All Writings
يوليو 5, 2011

هل ما زالت المصالحة التركية – الإسرائيلية

بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر

أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية

بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط

بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

 

            إنّ شروع المسئولين الإسرائيليين والأتراك بتجديد الحوار في وقتٍ تسود فيه الاضطرابات الشديدة والثورات في جميع أنحاء الشرق الأوسط هو أمر لم يأت صدفةً طبعاً، فإسرائيل وتركيا مرساتان نادرتان للاستقرار في منطقة تتزايد فيها الاضطرابات. ومع "الربيع العربي" تتضّح المصالح الاستراتيجية المشتركة لإسرائيل وتركيا أكثر من أي وقتٍ مضى، وبالأخصّ مع الاضطرابات الجارية في سوريا المجاورة. هذه المصالح تخدم لرفع كلا الجانبين اجتيازاً للعوائق التي كانت حائلاً لمصالحتهما منذ حادثة الباخرة مرمرة يوم 31 أيار (مايو) 2010. ومع فهم فوائد تعاونهما وشراكتهما الوثيقة من جديد، فإنّ المصالحة التركية – الإسرائيلية اليوم، إذا قدر للمنطق أن يسود، وشيكة الوقوع .

 

          لقد كانت هناك في الآونة الأخيرة هبّة ً من الإشارات الشعبية بين المسئولين الإسرائيليين والأتراك. ويجدر القول في البداية أنه وعلى ما يبدو تحت ضغط مسئولين حكوميين أتراك قامت "مؤسسة الإغاثة الإنسانية" – وهي الجهة المنظمة لأسطول العام الماضي الذي اتجه إلى غزة – بالإعلان عن أن الباخرة "مرمرة" لن تشارك في الحملة القادمة. وأرسل بعد ذلك بوقتٍ قصير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهولنظيره رئيس الوزراء التركي طيّب أردوغان مذكرة تهنئة لإعادة انتخابه يوم 12 حزيران (يونيو) قائلاً فيها:"ستكون حكومتي سعيدة للعمل مع الحكومة التركية الجديدة على إيجاد حلّ لجميع القضايا العالقة بين بلدينا مع أمل إعادة ترسيخ تعاوننا وإعادة تجديد روح الصداقة التي ميّزت العلاقات بين شعبينا لأجيال عديدة". ظهرت بعد ذلك تقارير مفادها أن نائب رئيس

 

-2-

 

الوزراء الإسرائيلي موشي يالون قد أجرى مباحثات ذات طابع خاصّ مع وكيل وزارة الخارجية التركية فريدون سنيرليوغلو بخصوص وثيقة مصالحة من حكومة لحكومة. وعبّر في الآونة الأحيرة نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون – الذي أهان بصورة مشينة سفير تركيا لدى إسرائيل أمام الصحفيين ومراسلي وكالات الإعلام بتجليسه على مقعد منخفض – لمجموعة من الصحفيين الأتراك أثناء قيامهم بزيارة للقدس عن مشاعره بالقول: "أعتقد بأن ما فقدناه خلال السنوات القليلة الماضية هو الثقة. والآن نحن بحاجة إلى تجاوز هذه اللعبة من اللوم المتبادل لمعرفة سبب فقدان هذه الثقة."

 

          وبالرّغم من التقارير العامّة في الآونة الأخيرة التي تتحدّث عن حوار بين الجانبين، فإنّ القنوات الخاصّة كانت تتابع بثبات هذا الحوار منذ حادث الباخرة "مرمرة". والذي حال دون التّوصل لحلّ الخلاف التركي – الإسرائيلي حتّى الآن هو إصرار تركيا على اعتذار رسمي إسرائيلي وتعويض عائلات اللذين قُتلوا على ظهر الباخرة "مرمرة". لقد صيغ العديد من مسودات البيانات المتوازنة حول الاعتراف الإسرائيلي، غير أنّ الإسرائيليين كانوا دائماً يرفضون مطلب الاعتذار الصريح، علماً بأنّ لجنة داخلية من طرفهم لتقصي الحقائق قد بيّنت بأنّ قوات الدفاع الإسرائيلية قد تصرّفت بطريقة الدفاع عن النفس. وقد عارض بصورة خاصّة وزير الدفاع إيهود باراك الاعتذار على أساس أنّه يعترف ضمناً بارتكاب قوات الدفاع الإسرائلي أخطاء في حين أنّها لم تفعل ذلك، بينما عارض وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، المعروف بافتقاره للتعاطف والإنسجام مع تركيا، فكرة الاعتذار من حيث المبدأ فقط.

 

          وبالرّغم من أنّ هناك مأزق في الجهود الرامية لإيجاد صيغة مناسبة لوثيقة المصالحة، فإنّ كلّ من الطرفين يحافظ بشدة على العلاقات القوية. فبالرّغم من أن سفير تركيا لدى إسرائيل لم يعد بعد إلى تل أبيب والسّياح الإسرائيليون توقفوا كلياً تقريباً من السّفر إلى مدن السواحل التركية، فقد أبقت إسرائيل سفيرها غابي ليفي في أنقرة والروابط التجارية نمت حتّى بدون أية إعاقة بسبب المشاحنة السياسية والشعبية. وبالفعل، فقد زادت التجارة

 

-3-

 

المتبادلة بين البلدين بنسبة (25%) في الفترة ما بين 2009 و 2010 وارتفعت بنسبة (40%) خلال الربع الأول من العام الحالي 2011. فبعلاقة مبنيّة على أساس روابط تاريخية قوية واتصالات خصوصيّة مستمرّة ونمو اقتصادي لا يبق للخروج من المأزق السياسي سوى إدراك الضرورة الملحّة بوضوح على وضع مصالحهما المشتركة فوق مواقفهما السياسيّة الوطنيّة.

          وهذا ما حدث تماماً نتيجة "الربيع العربي". فتركيا تدرك أنّها إذا أرادت أن تلعب دوراً قيادياً في الشرق الأوسط، وبالأخصّ في صحوة الانتفاضات العربية الشعبية، وتبقى مؤثرة رغم ذلك في صنع السياسة الإسرائيلية، ليس لها خيار سوى التعامل مع إسرائيل بصفتها لاعب رئيسي في الساحة السياسية وذلك لحلّ العديد من النزاعات والخلافات الإقليمية، شاملة تلك التي تجري الآن على طول الحدود التركية. وتركيا تدرك أيضاٍ بأن اتصالاتها ومدّ يدها  للأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط لم تكن ناجحة تماماً. هناك مخاوف متنامية بين الأتراك بأن الروابط الثنائية التي أنشئت وتعزّزت مع بلدان العالم العربي لم تبنَ فعلاً على أيّ أساس ديمقراطيّ صلب. فالمستقبل المجهول يكتنف بصورة خاصة جارتها سوريا التي نمت علاقتها مع تركيا في السنوات الأخيرة بصورة هائلة. فإذا انهار نظام حكم بشار الأسد، وهو أمر محتمل، ستكون أصداءه وعواقبه على تركيا  وخيمة كما يبيّن ذلك تدفق اللاجئين السوريين عبر الحدود المفتوحة مع تركيا. إنّ تركيا الآن بحاجة إلى قوّة تعمل على الاستقرار وهو أمر على إسرائيل أن تقدّمه. لم تكن تركيا حتّى الآن قادرةً على التّقدم إلى الأمام في إعادة تثبيت الروابط  بينها وبين إسرائيل ولو جزئياً بسبب خطابات الحملة الانتخابية الشعبيّة المستمرة. ولكن مع إعادة انتخاب أردوغان وتزعمه حزب الحريّة والعدالة، فقد زادت قدرة  أردوغان لإعادة الروابط مع إسرائيل من موقع أكثر قوّة من ذي قبل. وبفعله ذلك يزيد من حقّ مطالبة  تركيا بقيادة إقليمية.

 

          وبالنسبة لإسرائيل فإن فوائد إعادة العلاقات مع تركيا واضحة أيضا، فبإمكان تركيا مساعدة إسرائيل في العديد من القضايا التي تتعلّق بأمنها القومي وذلك ابتداءً من محاولات الفلسطينيين كسب اعتراف الأمم المتحدة بدولتهم إلى برنامج حماس السياسي وتشكيل

-4-

 

حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى الثورة في سوريا وانتهاءً بطموحات إيران النووية. تستطيع تركيا في جميع هذه المجالات والقضايا أن تلعب دوراً حيويّاً وهي توّاقةٌ لفعل ذلك. والتقارير التي مفادها بأنّ الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء التركي طيب أردوغان قد قاما بتعزيزالحوار بينهما يدل على أنّ الولايات المتحدة تدرك أيضاً فوائد تجهيز تركيا بآليات وأدوات القيادة التي تحتاجها لممارسة نفوذها في المنطقة بطريقة من شأنها أن تدعم المصالح التركية والإسرائيلية المشتركة.

 

          كيف ستكون العلاقات المتجددة بين تركيا وإسرائيل على ضوء خطوات المصالحة بين البلدين؟ أولاً، ستقوي علاقات تركيا مع إسرائيل الدور التركي كوسيط إقليمي، وبصورة خاصّة ما بين الفصائل الفلسطينية. الدّليل على ذلك زيارات خالد مشعل زعيم حركة حماس ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس في الآونة الأخيرة إلى تركيا خلال قيام أنقرة بمساعي لمساعدة المصالحة بين الطرفين. زد على ذلك أيضاً البيان المعتدل الصادر عن نائب وزير الخارجية الإسرائيلي أيالون فيما يتعلّق بتواصل تركيا مع حماس حيث قال للصحفيين:"لا يحق لنا أن نقول لتركيا بألاّ تقوم باتصالات مع الفصائل الفلسطينية المختلفة"، وإذا نجحت تركيا في تحويل حماس إلى حركة معتدلة قال:"سنقبّل يدي كل مواطن تركي". وبالفعل، فإن دور تركيا كصوت مستقرّ وذو نفوذ في العالم الإسلامي يضعها في موقع متقدّم للتواصل مع حماس وللبروز ثانية كوسيط  له تأثير في النزاعات.

 

          ثانياً، أمام تركيا وإسرائيل خياران لا ثالث لهما: فإمّا التوصّل إلى صيغة تعبّر إسرائيل بموجبها عن "عميق أسفها" لحادثة الأسطول وتعرض تعويضاً لعائلات  من قتلوا على ظهر الباخرة "مرمرة"، أو يتفق الطرفان على اعتذارٍ إسرائيلي مناسب للموت الغير مقصود  لتسعة أتراك دون وضع اللوم مباشرةً على إسرائيل. وفي أيّ من هذين السيناريوهين، فإنّ الأمر يدعو كلاً من الطرفين للتقليل من أهمية نتائج التقرير القادم للأمم المتحدة حول حادثة الأسطول وذلك للحيلولة دون قيام نتائج هذا التقرير من إعادة إثارة المشاعر الوطنية التي

 

-5-

 

قامت على تفريق الجانبين. وبصرف النظر عمّن سيُلام، فإنّ إعادة التركيز على الحادثة سيفرّق فقط بدلاً من أن يُجمّع ويعزّز مصالح البلدين. وأخيراً، ولإنهاء ذوبان العلاقات الجليديّة قد يقوم الرئيس التركي غول – لربّما كردّ على رسالة التهنئة التي بعث بها نتنياهو لأردوغان – بإرسال دعوة للرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس لزيارة أنقرة. قد تنهي هذه الزيارة سلبيّات المشادّة الكلامية الغير موفقة التي حدثت بين أردوغان وبيرس في خضم الجدل الشعبي الذي تمّ بعد الحرب على غزّة أثناء مؤتمر دافوس بحيث يتم لقاء بينهما في أنقرة يقوم فيه الرجلان بتجديد الروابط التاريخية بين بلديهما.

 

          قد يزول التوتر تماماً في العلاقات بين البلدين بفعل العاصفة الحالية التي تبيّن بوضوح المصالح المشتركة الإسرائيلية – التركية في المنطقة وذلك بالنظر للتطورات في سوريا وفي المناطق الفلسطينية وإيران وأرجاء أخرى في المنطقة. وفي حين أنّ الاعتزاز الوطني لكلا الشعبين قد تأثّر كثيراً من التوتر الذي أخذ مجراه في فترة السنة والنصف الأخيرة، غير أن لكلا البلدين قادة أقوياء مهمتهم راحة وزيادة رخاء شعوبهم بالمساعدة على إعادة ترسيخ العلاقات التي تخدم دفع المصالح المشتركة لكلا البلدين.

 

          وفي الوقت الذي ينزل فيه العالم العربي إلى الشوارع بحثاً عن الديمقراطية، فإنّ لدى البلديه اللذين يتمتعان بديمقراطية راسخة في المنطقة فرصة فريدة من نوعها للعمل معاً الآن كأعمدة للاستقرار والعودة للعمل من أجل التقدّم بالأمن والسّلام في منطقة تسيطر عليها الفوضى وعدم الاستقرار.

 

__________________________________________________________

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE