All Writings
أغسطس 23, 2006

وليكن فقط للحفاظ على الذات !

بقلم: أ.د. ألون بن مئيــــــــــــــــــــــــــــر                أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك            ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية. لقد عدت توّا من جولة لإسرائيل وفلسطين استمرّت أسبوعا من الزمن قابلت خلالها العديد من الموظفين الرسميين والمثقفين الإسرائيليين والفلسطينيين ، وكذلك أناس عاديين من كلا الجانبين . هذه المقالة هي الثانية في سلسلة من المقالات التي كتبتها مع الأمل أن ألقي بعض الضوء الجديد على مواضيع عديدة تتعلق بالصراع الحالي في وقت تجتاح فيه التغييرات الثورية الساحة السياسية في كلا المجتمعين.              بخلق كيان سياسي جديد ، قد يكون حزب " كاديما " ( Kadima ) بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون قد دخل في هذا الوقت حقبة سياسيّة ثورية ستحوّل الخارطة السياسيّة للبلد بشكل مذهل في المستقبل المنظور . من المأمول من حزب كاديما أن يستجيب لما تصبو إليه الأغلبية العظمى من الإسرائيليين في عقد اتفاقية تجلب السلام الدائم . يتميّز حزب كاديما عن جميع أحزاب الوسط السابقة بعنصرين قويين ، أولهما قيادة شارون القوية وقدرته المختبرة ، وثانيهما قاعدة سياسية واضحة . من الممكن أن يؤدي الزلزال الذي أحدثه تأسيس هذا الحزب إلى اتفاقية مع الفلسطينيين تعتمد على حل الدولتين .            إنّ حزب كاديما هو إنتاج إسرائيليين قد أدركوا أخيراً الحقيقة الديموغرافية القاسية التي طالما أنكرها الليكود وأحزاب أخرى كثيرة من يمين الوسط . إن حزب الليكود، وهو مزيج من أحزاب صهيونية معدّلة، قد تشبّث بإيديولوجيته المبدئية إسرائيل الكبرى وفشل في الاعتراف بتحول الميزان الديموغرافي لصالح الفلسطينيين ، ممّا يجعل أي استمرار للاحتلال ببساطة أمراً لا يطاق . وبسبب هذا التحول يزداد حجم الزّخم إلى حل الدولة الواحدة بنسبة كبيرة وينظر إليه الكثير من الفلسطينيين على أنه طريقتهم الوحيدة لاسترجاع كل أرض فلسطين بالطرق الديمقراطية ، أي دولة فلسطينية تحكمها حتماً أغلبية فلسطينية . وكما أشارت لي السيدة أشير سوسر ، مديرة مركز دايان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية ، قائلةً : " ليس لدى الفلسطينيين نفس الإحساس بالاستعجال ، إنهم يدركون بأن إسرائيل غير محصّنة ومعرّضة للسقوط . إنهم يرون الأرقام ."    لقد أدرك شارون أيضاً بعد إعادة انتخابه في عام 2003 بأنّ الوقت لا يعمل لصالح إسرائيل وأنه يجب اتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على السمة اليهودية الديمقراطية لدولة إسرائيل عن طريق أغلبية يهودية ثابتة . وقراره بالانسحاب من غزّة كان الخطوة الأولى في هذه العملية . وقد أجبرته الصعوبات الجمة التي كان يواجهها مع الجناح المتطرف في حزبه إلى التوصل للنتيجة المؤلمة وهي أن حزب الليكود بكيانه الحالي لا يريد أن يحرك ساكناً ويدعو إلى الركود ، وهو بهذه الكيفية لم يعد مؤهلاً لأن يكون العربة التي تخدم المصالح الكبرى للأمة . لقد رأى شارون أن البقاء في الليكود يعني تضييع الوقت في معارك سياسية بدلاً من العمل نيابة عن الدولة . وفي حين أن الانسحاب من غزّة قد أظهر لربّما أفضل من أي وقت مضى خلافات شارون مع حزب الليكود ، فإن قدرته على سحب قوات إسرائيلية ومستوطنين من قطاع غزّة بالرغم من كل الاعتراضات الممكنة آنذاك قد أظهرت للعالم مرونته السياسيّة التي لا تصدّق وكذلك قدرته الفائقة على أن يقود أمته بثقة وإقناع ، وهي صفات جعلته وتجعل منه أكثر القياديين شهرة وشعبيّة في إسرائيل .           