تعطّش أردوغان للسلطة يدمّر ديمقراطيّة تركيا
هذه أوّل مقالة من سلسلة من المقالات يعتمد جزء منها على روايات شهود عيان حول الأوضاع الإجتماعيّة والسياسيّة المتدهورة بشكل ٍ سريع في تركيا وما عسى أن يحمله المستقبل لهذا البلد.
لقد أجريت خلال الأشهر القليلة الماضية عشرات المقابلات مع مواطنين أتراك هربوا من تركيا مباشرة ً بعد الإنقلاب العسكري الفاشل خوفا ً على حياتهم. لقد ترك العديد منهم عائلاتهم خلفهم مرتعبين ممّا يتوقّعون أن يحدث الآن. وبالرّغم من أنه كان لتركيا الإحتمال والقدرة أن تصبح لاعبا ً رئيسيّا ً على الساحة الدوليّة، غير أنّ إمكانات تركيا الرائعة قد تبعثرت بسبب تعطّش رئيسها أردوغان للسلطة. لقد استخدم قبضة من حديد لاتخاذ أيّ إجراء، مهما كان فاسدا ً، للتلاعب في القوانين وتقويض المبادىء الأساسية لديمقراطيّة تركيا – للحرية وحقوق الإنسان.
لقد كنت في حيرة لبعض الوقت حول سبب إتخاذ أردوغان قبل بضعة سنوات قرارا ً متحمّسا ً لإلغاء بشكل ٍ منهجي التقدّم الإجتماعي والسياسي والقضائي الهائل الذي كان هو نفسه بطله بنجاح. فلو كان حارسا ً على هذه الإصلاحات ومدافعا ً عن حقوق الإنسان لكان قد حقّق حلمه في التسامي لمنزلة مؤسس تركيا الحديثة الموقّر، مصطفى كمال أتاتورك.
لقد عمل أردوغان في البداية رئيسا ً للوزراء والآن رئيسا ً للدولة لفترة تزيد عن 15 عاما ً. وبالرّغم من ذلك، يبدو أن نهمه للسلطة المطلقة لا حدود له، دافعا ً إيّاه لاتخاذ إجراءات منهجيّة وغير عادية لتحييد أو إبطال أية قوّة تتحدّاه، شاملة السلطة القضائية والصحافة والأحزاب المعارضة والجيش والمثقفين. إنّه يستخدم تكتيكات نادرة لإسكات خصومه ويقدّم مساعدات إقتصاديّة وحوافز أخرى لأصدقائه والمقرّبين منه لضمان تأييدهم المستمرّ في حين يضرب خصومه السياسيين بعضهم ببعض ليجني كلّ ما أمكنه من فوائد. وقد ضغط على البرلمان في الآونة الأخيرة لتعديل الدستور لتعزيز سلطاته الديكتاتوريّة التي ستسمح له بالبقاء في السلطة فترتين أخريتين تنتهيان في عام 2029.
بعد الإنقلاب الفاشل في شهر يونيو / حزيران 2016، تمّ نقل أو تعديل أو تخفيض رتب (3228) نائب عام في جهاز القضاء المدني والإداري (بما في ذلك 518 قاضي). أضف إلى ذلك، فقد تمّ حبس (88.000) شرطيّا ً وصحافيّا ً ومعلّما ً وموظفا، وألقي القبض على (43.000) آخرين. وفي شهر يوليو / تمّوز 2016 صادق البرلمان على مشروع قانون يسمح للرئيس أردوغان بتعيين ربع القضاة في مجلس الدّولة ويقوم بتعيينات قضائيّة جديدة المجلس الأعلى للقضاة والنوّاب العامّين الخاضع لسلطة وزارة العدل، أي بالأحرى تحت سيطرته.
لقد أتَهم العديد من المحامين بأنهم ينتمون لحركة غولن التي تعتبر العدوّ اللدود لأردوغان، إمّا عن طريق الإرتباط المباشر أو لأنّ لديهم أكثر العلاقات ضعفا ً. لقد أضطرّ محامي يمارس مهنته منذ 18 عاما ً في قيصري على الهروب من تركيا لأنه كان وزملاؤه يمثلون مدارس مرتبطة بحركة غولن. ونظرا ً لهذه العلاقة، فقد اعتبروا من المشبوهين من قبل سلطات الدولة، هذا بالّرغم من أنّ المحامين أنفسهم كانوا غير منتمين لحركة غولن بأية طريقة. لقد تمّ القبض على عشرات المحامين ودمغهم بأنهم تابعون لحركة غولن فقط لأنّ لديهم آلية لإرسال رسائل مشفّرة (مثلا ً واتس أب) في أجهزتهم المحمولة.
وبالنسبة لأردوغان، كانت محاولة الإنقلاب “هديّة من الله” منحته الترخيص للتخلّص من أي فرد أو منظمة يُنظر له / لها بأنه / بأنها عدوّ (ة) للرئيس، وبالأخصّ عندما تضعف شعبيته.
لم يتمّ استبدال آلاف الموظفين الذين تمّ تسريحهم بشكل ٍ إعتباطي، الأمر الذي أدى إلى عوائق في العمليّة القانونيّة. علاوة ً على ذلك، لم يكن بمقدور المحامين الذين تمّ القبض عليهم الحصول على تمثيل قانوني، إذ أن أيّ محامي قد يفعل ذلك سيتًهم لاحقا ً بانتمائه لحركة غولن، أي مناوىء للدولة نفسها.
وبالنظر لتاريخ الإنقلابات العسكريّة، فقد قرّر أردوغان إضعاف القوات العسكريّة بتسريح ما يقارب 3.000 ضابط وأصدر مرسوما ً مكّن حكومته من إصدار أوامر مباشرة لرؤساء جميع الفروع والأقسام العسكريّة تتخطّى صلاحيات رئيس هيئة الأركان العامّة للقوات المسلّحة. وإضافة ً إلى ذلك، فقد قام في شهر آب / أغسطس بتعيين نائب رئيس الوزراء ووزراء العدل والداخليّة والشؤون الخارجية للمشاركة في المجلس العسكري الأعلى الذي يقرّر ترقية الجنرالات وقضايا أخرى لها علاقة بالجيش التركي.
ومباشرة ً بعد محاولة الإنقلاب العسكري أعلن أردوغان حالة الطوارىء في البلاد حيث تسمح هذه للحكومة بأن تحكم بالمراسيم وتطرد حسب إرادتها أي موظف عمومي. هذا ويُسمح بحبس موظفي الأمن والمشتبهين في صلتهم بالإرهاب و”أعداء آخرين للدولة” مزعومين لمدة تصل إلى (30) يوما ً بدون تهمة، وليست الدولة ملزمة بأي حال ٍ من الأحوال لتقديمهم للمحاكمة. هناك أيضا ً إدّعاءات بتعذيب وإيذاء السجناء. وفي يناير / كانون الثاني 2017 تمّ تمديد حالة الطوارىء مرّة أخرى لثلاثة أشهر.
ولكبت خصومه السياسيين، فقد قام أردوغان في شهر مايو / أيّار عام 2016 بالضغط على البرلمان التركي لاعتماد مشروع قانون يجرّد أعضاء البرلمان من حصانة الملاحقة القضائيّة. وقد أعتبر هذا القانون على نطاق واسع بأنه هجوم ضدّ أعضاء البرلمان الأكراد، وهم أقليّة في البرلمان، الذين قد تتّهمهم الحكومة ب “نشاطات إرهابيّة” وتخضعهم للمقاضاة.
ولتنظيم وتقنين سلطات الرئيس المطلقة فقد انتقل أردوغان بدعم ٍ من حزبه (حزب العدالة والتنمية) لتغيير منصب الرئيس من دور ٍ شرفيّ في المقام الأول إلى الرئيس التنفيذي الوحيد للدولة وألغى منصب رئيس الوزراء. وسيمنح الدستور الجديد أيضا ً رئيس الدولة السلطة لسنّ بعض القوانين بالمرسوم الرئاسي، وتعيين قضاة ووزراء وتعيين على الأقلّ نائبا ً للرئيس وزيادة عدد أعضاء البرلمان من 550 عضوا ً إلى 600. أضف إلى ذلك، فإنه يخفّض الحدّ الأدنى لسنّ النوّاب من 25 إلى 18 عاما ً، الأمر الذي سيضمن الدّعم السياسي للجيل القادم.
هذه خطوة انتقدها أستاذ القانون الدستوري، البروفيسور إرغون أوزبودون – الذي طلب منه أردوغان في عام 2007 وضع دستور ٍ للبلاد – بقوله:”للنظام الرئاسي الديمقراطي ضوابط وموازين – ولكن هذا من شأنه أن يكون حكم رجل واحد”.
والأهمّ من ذلك، فأردوغان، كمسلم ٍ متديّن، يستخدم بمهارة الإسلام كأداة لتعزيز طموحاته السياسيّة دون الحاجة إلى تقديم أي دليل على سلامة أجندته السياسيّة. فعندما أصبح أردوغان رئيس بلدية مدينة إسطنبول في عام 1994، نصّب نفسه كمرشّح لحزب الرفاه المناصر للإسلاميين. وسُجن لمدة 4 أشهر في عام 1999 بتهمة التحريض الديني بعد أن قرأ على الملأ قصيدة شعريّة وطنيّة تتضمّن الأبيات التالية: “الجوامع ثكناتنا والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا”.
لقد ازداد عدد المساجد من 60.000 في عام 1987 إلى أكثر من 85.000 في عام 2015. وقد دفعت في الآونة الأخيرة مجموعة من المبادرات الحكوميّة الإسلام إلى عمق ٍ أكبر داخل نظام التعليم العلماني في تركيا. وتشمل الأمثلة خطّة لبناء مساجد في (80) جامعة حكومية مختلفة وتحويل جامعة واحدة في إسطنبول إلى مركز للدراسات الإسلاميّة. وفي شهر ديسمبر / كانون أول من عام 2015 قام “مجلس تعليمي مدعوم من الحكومة بتوصية لتوسيع حصص التربية الدينيّة الإجباريّة لجميع طلاب المدارس الإبتدائيّة وإضافة حصّة إجباريّة لجميع طلاّب المدارس الثانويّة”.
لقد تدهور الجوّ في تركيا بحيث أنّ إشارة غير مهذّبة للرئيس أوردغان كافية لإلصاق إتهامات جنائية، فقد تمّ إتهام أكثر من 2.000 شخص بموجب هذه القوانين. لم يعد التنصّت على الهواتف على نطاق ٍ واسع سرّا ً يُخفى، الأمر الذي أصبح يخيف المرء من التعبير بحريّة وبكلّ صدق في المحادثات عبر الهاتف. وللتأكيد، لا يناقش الأتراك العاديّون الأمور السياسيّة علنا ً ويحجمون عن انتقاد المسؤولين الحكوميين لخوفهم من أن يكون هناك عميل سرّي متنصّتا ً على حديثهم. هناك فقط محطة تلفازيّة واحدة تعمل للمعارضة وصحيفة واحدة (الجمهورية)، ولكن تقريبا ً نصف مراسلي الصحف وكتّاب “الأعمدة” والمدراء التنفيذيين مع ذلك سُجنوا.
إنّي أكنّ إعجابا ً عظيما ً لإبداع الشعب التركي وسعة حيلته وتصميمه على جعل تركيا ديمقراطية مزدهرة، ولكنهم في الوقت الحاضر مستقطبين بين العالمين، العلماني والإسلامي، وهذا ما يشكّل ظروفا ً يستطيع أردوغان فيها أن يستفيد المزيد من أجندته السياسيّة.
لربّما حان الوقت للشعب التركي لكي ينهض ويطلب إرجاع الأسس الديمقراطيّة للبلد، وهي نفس الأسس والمبادىء التي جعلت من أردوغان أكثر الزعماء احتراما ً خلال السنوات العشرة الأولى من فترة حكمه، وهذا كان بالمقدور أن يجعل منه أتاتورك الجديد للشعب التركي.