الظّلم الصّارخ في سوسيـــا
يمثّل الأمر المعلّق بهدم القرية الفلسطينيّة الصغيرة، سوسيا، الواقعة في المنطقة الجبليّة الجنوبيّة من الضفّة الغربيّة المحتلّة، أفظع انتهاك ٍ صارخ لحقوق الإنسان. وينصّ الأمر على الترحيل القصريّ لبضعة مئات ٍ من الفلسطينيين الذين يعيشون على أرضهم من عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة وما زال بحوزتهم سندات الملكيّة التي تثبت حقهم في الأرض. ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لا يفوّت فرصة ً يذكّر فيها العالم بأن إسرائيل ديمقراطيّة وتوجّهها المبادىء الأخلاقيّة، لا يكترث في هذه الحالة بترحيل نساء وأطفال فلسطينيين للمرّة الرابعة. مبرّراته أنّ هذه القرية الصحراويّة المقامة في عام 1830 هي موقع لآثار كنيس يهودي من القرن الخامس وجامع من القرن العاشر ويجب الحفاظ عليها.
أمّا السبب الحقيقي فهو أنّ نتنياهو يقود إئتلاف حكومي قد أخذ على نفسه منع الفلسطينيين من البناء في أيّ مكان ٍ في المنطقة المصنّفة (ج) التي تشكّل (61 %) من مساحة الضفّة الغربيّة ويسعى بشكل ٍ علنيّ فاضح لضمّ هذه المنطقة لإسرائيل.
لقد توطّدت هذه السياسة بشكل ٍ متكرّر برفض الحكومة منح رخص بناء لأهالي سوسيا، هذا في نفس الوقت الذي توفّر فيه كلّ الدّعم المالي لمرافق وأمن مستوطنة إسرائيليّة لمجموعة دينيّة تأسست في عام 1986 تحت نفس الإسم (سوسيا) وعلى بعد مسافة قصيرة فقط جنوب سوسيا الفلسطينيّة.
من الصّعب التعبير عن سلوك حكومة نتنياهو المثير للسّخط عندما قام نتنياهو – بعد ساعات فقط من إصدار محكمة إسرائيل العليا حكمها بهدم مبنيين بُنيا بصورة غير شرعيّة في مستوطنة بيت إيل بالضفة الغربيّة – بإصدار أمر ٍ بالبناء الفوري ل (300) وحدة سكنيّة في نفس المستوطنة.
وردّا ً على حكم المحكمة صرّح نفتالي بينيت، زعيم حزب “البيت اليهودي” اليميني المتطرّف، قائلا ً:”هذا حكم مؤسف لمحكمة العدل العليا…سيجرّ معه موجة ً من البناء في جميع أرجاء المستوطنات”. ووجد تصريح بينيت هذا صدى ً قويّا ً لدى وزيرة العدل، أيليت شاكيد، التي قالت أنّه في حين ينبغي قبول حكم المحكمة، فإنهم سيعيدون البناء فورا ً. وعبّرت عن ذلك بقولها:”هذه الطريقة اليهوديّة – عليك ألاّ تفقد الأمل وواصل البناء فالبناء فالبناء”.
ستتجاوز تداعيات هذا التصرّف اللآإنساني، لو كتب له أن يُنفّذ، حدود هدم قرية فلسطينيّة. إنّه يشير ليس فقط لنفاق نتنياهو وزمرته الحاكمة فحسب، بل للإنحطاط الأخلاقي لحكومة تبدو عازمة على تحدّي المجتمع الدّولي والقيم الأساسيّة للسلوك الحضاري.
أجل، إنّ سوسيا مثال آخر لتجاهل واستخفاف حكومة نتنياهو الصّارخ والفظّ بحقوق الفلسطينيين الأساسيّة للعيش بكرامة. وأتذكّر بهذا السياق فقرة من كتاب شتاينبك بعنوان:”عناقيد الغضب” الذي – رغم أنّه كتب حول زمان ٍ ومكان ٍ مختلفين – يتكلّم مباشرة ً حول ما يحدث في الضفّة الغربيّة:”إذا كان هو القانون الذي يعملون به، فلماذا نطبّقه نحن. ولكنه ليس القانون. إنّهم يعملون على هدم أرواحنا. إنهم يحاولوا إذلالنا وجعلنا نزحف ككلبة ضُربت بالسياط. إنهم يحاولون كسرنا…”.
إن هدم سوسيا الفلسطينيّة، في وقت ٍ شُوّهت فيه صورة إسرائيل، لن يزيد سوى من الإستنكار الدّولي الشّديد للإحتلال الإسرائيلي ولنهم حكومة نتنياهو لمزيد ٍ من الأراضي الفلسطينيّة.
لقد بانت ديماغوجيّة نتنياهو وزيفه مرارا ً وتكرارا ً على أشدّه عندما يتكلّم عن حلّ الدولتين ولكنه يستمرّ في توسيع المستوطنات وتوفير وسائل الراحة لها، وفي نفس الوقت يحرم عشرات القرى الفلسطينيّة من احتياجاتها الأساسيّة كالماء والكهرباء، بما في ذلك سوسيا.
مجرّد التفكير بهدم سوسيا، ناهيك عن تنفيذه على أرض الواقع، سيكون بمثابة مسمار آخر في نعش عمليّة السّلام الإسرائيليّة. وسيُحكم بقسوة على نتنياهو، أكثر من أيّ رئيس وزراء إسرائيلي آخر، لتدميره فرصة إحلال السّلام خطوة ً خطوة.
ليس هناك ما باستطاعة نتنياهو قوله أو فعله لتبرير هدم سوسيا أو أية قرية فلسطينيّة أخرى أو وحدة سكنيّة بُنيت في الضفة الغربيّة على أراضي أصحابها لاستيعاب النموّ الطبيعي والسماح للفلسطينيين بعيش حياة ٍ بدون خوف وترهيب. والإسرائيليّون الذين يؤيّدون هدم هذه القرية الفقيرة إنّما يسدون أعظم خدمة مشينة ومروّعة لتشويه صورة إسرائيل ومستقبلها كدولة ديمقراطيّة وقد أصبحوا شركاء متواطئين في الأعمال الجديرة بالإزدراء لاجتثاث الفلسطينيين المطيعين للقانون من أراضيهم. وينبغي ألاّ يبقى إسرائيلي واحد بضمير صامتا ً ويسمح لحكومة نتنياهو بالتهام ذلك القدر البسيط الذي بقي للفلسطينيين.
بعد 47 عاما ً من الإحتلال حان الوقت لجميع الإسرائيليين المحتشمين والشرفاء أن يفكّروا بمستقبل بلدهم. إلى أين تتجه إسرائيل وإلى متى يمكن للإحتلال والظلم أن يستمرّا بدون تعريض وجود إسرائيل للخطر ؟ فجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق على أمل أن يتركوا أخيرا ً وطنهم هو أمل ٌ كاذب لأنّ إلحاق الألم الرّهيب بدون رحمة بالشباب والعجزة، رجالا ً ونساء ً، إنّما يقوّي فقط عزمهم على البقاء. إنّ المجتمع الدّولي بأكمله خلفهم، ولا تستطيع أية قوّة إسرائيليّة أن ترحّلهم لأنهم يفضّلون الموت على الخضوع للأوامر الإستبداديّة.
وإنّي أشيد بالإسرائيليين الذين انضمّوا لمظاهرة الفلسطينيين ضدّ الهدم المحتمل لقرية سوسيا يوم 24 تمّوز (يوليو). ينبغي لمئات الألوف أن تحذو حذوهم. أجل، في التحليل النهائي الشعب وليست الحكومة هو الذي يشكّل ويحدّد مصير البلد.
من المفهوم بأن إعياء وملل الإسرائيليين من الصّراع مع الفلسطينيين قد ولّد لديهم نوعا ً من اللآمبالاة أو الرّضى عن الوضع الراهن، ولكن هذا ليس ترفا ً أو رفاهيّة لا يستطيع أي إسرائيلي الإستغناء عنها في هذه المرحلة.
الفلسطينيّون لن يختفوا عن وجه الأرض، وبإمكان الشعب الإسرائيلي فقط إيقاف هذه الزمرة الفاسدة أخلاقيّاً، من يدعون أنفسهم قادة إسرائيليين في الحكومة، من تدمير الأسس الأخلاقيّة التي أقيمت عليها إسرائيل.