All Writings
مارس 16, 2016

تفكّك ديمقراطيّة تركيــــــــــــــــــــا

بعد بضعة أشهر فقط من مداهمة الرئيس التركي أردوغان مكاتب المجموعة الإعلامية كوزالبيك، هاجمت الشرطة التركية في وقت مبكر من هذا الشهرمكاتب فيزا FEZA للمطبوعات التي تملك صحيفتين (بما في ذلك “زمان”) واثنتين من محطات التلفزيون من دون أي سابق إنذار. وليس هناك أكثر ضررا ً لأية ديمقراطية من إغلاق منافذ الأخبار وخنق حرية التعبير.

ولاتخاذ مثل هذا الإجراء الشديد بناء على اتهامات ملفقة بأن وسائل الإعلام هذه تساعد الإرهاب وتتآمر ضد الدولة ليس سوى فضيحة، ويظهر خوف أردوغان من الإنتقاد العلني رغم تبجحه. ويبدو الرئيس أردوغان، على أية حال، غير مكترثا ً تماماً لأية تداعيات محتملة، حيث اكتسب جرأة من حملته الهوجاء السابقة ضد الصحافة وسجن عشرات الصحفيين بتهم مزورة مع إفلاته من العقاب.

وعلى الرغم من أن أردوغان يعلم جيدا أن تركيا هي أبعد ما تكون عن كونها دولة ديمقراطية، فإنه مستمرّ في تعزيز فكرة سخيفة وهي أن تركيا بالفعل دولة ديمقراطية حقيقية، مدعيا ً بتباه ٍ كالمعتاد “بأنه لا يوجد في العالم أيّ مكان تتمتع فيه الصحافة بحريّة أكبر مما هو الحال عليه في تركيا “.

في الواقع، وضعت منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها لحريّة الصحافة العالميّة عام 2015 تركيا في المرتبة 149 من بين 180 دولة، أي في منزلة ما بين المكسيك، حيث يُقتل الصحفيون بانتظام، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، التي هي دولة فاشلة.

ينبغي لربّما تذكير أردوغان بما يشكل حقّاً الديمقراطية. فحرية التعبير تمثل واحدة من أربع ركائز أساسيّة لأي شكل من أشكال الحكم الديمقراطي، والتي تتضمن أيضا انتخاب حكومة تمثيلية، والمساواة أمام القانون، والتقيد الصارم بحقوق الإنسان.

لم يتوقّف أردوغان للأسف عند قمع حرية التعبير في جميع الأشكال، فقد اقتصّ بشكل منتظم من الركائز الأخرى، الأمر الذي لا بد من أن يكشف ما تبقى من الديمقراطية في تركيا. فقد ضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “الحق في حرية الرأي والتعبير،” ولكن كما حذر بنيامين فرانكلين، “من أراد الإطاحة بحرية أمة، يجب أن يبدأ ذلك من خلال قمع حريتها في الكلام والتعبير”.

لقد كان الإعجاب بأردوغان كبيرا ً للإصلاحات الإجتماعية والسياسية المؤثرة والتنمية الإقتصادية الكبيرة التي أحرزها لتركيا، الأمر الذي جعل تركيا في المرتبة ال17 في سلّم أكبر الدول الإقتصاديّة في العالم خلال فترة رئاسته الأولى وجزء كبير من فترة رئاسته الثانية. وكان يمكن أن يحقق الكثير من طموحاته لجعل تركيا قوة إقليمية عظمى معترف بها مع حشد الدعم من الشعب بكل فخر واعتزاز.

كان قادرا ً على فعل ذلك دون تدمير مبادئ تأسيس تركيا كدولة ديمقراطية علمانية كما تصوّرها مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، وكان بإمكانه أن يقدم نموذجاً حقيقياً لديمقراطية إسلامية مزدهرة يُحتذى بها من قبل الكثير من الدول العربية والعالم الإسلامي.

ومما يؤسف، على أية حال، أن يتجاهل أردوغان حقيقة أنّ قيامه بالتفكيك المنهجي للمؤسسات الديمقراطية في تركيا سوف يكون له التأثير العكسي تماما ًوذلك بنسف إمكانات تركيا مباشرة كقوة عظمى وتبديد ما لدى البلاد من قدرة للعرض.

لقد أثبت أردوغان مراراً وتكراراً افتقاره للتسامح تجاه وجهات النظر المعارضة ووجد الصحافة مصدر إزعاج لأنها كانت بشكل ٍ عام ناقدة لأجندته الإسلاميّة. لقد أدرك، كما قال جورج أورويل بوضوح: “حرية الصحافة، لو كان ذلك يعني أي شيء على الإطلاق، فإنه يعني حرية انتقاد ومعارضة”، وهي الحرية التي يعزم أردوغان على قمعها.

وعلى هذا النحو، استخدم أردوغان أوراق اعتماد إسلامية قوية لتقديم نفسه كقائد تقيّ، هذا في حين أنه متورّط باستمرار في المحسوبية، ومنح العقود الحكومية الضخمة لأولئك الذين دعموه وأفراد أسرته، بصرف النظر عن تضارب المصالح والفساد الذي نشأ نتيجة لذلك.

ومع برلمان مطيع له، كان أردوغان قادرا على تمرير أي تشريع يرغب به، هذا باستثناء تعديل دستوري من شأنه أن يمنح الرئيس صلاحيات غيرمحدودة. لقد أخضع نظام العدالة لنزواته وأصبح في الواقع الرّجل الوحيد الحاكم بسلطات ديكتاتورية، مزيلا ً في نهاية المطاف الضوابط والتوازنات في الجهاز الحكومي.

وللتأكيد، فإن شهية اردوغان لمزيد ٍ من السلطة والمعاملة القاسية لمعارضيه وحماسه الديني واستعراضاته النرجسيّة جعلته مُهابا ً من الكثير في المجتمع التركي وحائزا ًعلى إعجاب الآخرين، فهو ملعون بالإجماع تقريباً من قبل المجتمع الدولي، ولكن يتمّ التعامل معه من باب الضرورة .

الإتفاق الذي تم التوصل إليه في 7 آذار بين تركيا والإتحاد الأوروبي بخصوص اللاجئين السوريين وطالبي اللجوء هو حالة واحدة في الصميم حيث اتخذ أردوغان قراره بإغلاق صحيفة “زمان” في نفس الوقت تقريباً، مدركا ً انه لن يُدان بشدة سواء من قبل الولايات المتحدة أو الإتحاد الأوروبي عن إجراءاته هذه.

والسؤال هو أنه بالرغم من وجود أردوغان في السلطة منذ ما يقرب من 14 عاماً، وحشده الكثير من النفوذ مع أو بدون تعديلات دستورية، هل سيأخذ اردوغان الوقت كرئيس للتفكير في مستقبل تركيا – الدولة التي لديها كل المقومات والموارد لتصبح قوّة عظمى ومؤثرة ، خصوصاً وأن الشرق الأوسط يتخبط الآن في حالة من الإضطراب غير المسبوق؟

ومع الأخذ بعين الإعتبار بأن تركيا تواجه الآن مفترق طرق تاريخي، فإن الخيارات التي سيتخذها أردوغان في الأشهر والسنوات القادمة سيكون لها تأثيراً دائماً على مستقبل تركيا.

سوف يرتكب أردوغان خطأ فادحاً إذا استمر في اتخاذ صمت الشعب التركي له كأمراً مسلّما ً به، فالأتراك شعب مبتكر، كادح، ومثقّف وله تاريخ طويل من الإنجازات، منفتح نحو الغرب ويقف لجانب، لا بل يؤمن بطريقة الحياة الديمقراطية، وسيصرّ عليها.

هناك حدود لمدى تسامح الشعب التركي ليس فقط مع خنق حرية التعبير، ولكن مع أسلوب أردوغان الشديد القسوة في الحكم قبل أن يثور ضده.

ينبغي أن يعلم أردوغان أنّه كي تحتلّ تركيا مكانها الصحيح بين القوى العظمى، يجب عليه استعادة كل ما فقد في السنوات القليلة الماضية، وخاصة الأساس الديمقراطي. فبدون مبادئ الديمقراطية هذه، سيتمّ المزيد من إقصاء تركيا عن الدول الغربية، وهي الكتلة التي يجب على تركيا الإنتماء إليها، وسوف تكون عاجزة عن تسخير امكانياتها الحقيقية باعتبارها منطقة شرق أوسطيّة وقوة أوروبية في آن ٍ واحد.

ومن المفارقات كما يبدو بأن أردوغان يستمتع بنكهة الوهم أن يكون رئيسا ً لتركيا في الذكرى المئويّة لتأسيس الجمهورية التركية في عام 2023، وأن يدخل التاريخ “كالأب التركي” الجديد متفوّقا ً على أتاتورك.

يريد أردوغان بشكل ٍ محموم استعادة بعض من “أمجاد” الإمبراطورية العثمانية، وينسى على أية حال أنّ تلك الإمبراطورية انهارت جزئيا بفعل ثقلها وأصبحت فريسة سهلة لقوات الحلفاء في أوائل القرن العشرين بسبب القادة الفاسدين وعديمي الضمير.

وفي حالة إخفاقه في اتخاذ القرير الصحيح، لن يتم تذكّر أردوغان كأب الدولة الديمقراطية والقوية الجديدة، ولكن كالديكتاتور المضلل والطموح الذين ضحى بمستقبل تركيا الواعد بسبب حماسه الديني ورغبته الملحة لمزيد من السلطة.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE