All Writings
سبتمبر 5, 2011

سياسات إنتحاريّة مؤكّــدة

 

        لا يشكّ أيّ مراقب سياسي للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بأنّ حكومة نتنياهو والسلطة الفلسطينيّة يسعيان منذ ثلاثين شهرا ً وراء سياسات انتحاريّة. وفشل الرئيس باراك أوباما في إقناع الإسرائيليين والفلسطينيين للعودة إلى مفاوضات جادّة قد أضاف طبقة أخرى سميكة من الشكّ وعدم اليقين إلى الجوّ القاتم السائد حاليّا ً.  وقرار السلطة الفلسطينيّة الذهاب للأمم المتحدة سعيا ً وراء الإعتراف بدولة فلسطينيّة سيجعل الأمور على الأرجح تسوء وتقود الطرفين إلى "خندقة" نفسيهما والتشبّث بمواقف متصلّبة بعيدة الأمد قد تؤدي باحتمال ٍ كبير إلى دورة ٍ جديدة من العنف.

 

          لقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يعمل بجديّة لخلق وضع ٍ لنفسه يوحي بأنّه مستعدّ للدخول فورا ً في مفاوضات سلام ٍ إذا عاد فقط رئيس السلطة الفلسطينيّة، محمود عبّاس، لطاولة المفاوضات بدون شروط. ولكن نتنياهو وضع بعد ذلك شروطه الخاصّة خالقا ً عقبات جديدة أمام المفاوضات. إنّه يطالب الإعتراف بإسرائيل "كدولة يهوديّة" في بداية المفاوضات حتّى ولو لم يكن ذلك أبدا ً مطلبا ً في مفاوضات السّلام السابقة مع الفلسطينيين.

 

          يرفض نتنياهو قبول حدود عام 1967 كالخط الأساسي للتفاوض على حلّ الدولتين مع بعض عمليّات تبادل الأراضي. إنّه يصرّ على أنّ وضع القدس في المستقبل غير قابل للتفاوض وأنه يجب أن يُسمح لإسرائيل بالإحتفاظ بقوات عسكريّة على طول نهر الأردنّ. وإبّان ذلك

 

رفض نتنياهو حتّى إعادة النظر في تجديد إسمي لتجميد البناء في المستوطنات لاختبار تصميم عبّاس حول الدّخول في مفاوضات جديّة.

 

          لقد قال نتنياهو في الواقع القليل وعمل حتّى ما هو أقلّ لإقناع الفلسطينيين بأنّ رغبته المعلنة في حلّ الدولتين رغبة حقيقيّة. لقد قاد شعبه بمهارة للإعتقاد بأنه من الممكن الإبقاء على الوضع الراهن وقد يكون حتّى ذات نفع ٍ لدولة إسرائيل. لقد بيّن بالطبع الهجوم الإرهابي الشائن في ايلات وتبادل النار بين إسرائيل وحماس على طول الحدود مع غزّة وتدهور العلاقات مع مصر ما هو عكس ذلك. وللتأكيد، فقد أعطى نتنياهو الفلسطينيين الشيء الكثير من الذخيرة لاستخلاص ما يفيد بأنّه ليس هناك شريكا ً إسرائيليّا ً حقيقيّا ً. وبالرغم من أنّ شعبيّة نتنياهو قد انخفضت نوعا ً ما في الأسابيع القليلة الماضية على خلفيّة الإحتجاجات المدنيّة، غير أنّه يبقى للكثير من الإسرائيليين هذا النوع الصّلب من القادة المطلوبين "للإبحار" بإسرائيل عبر محيط ٍ "هائج". هو لا يعمل في الواقع لتحسين فرص وإمكانيّات السّلام الحقيقي الذي يتوق له معظم الإسرائيليين. ونتيجة لذلك تزداد عزلة إسرائيل في الساحة الدوليّة أكثر من أيّ وقت ٍ مضى وعلاقتها مع الولايات المتحدة علاقة متوتّرة. أضف إلى ذلك، فقد هبط الرأي العام السلبي حول إسرائيل في أوروبا إلى أعماق غير مسبوقة.

 

          لم يقم الفلسطينيّون، وللأسف الشديد أيضا ً، بشيء ٍ أفضل من ذلك بكثير. لقد استمرّوا بحملتهم في تشويه تاريخ الصّراع. أخذوا يعملون ليل نهار لتخليد خيالهم الجامح بعودة اللآجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل بحيث لم يقدّموا لإسرائيل أيّ سبب ٍ للإعتقاد بأنّ حلّ الدولتين برؤيتهم هو بالفعل نهاية الصراع. أضف إلى ذلك، فقد فشلوا بطريقة مزرية في الظهور جبهة موحّدة ملتزمة فعلا ً بسلام ٍ دائم. فما زالت حماس – بالرغم مما يدعى "اتفاقيّة الوحدة" التي تتهاوى تدريجيّا ً حتّى أصبحت عبئا ً كبيرا ً على السلطة الفلسطينيّة – مستمرّة في الدعوة لتدمير إسرائيل وترفض نبذ العنف كوسيلة لتحقيق هدفها الوطني. أضف إلى ذلك، وخلافا ً لما ذكره الرئيس محمود عبّاس في لقائه مع جريدة "نيويورك تايمز" يوم 16 أيّار


 

من هذا العام فإن الفلسطينيين هم الذين رفضوا خطّة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947 والدول العربيّة هي التي أعلنت الحرب على إسرائيل في عام 1948.

          وللتأكيد، لم يكن أيّ من الطرفين راغبا ً أو قادرا ً على الموافقة على قواعد مفاوضات حسن النيّة لتأييد رغبتهم المعلنة في الدّخول في مفاوضات ٍ جادّة لعقد اتفاقية سلام ٍ تفي بمتطلبات الأمن الأساسيّة لكلّ من الطرفين ولاستقلاله السياسي.

 

          وظاهرة التوجّه المحموم للجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة مذهلة بالفعل. لقد قاد نجاح رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فيّاض في بناء مؤسسات الدولة إلى دعم ٍ دولي متنام ٍ لمبادرة الدولة الفلسطينيّة. ونظرا ً لأن الفلسطينيّين لا يعتقدون بأنّ نتنياهو جادّ في موضوع حلّ الدولتين، فإن كلا الطرفين مقتنع ٌ بالتساوي بأنّ إخفاق أوباما في إقناع نتنياهو أو الضغط عليه لتغيير موقفه قد نال من قدرته في التوسّط لحلّ الصّراع بطريقة فعّالة.

 

          وعليه فقد تُرك الفلسطينيّون دون أيّ خيار ٍ آخر سوى اللجوء للأمم المتحدة في محاولة ٍ منهم للحصول على اعتراف ٍ بدولتهم. هم متمسّكون بأن اعتراف الأمم المتحدة بدولتهم سيدوّل القضيّة الفلسطينيّة ويفتح الباب لأطراف ٍ ثالثة مثل الإتحاد الأوروبي ليلعب دورا ً أكثر فعاليّة. الفكرة، كما ذكر محمود عبأس، هي تمهيد "ميدان اللعب" والدخول ثانية في المفاوضات مع إسرائيل كندّ، أي متساو ٍ معها في الحقوق والإلتزامات. ومن المفترض أن تتمكّن الدولة الفلسطينيّة من الضغط على إسرائيل من خلال محكمة الجنايات الدوليّة وغيرها من المحافل الدوليّة. ومما زاد من جرأة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس الذهاب للأمم المتحدة هو استعداد أكثر دول العالم تعدادا ً للسكان للإعتراف بالدولة الفلسطينيّة حيث لم يبق من العشرين دولة سوى خمسة وهي: الولايات المتحدة، اليابان، المكسيك،  ألمانيا وتايلاندة.

 

          ولكن مهما كان بديل الأمم المتحدة "مخلصا ً" أو "منصفا ً" ما سيحدث بعد تصويت الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة قد يكون أكثر شؤما ً مما يتخيّله الفلسطينيّون. قد تقوم

 

إسرائيل بعد ذلك مباشرة ً كردّ فعل بضم أجزاء من الضفّة الغربيّة لأراضيها كما اقترح ذلك عضو الكنيست داني دانون، الأمر الذي قد يحدث بدوره ردّ فعل ٍ دفاعي عنيف من طرف الفلسطينيين أنفسهم. وقد تردّ إسرائيل على ذلك بحجز تحويلات الضرائب والجمارك المستحقّة للسلطة الفلسطينيّة.

          أمّا بالنسبة للساحة الأمريكيّة، فمن المحتمل جدّا ً أن يقوم الكونغرس الأمريكي بوقف المساعدات عن السلطة الفلسطينيّة وعن قوّات الأمن إذا لم تستمرّ في التعاون مع إسرائيل. وقد يضيف هذا كلّه وقودا ً على الأزمة الماليّة الخانقة التي تواجهها السلطة الفلسطينيّة في الوقت الحاضر. حتّى ولو لم تنقطع المساعدات من الولايات المتحدة وغيرها من المانحين الغربيين كليّا ً، يمرّ الفلسطينيّون الآن باختبار مالي بالنسبة لإقامة دولتهم، ولكن بعد تصويت الأمم المتحدة من المرجّح أن يصبح الوضع أكثر سوءا ً.

 

          ومع ارتفاع سقف التوقّعات بأنّ الإحتفال بيوم الإستقلال الفلسطيني يلوح في الأفق ستكون خيبة الأمل بين الفلسطينيين كبيرة عند استمرار الإحتلال الإسرائيلي ما بعد الإعتراف الأممي ولربّما بوتيرة أشدّ من ذي قبل.

 

          لقد حشر رئيس السلطة الفلسطينيّة، محمود عبّاس، نفسه في زاوية ضيّقة. فترجيع التقدّم الذي تمّ إحرازه في الضفة الغربيّة إلى الوراء قد تكون خطوة ً خطيرة. لقد تمّ الآن التخطيط والإعداد للعديد من الإحتجاجات ومظاهرات التضامن التي تشبه إلى حدّ ما تلك التي جرت يوم النكبة. وما قد يبدأ بحركة سلميّة خالية من العنف قد يتطوّر إلى انتفاضة ثالثة عنيفة. وشرعت إبّان ذلك الحكومة الإسرائيليّة بتدريب وتسليح مجموعات في المستوطنات تحسّبا ً لعنف فلسطيني قد يشتعل بصورة مقصودة أو عرضيّة.

 

          أجل، أصبح الفلسطينيّون وإسرائيل ضحايا سياساتهم الإنتحاريّة التي تقوّض الشرط الأساسي الذي قد يُقام عليه سلام دائم وعادل. فإذا أراد نتنياهو وعبّاس منع الأمم المتحدة من

 

اتخاذ أي إجراء قد يضرّ بمصالحهما الوطنيّة على حدّ سواء، عليهما الإتفاق على المقترحات الواقعيّة التي عرضها الرئيس أوباما أخيرا ً في خطاب ٍ له للبدء – بدعم ٍ من الرباعية الدوليّة – بمفاوضات حول الحدود والأمن. سيحلّ التفاوض على الحدود أوّلا ً الوضع المستقبلي لأكثر من 70 % من المستوطنات الحرجة بالنسبة للفلسطينيين وستهدّىء أيضا ً مخاوف إسرائيل الأمنيّة التي تعتبر ذات أهميّة قصوى للإسرائيليين. وقد تنجح فقط آخر جهود إدارة أوباما في الوقت الحاضر لمنع كلا الجانبين من الإنزلاق في الهاوية إذا أدرك الطرفان المسار الخطير الذي اختاراه واتفقا على الجلوس وجها ً لوجه ومواجهة ما لا بدّ منه.

          يجب على كلا الطرفين وضع ورق اللعب مكشوفا ً على الطاولة وأن يظهرا علنا ً بأنهما مستعدّان وراغبان وقادران على القيام بالتنازلات اللازمة التي من شأنها أن تؤدي إلى اتفاقيّة سلام ٍ دائمة مهما بدا ذلك مستحيلا ً في الوقت الحاضر. والتوصّل إلى هذا الحلّ الوفاقي قبل تصويت الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة على الطلب الفلسطيني بعد حوالي أسبوع هو أمرٌ ضروري لمنع الإسرائيليين والفلسطينيين من التسابق نحو مستنقع ٍ جديد بعواقب ٍ لا يمكن التكهّن بها .

 

______________________________

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE