهما ممّا قد يخفف الإحتكاك الإقليمي بالنسبة لبرنامج إيران النووي ويعود بالفائدة الكبيرة لكليهما.
تبقى – على أية حال – الخلافات القائمة حاليّا ً بين تركيا وإسرائيل جديّة ولكن من الممكن تحسينها بشرط قيام الجانبين بوضع الإنفعالات جانبا ً والتركيز بدلا ً من ذلك على الصّورة الأكبر في أوقات ٍ تتغيّر بسرعة ومشحونة بمخاطر لا يمكن التنبّؤ بعواقبها. لقد اتخذت تركيا ولأسباب ٍ وجيهة موقفا ً متشدّدا ً جدّا ً ضد برنامج الإستيطان الإسرائيلي، وبالأخصّ في ضوء القرار الأخير الذي اتخذته حكومة نتنياهو لشرعنة ثلاث مستوطنات غير شرعيّة في الضفّة الغربيّة بأثر رجعي. واستمرّت تركيا في انتقاد السياسات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة وحصار غزّة. أضف إلى ذلك، فقد وقفت تركيا حائلا ً ضد مشاركة إسرائيل في اجتماع القمّة لدول حلف الشمال الأطلسي (الناتو) المنعقد في شيكاغو يوم 20 أيّار (مايو) الجاري وكذلك مجموعة الحوار الشرق أوسطيّة. كلا الرفضين مرتبط برفض إسرائيل تقديم اعتذار علني عن حادثة أسطول كسر حصار غزّة التي قتل فيها ثمانية مواطنين أتراك ومواطن تركي – أمريكي بنيران فرقة عسكريّة إسرائيليّة.
وفي الوقت الذي تجنّبت فيه إسرائيل فعل أو قول أيّ شيء استفزازي ضدّ تركيا في الأشهر الأخيرة، ما زال هناك رواسب من الإستياء ضدّ حكومة أردوغان التي لا تنفكّ عن انتقاد إسرائيل وبشدّة كلّما أتيحت لها الفرصة. لإسرائيل بالطبع نصيبها من الأخطاء ولكنها تحاول أيضا ً إنهاء ملفّ حادث سفينة "مرمرة" المحزن لكي تستأنف تحالفها مع بلد ٍ يتمتّع الآن بنفوذ ٍ أكبر ويعتبر حليف مقرّب من الولايات المتحدة الأمريكيّة وعضو قويّ في حلف الناتو وجارة لألدّ أعداء إسرائيل الثلاث: سوريا، لبنان وإيران. وهناك شعور ٌ متنام ٍ بأن كلا الجانبين يريد الحفاظ على إمكانيّة إعادة علاقاتهما التي كانت قائمة ً قبل الإنقطاع الدبلماسي بينهما. وبهذا الخصوص تحثّ الولايات المتحدة كلا الطرفين على التحرّك قدما ً نحو تسوية خلافاتهما حيث أنّ استقرار المنطقة مستقبلا ً يعتمد بالدرجة الأولى على التعاون الكامل بين أقوى بلدين في المنطقة.
وممّا قد يشجّع التقارب أكثر بين البلدين هي حقيقة أنّه بالرغم من تقليص العلاقات الدوبلماسيّة وعمليّات التبادل العسكري والسياحة من إسرائيل إلى تركيا لمستويات منخفضة جدّا ً لم يسبق التوصّل لها بين البلدين، غير أنّ العلاقات التجاريّة بينهما قد وصلت – عكس ذلك – في الفترة ما بين 2011 و 2012 إلى مستويات جديدة. أضف إلى ذلك، هناك مستوى ً هائل من التعاون الفني، خصوصا ً في مجال الكيمياء الحيويّة. هذا وما زال رجال الأعمال الأتراك يرون في إسرائيل ليس فقط بلدا ً تجاريّا ً فحسب، بل – إلى حدّ بعيد – موطنا ً يتعلّمون منه الخبرة الإسرائيليّة في مجالات عديدة. وللتأكيد، كل المؤشرات تدلّ على أنّ كلا البلدين يريد الإبقاء على هذه العلاقات التجاريّة الحيويّة لوضع أساس ٍ صلب يتمكنون عليه من إعادة بناء علاقات دوبلماسيّة ثنائيّة قويّة.
والتطوّر الآخر المهمّ هو قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي اتخذه أخيرا ً لتوسيع حكومة ائتلافه والتي تسيطر الآن على (94) صوتا ً برلمانيّا ً من أصل (120) صوتا ً مقوّيا ً بذلك قبضته على السلطة لدرجة لم يسبق لها مثيل. هذه الخطوة تمنح نتنياهو درجة كبيرة من الثقة السياسيّة لمواجهة تحديات الأحزاب الصغيرة على أيّ مستوى ً من القضايا المختلف عليها. ومن الأهميّة بشكل ً خاصّ هي ذكرى مرور سنتين على حادثة سفينة "مرمرة" التي وقعت يوم 31 أيّار (مايو) 2010 والتي قطعت فعليّا ً العلاقات الدوبلماسيّة بين إسرائيل وتركيا. وقبل سنة ٍ تقريبا ً نجح الطرفان في التوصّل إلى اتفاقيّة تعتذر إسرائيل بموجبها عن الحادثة وتعوّض أهالي الضحايا وتسمح لتركيا إرسال مواد غذائيّة ولوازم أخرى لغزّة لغرض الإستهلاك المدني.
كان هناك داخل مجلس الوزراء الإسرائيلي خلافا ً قويّا ً حول "رضوخ" إسرائيل لشروط تركيا واعتذارها لها. وتهديد وزير الخارجيّة أفيغدور ليبرمان بالإنسحاب من الإئتلاف الحكومي كان كافيا ً لتراجع نتنياهو عن توقيع الإتفاقيّة. ولكن بما أنّ نتنياهو يتمتّع الآن بأغلبيّة مطلقة في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، بإمكانه فعليّا ً الآن إحياء هذه الإتفاقيّة السابقة وتقديم الإعتذار الذي كانت تطالب به أنقرة دون الخوف الآن من رحيل ليبرمان. وقد قالت تركيا في الماضي مرارا ً وتكرارا ً بأنه في حالة تقديم إسرائيل هذا الإعتذار ستستأنف أنقرة العلاقات الدوبلماسية الكاملة مع إسرائيل، بما في ذلك تبادل السفراء. وحيث أنّ نتنياهو الآن يحكم من مركز قوّة، يستطيع أن يقوم بمثل هذا التنازل، خصوصا ً وأنه وافق في الماضي على النصّ الأصلي للإتفاقيّة التي تشمل الإعتذار. وليس هناك وقت للقيام بذلك أفضل من الوقت الحالي.
فبدلا ً من إعادة المأساة التي وقعت في المياه الدوليّة إلى الأذهان مرّة أخرى في ذكراها السنويّة الثانية، على إسرائيل إعادة النظر في موقفها بتلبية مطالب تركيا ووضع ملفّ قضية السفينة "مرمرة" جانبا ً ليطويه الزمن، الأمر الذي قد يتعدّى إصلاح الصّدع فقط بين الحليفين السابقين. يمكن لكلا الجانبين جني فوائد كبيرة من هذا التقارب الضروري الآن، فإسرائيل ستستفيد من ذلك بشكل ٍ جذري بإنهاء عزلتها السياسية عن العالم الإسلامي، وتركيا ستستفيد بالمثل من خلال التأكيد من جديد بأنها قوّة إقليميّة.
إنّ موت أيّ شخص في أيّ وقت وفي أيّ مكان وتحت أيّ ظرف هو أمر ٌ يؤسف له حقّا ً. فلماذا التشبّث بعدم الإعتذار عن أرواح ٍ زهقت ؟ لماذا هذا الجمود وعدم التحرّك ؟ لن يُنظر لهذا الأمر على أنه إشارة ضعف بقدر ما سينظر له على أنه إشارة لقوّة الإيمان الراسخ. وسيكون ذلك ليس نصرا ً لتركيا، بل نصرا ً للروح الإنسانيّة التي تتجاوز الساعة وتقرّب الشعوب من بعضها البعض. والوقت لذلك هو الآن !