إسرائيل على مفترق طرق: إحتلال، إبادة جماعية، وموت رؤية
لن تستمرّ الدولة – التي نهضت من رماد ملايين اليهود الذين قضوا في المحرقة – في البقاء على رماد الفلسطينيين
إسرائيل هي تحقيق حلمٍ دام ألف عام: أن تكون حراً، تعيش بسلام، تزدهر، وتنمو في وطنٍ ذي سيادة. إن معجزة إنشائها وإنجازاتها وإمكانياتها اللامحدودة المسترشدة بالقيم الأخلاقية السامية التي تركت وراءها الخوف والرعب من الغد، تُسحق الآن أمام أعيننا.
بأي مقياسٍ تستطيع إسرائيل مواجهة الموت والدمار والقسوة وسفك الدماء والوحشية والقسوة التي لا تزال تُمطر غزة والضفة الغربية ؟ إن نزع الصفة الإنسانية وتجاهل الأرواح البشرية والإنتقام والقصاص بدم بارد قد خانت مجتمعة رؤية مؤسسي إسرائيل وسلبتها أساسها الأخلاقي، وهو أمر سيظل يطارد إسرائيل لأجيال قادمة. تتحمل جميع المؤسسات السياسية الإسرائيلية والجمهور مسؤولية إطالة أمد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعواقبه الوخيمة.
نتنياهو: العدو من الداخل
لم يؤثر أي رئيس وزراء إسرائيلي سلبًا على حياة ومصير الإسرائيليين أكثر من نتنياهو. إنه بارع في الكذب والتلاعب وخبير في فن الخداع ونرجسي أناني وفاسد حتى النخاع واضعاً مصلحته الذاتية على مصلحة الأمة لأكثر من ثلاثة عقود، وهو ما برهن عليه بلا خجل بإطالة أمد الحرب في غزة، وذلك فقط لإنقاذ جلده السياسي القبيح.
نتنياهو، وليس غيره، هو من أوصل إسرائيل إلى حافة كارثة غير مسبوقة. بالنسبة له، فإنّ موت الجنود الإسرائيليين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء عبثًا وترك الرهائن لمصيرهم الجهنمي، يستحقّان الثمن، ولو لمجرد الحفاظ على قبضته على السلطة.
فبدلًا من البحث عن سبل جديدة لإيجاد حلٍّ للصراع، كثّف نتنياهو جهوده لخدمة مشروعه الضخم للإستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات السلمية وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وهو الآن يستخدم الحرب في غزة كمحفّز لتحقيق هدفه المشؤوم، غافلًا عن حقيقة أنه يدمّر إسرائيل كما نعرفها.
حكومة فاشية
ولتحقيق هدفه البغيض، شكّل نتنياهو أكثر الحكومات اليمينية المسيانية تطرفًا والتي دعا فيها العديد من وزرائها إلى التطهير العرقي، بمن فيهم وزير المالية سموتريتش، الذي أكّد نوايا الحكومة بتصريحه في 6 مايو/أيار أن “غزة ستُدمّر بالكامل” وأن الفلسطينيين سيبدأون “بالرحيل بأعداد كبيرة”.
طالب هؤلاء الوزراء المجرمون باستمرار الحرب، وكان نتنياهو، المحارب السعيد، الذي لا يزال يتلذذ بوهم إمكانية القضاء على حماس وإطلاق سراح الرهائن، في غاية السعادة لتلبية هذا الطلب. يوم الأحد الماضي وافق مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي بالإجماع على غزو جزء كبير من غزة. الهدف هو إقامة حكم عسكري دائم ومستوطنات يهودية وحشر ما يقرب من 2.2 مليون فلسطيني في الجزء الجنوبي من غزة الذي يمثل أقل من 25% من إجمالي مساحة غزة.
حقيقة أن مثل هذه العملية ستتسبب في خسائر في أرواح الجنود الإسرائيليين وربما الرهائن وستتسبب في أزمة إنسانية كارثية بين الفلسطينيين، علاوة على الظروف المروعة التي يعيشون فيها حاليًا، لا تشغل بال نتنياهو وحكومته الفاشية.
إن الفكرة التي أوضحها وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، بأن العملية الجديدة ستُحقق هزيمة حماس في النهاية وتُشكّل ضغطًا لا يُقاوم عليها لإطلاق سراح جميع الرهائن، ليست سوى وهم كارثي آخر ستدفع إسرائيل ثمنه غاليًا. يبدو أن نتنياهو وحكومته لم يتعلموا شيئًا من الإحتلال المروع للضفة الغربية الذي دام 57 عامًا، والذي اتسم بالعنف المستمر وأسفر عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وآلاف الجنود والمدنيين الإسرائيليين.
التقوى الزائفة للأحزاب الدينية
بينما تستمر الحرب الكارثية في التكشف، فإن من يُسمّون قادة الأحزاب الدينية المتدينين الذين يستحضرون اسم الله في كل جملة، ويلبسون التقوى، ويبشرون بإنجيل الرعاية والرحمة، لم يرفعوا أصواتهم أبدًا للإحتجاج على القتل العشوائي للفلسطينيين. أيّدت شاس ويهودية التوراة المتحدة بقيادة المنافقين العملية الجديدة بلا خجل بغض النظر عن الدمار الهائل والموت الذي سيلحق بالفلسطينيين.
إنهم يُحاكون إلى حد كبير بتسلئيل سموتريتش المتعطش للدماء الذي صرّح في خطابٍ له في باريس عام 2023: “لا وجود لأمة فلسطينية. لا تاريخ فلسطيني. لا لغة فلسطينية”، وهو ما يُبرر في رأيه تدمير الفلسطينيين كشعب. إنهم يُبررون ذبح الفلسطينيين كما لو كان مُباركًا من ربهم. ليس من المُستغرب أن يسمح هؤلاء المُحتالون – الذين يتظاهرون بالإيمان المُتحمّس – بمثل هذه المجازر بحقّ رجال ونساء وأطفال فلسطينيين أبرياء. إنهم يرتدون زيّهم الديني بفخر بينما يرتكبون جرائم ضد الإنسانية.
لقد ضحّوا بالقيم والأخلاق اليهودية مقابل الحصول على الأموال التي يريدونها من الحكومة لإدارة مؤسساتهم الدينية، بينما يرفضون إرسال أبنائهم وبناتهم للخدمة في الجيش. لا يهمّ كم من الجنود الإسرائيليين يُقتلون، طالما أنهم لا يُضطرون إلى الحداد على موت أبنائهم.
عجز أحزاب المعارضة
تواصل أحزاب المعارضة السياسية خلافاتها متفقةً أحيانًا على قضايا خارجية وداخلية، لكنها لم تتوصل ولو لمرة واحدة إلى توافق في الآراء حول كيفية إنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لقد خدمت نتنياهو بفشلها الذريع في تحدي استراتيجية نتنياهو لسحق الفلسطينيين. فبدلًا من حشد الرأي العام وراء اتفاق سلام قائم على حلّ الدولتين الذي من شأنه أن يوفر الأمن القومي النهائي، اكتفت بالنقد الفارغ لسياسة نتنياهو وشخصيته، بينما تستمر الحرب في الإشتعال وتتبدد فرص الحلّ، مما يضرّ بإسرائيل.
اللامبالاة الكارثية للشعب الإسرائيلي
لا أحد يتحمل مسؤولية الوضع المأساوي الذي يجتاح البلاد أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، الذين، وللمفارقة، هم الجناة الذين سمحوا باستمرار الصراع وهم أيضا ً الضحايا الذين يعيشون تحت تهديد الحرب الدائم. لقد كُذّب عليهم وضلّلوهم ليصدقوا أنه لا يمكن إصلاح الفلسطينيين ولا يمكن احتواؤهم إلا بالقوة الغاشمة. لقد ابتلعوا بتهوّر حجة نتنياهو الزائفة بأن الدولة الفلسطينية تشكل خطرًا وجوديًا نهائيًاعليهم وأنه يجب منعها بأي ثمن.
أصبح الإحتلال للأسف بالنسبة للغالبية العظمى من الإسرائيليين أسلوب حياة. ففي نهاية المطاف، وُلد 80% من الإسرائيليين بعد عام 1967. بالنسبة لهم، لم يكن للعبودية والمعاناة والحرمان والإذلال الفلسطيني في ظل الإحتلال أي تأثير يُذكر على حياتهم اليومية.
تظاهروا جماعيًا لمدة ستة أشهر ضد ما يسمى بالإصلاحات القضائية؛ وظلّوا يتظاهرون يومًا بعد يوم، مطالبين بإعادة الرهائن، لكنهم لم يتظاهروا جماعيًا قط للمطالبة بإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وحتى يومنا هذا، ما زالوا متمسكين بشدة برواية نتنياهو وعصابته الإجرامية الزائفة بأن الدولة الفلسطينية المستقلة تشكل خطرًا وجوديًا. ولم يطالبوا حكومتهم ولو مرة واحدة باتفاقية سلام بديلة مقبولة من الطرفين، على الأقل على أساس حلّ الدولتين لإنهاء أعنف وأطول صراع منذ الحرب العالمية الثانية.
قد يظن المرء أنه بعد هجوم حماس وحرب الإنتقام الإسرائيلية سيتوقف الإسرائيليون ويطالبون بحل لهذا الصراع المُدمّر. لكنهم بدلًا من ذلك ضاعفوا جهودهم واستسلموا للعيش بسلاحهم، مُقتنعين بأنه لا يوجد حل. لقد نسوا، مُتغاضين، عن أن 90% من الفلسطينيين الأحياء وُلدوا تحت الإحتلال ولم يتبقَّ لهم الكثير ليخسروه ولن يكفّوا عن مقاومة إسرائيل بعنف حتى يوم الخلاص.
حان وقت الحساب
متى سيأتي الوقت ليُدرك الإسرائيليون أن إسرائيل لن تتمكن أبدًا من السيطرة على الفلسطينيين رغمًا عنهم؟ عليهم أولًا أن يُدركوا المعادلة الديموغرافية المُرعبة. يعيش سبعة ملايين يهودي في إسرائيل جنبًا إلى جنب مع سبعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة وداخل إسرائيل نفسها، ولا يمكنهم استعباد الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى، مهما بلغت قسوة ووحشية الحكم العسكري، ومهما سُجن أو قُتل أو طُرد أي عدد ٍ من الفلسطينيين.
ثانيًا، على عكس أي صراع عنيف سابق، أدى حجم الموت والدمار الذي لحق بغزة والضفة الغربية إلى بروز جيل جديد من الفلسطينيين سيعيشون للإنتقام لما لحق بشعبهم. فمقابل كل مقاتل فلسطيني يُقتل، سيظهر اثنان ليحلا محله.
ثالثًا، على الرغم من أن حماس قد تدمّرت، فإن إسرائيل لن تقضي عليها أبدًا كفكرة وحركة. إن العملية العسكرية للإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في غزة وخطة نتنياهو لإعادة احتلالها لن تُثبت سوى صحة ادعاء حماس بأن إسرائيل عازمة على تدمير الفلسطينيين كشعب، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى تكثيف مقاومتهم العنيفة مهما طال الزمن.
سيتذكر كلّ فلسطيني أنه لو شكلّت النساء والأطفال وكبار السن الذين قُتلوا في هذه الحرب الشرسة صفًا واحدًا لكان طوله 15 ميلًا. 90% من غزة مُدمرة، وسكانها جميعًا تقريبًا مُهجّرون مرارًا وتكرارًا، وهم محرومون من الطعام والدواء ومياه الشرب، والآلاف على شفا المجاعة. هذه مأساةٌ لا تُلحق بالفلسطينيين فحسب، بل بإسرائيل نفسها أيضًا التي تُدمر الأساس الذي تقوم عليه.
على كلّ إسرائيلي أن يتذكر أنّ بلاده التي نهضت من رماد ملايين اليهود الذين هلكوا، لن تستمرّ في البقاء على رماد الفلسطينيين. فقط دولتان مستقلتان تعيشان بسلام جنبا ً إلى جنب ستنقذان إسرائيل التي تمثّل حلم اليهود الذي دام آلاف السنين.