لم تقدم الأحزاب الحالية الأخرى أية بدائل واقعية . لقد فشل حزب العمل ــ الذي أدرك الواقع الديموغرافي في مطلع التسعينات من القرن المنصرم ــ في حشد الإجماع الشعبي والثقة اللازمة لقيادة البلد بسلام وأمان . وبالرّغم من أن أغلبية من الإسرائيليين آنذاك كانت تنظر لرئيس الوزراء السابق على أنه رجل ملتزم بالسلام ، كانوا يخشون أيضاً أن يقوم بالمساومة على حساب الأمن الوطني ولذا لم يثقوا به أبداً ثقة تامّة . وعدم قدرة رئيس الوزراء السابق إيهود باراك على ضمان اتفاقية مع الفلسطينيين بالرّغم من أنه قد قام بتنازلات سريعة ، إن لم تكن متهورة بطريقة تدعو للخطورة ، قد زاد من تقويض مركز حزب العمل لدى الجمهور الإسرائيلي . لقد اتهمه عدد متزايد من الإسرائيليين بسوء التدبير خلال مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000. وأدّى فشل مفاوضات كامب ديفيد إلى الاندلاع المأساوي للانتفاضة الثانية وساهم بصورة فعّالة إلى تهميش حزب العمل سياسيّاً . والآن يركز رئيس حزب العمل المنتخب حديثاً السيد عمير بيرتس أكثر على القضايا الاجتماعية ــ الاقتصادية حيث أنه يفتقر إلى الخبرة في قضايا الأمن الوطني . ولذا وبسبب خيبة أمل الإسرائيليين بشكل عام من أحزاب يسار الوسط واضمحلال الآمال في التوصل إلى تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين قد حوّلت الكثيرين من الإسرائيليين إلى اليمين وكان شارون المستفيد الرئيسي من هذه الحركة .            وأثناء ذلك حاول حزب " شينوي " (Shinui ) ، حزب الوسط بزعامة يوسف لابيد ، أن يطرح نفسه على أنه الحزب القادر على توحيد معظم الإسرائيليين تحت راية السلام والأمان ، غير أن حزب " شينوي " يفتقر لأجندة واضحة وزعامة مجرّبة . لقد ركّز الحزب أكثر على أجندته المحلية مصارعاً أحزاب دينية إسرائيلية ونفوذها دون الخروج بأيّة إستراتيجية حقيقيّة وفعّالة أو خطة لحلّ الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني . لقد فشل حزب " شينوي " بِ 15 مقعداً في البرلمان الإسرائيلي ( الكنيست ) في جذب دعم شعبي عريض لأجندته السياسية التي بدت غير مركزة وبدون توجيه . ونتيجة لذلك ، فإن نشاطات الحزب داخل وخارج الحكومة على حد سواء قد بقيت دون أهميّة تذكر في تأييدها ، وهذا مرة أخرى قد أفاد شارون .             وأخيراً ، فإن التطورات السياسية الداخلية في إسرائيل واتجاهاتها كانت دائماً متأثرة بتصرف الفلسطينيين ، خصوصاً موجة العنف ضد إسرائيل . وقد أجبر الإصرار الفلسطيني للتفاوض على قضايا الحل النهائي مثل الحدود النهائية ومستقبل القدس واللاجئين قبل معالجة القضايا المرحليّة الحيوية بالنسبة لأمن إسرائيل ،شارون للقيام بخطوات أحادية الجانب هدفها الانفصال العضوي عن الفلسطينيين . إن الانسحاب الأحادي الجانب من غزّة وبناء جدار الفصل والانسحابات المستقبلية من مستوطنات في الضفة الغربية ليست إلاّ خطوات الهدف منها خلق حقائق فعلية على الأرض لحل الدولتين . ففي حين أن الفلسطينيين أحياناً يرفضون ، وأحياناً أخرى يقبلون , ومرّات يذعنون ببساطة للإجراءات الإسرائيلية في هذه المناطق ، ولكنهم أيضاً يقفون شاهدين على ولادة دولتهم دون القيام بأية تنازلات ، الأمر الذي أيضاً يبدو متماشياً مع رغبة قيادتهم .            إنّه التقاء جميع هذه الأحداث والظروف الذي خلق جواً سياسيّاً ناضجاً جداًّ لبروز حزب وسط جديد . ليس هناك أحداً سوى شارون يستطيع أن يفعل ما بمقدور شارون أن يفعل أو ما سيكون قادراً على فعله . لقد أكّد شارون في مناسبات عديدة على التزامه بالمضي قدماً في خارطة الطريق في الوقت الذي يحمي فيه بكل غيرة وحماس أمن إسرائيل . لا يستطيع قائد عادي أن يتّخذ في الضفة الغربية الخطوات اللاّزمة التي يقدر عليها شارون . أضف إلى ذلك أنّ شارون ــ بالنظر إلى الأهمية القصوى للأمن الوطني لديه ولدى الشعب الإسرائيلي ــ يطور أيضاً إستراتيجية دفاع وطني تتناسب مع الحقيقة الجديدة في حين أنه يصرّ بأنّ إسرائيل هي وحدها التي تقرر احتياجاتها الأمنية . وبالرّغم من الصعوبات التي يواجهها شارون في التعاون اقتصادياً مع الفلسطينيين في جوّ عدائي ، فإنه مدرك تماماً لضرورة أن  يفعل هذا للتخفيف من الاتجاهات والنزعات العنيفة . شارون على دراية بالصورة الكبيرة . لقد شرح لي الناطق باسم مكتبه ومستشاره السيد رعنان جيسين هذا الأمر الأسبوع الماضي قائلاً : " لا يمكننا أن ننفصل كليّاً عن المناطق ونقفل عليها ثمّ نتكلم عن التطور الاقتصادي والرخاء . نحن نعلم بأنّه يجب أن يكون للمناطق الفلسطينية حدوداً مفتوحةً مع مصر والأردن . ولقد وجدنا حلاًّ لمعبر غزّة الحدودي مع مصر وسنجد حلاًّ للمعابر الحدودية مع الأردن في الوقت المناسب " . هذا طبعاً سيترك ، كما قالت السيدة أشير سوسر :" ثلاث قضايا ملحّة لا تستطيع إسرائيل أن تحلها من جانب واحد وهي : الحدود النهائية والقدس واللاجئين ".             وبالنسبة للفلسطينيين ، فإن إنشاء حزب " كاديما " مع شارون على رأسه يقدم وعداً حقيقياً لحل دائم لنزاعهم مع إسرائيل . وللوصول إلى هذا الهدف ، ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تتعاون مع إسرائيل ، مثلاً في مساعدتها للقيام بمزيد من تفكيك المستوطنات القائمة حاليّاً في الضفة الغربية . وهذا سيترجم أيضاً إلى "القيام بكل جهد للتركيز على التطور الاقتصادي الذي بدونه لن يدوم أي سلام" كما أشار لي السيد أوري سافير ، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية والرئيس الحالي لمركز بيريس للسلام . وبما أن المجتمع الإسرائيلي والسياسيين في إسرائيل يتفاعلون بشدّة مع التصرفات الفلسطينية ، فإن أية زيادة في العنف ستقوي فقط اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو أو آخرين من اللذين تمنعهم قناعاتهم الإيديولوجية من القيام بأية تنازلات إقليمية ذات أهمية . احتواء العنف ، إن لم يكن القضاء عليه ، يجب أن يكون على رأس أولويات أجندة السلطة الفلسطينية . هذا ويجب على السلطة الفلسطينية في نفس الوقت أيضاً أن تبدأ بتغيير نبرة وسائل إعلامها الشعبيّة فيما يتعلق بحق العودة بصورة خاصّة وذلك لإدراكها تماماً بأنّ إسرائيل لا يمكنها أن تقبل ذلك ببساطة وتبقى دولة يهودية ، وهذا هو الهدف الذي يشكل صلب حزب شارون الوسط . ولذا ، على القيادة الفلسطينية أن تبدأ بتوضيح الحقيقة للشعب الفلسطيني فيما يتعلق بفكرة العودة وتركز بدلاً من ذلك على إعادة توطينهم وتعويضهم .            ستجيب الانتخابات البرلمانية التي ستعقد في إسرائيل يوم 28 آذار( مارس)  السنة القادمة على تساؤلات عديدة . ويبدو أن القدر عند هذه النقطة سيسير بشارون إلى فوز بفارق جوهري لصالحه . وتتوقع بعض استطلاعات الرأي أن حزبه الجديد قد يفوز بِ (45) مقعداً أو أكثر في البرلمان . وبصرف النظر عن نتيجة هذه الانتخابات ، هناك حقيقة ستبقى ثابتة بدون أي تغيير وهي أن خارطة إسرائيل السياسية لن تبقى كما هي أبداً . ففكرة حل الدولتين الذي جاء موعده الآن  وذكر مراراً وتكراراً وتناولته الألسن في مناسبات عديدة سيصبح مع أمن إسرائيل الهدف الوطني لها ، وإن لم يكن هذا لأي سبب آخر ، فليكن فقط للحفاظ على الذات. 

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE