All Writings
فبراير 9, 2009

العنف ولعنة المستوطنات( الجزء الثاني)

بقلم: أ.د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليــــــــة

لتحقيق تقدّم جاد نحو اتفاقية وضع نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين، يجب على جورج ميتشيل أولاً العمل على إعادة بناء الثقة في العملية السلمية بعد أن دمرت هذه الثقة تماماً سنوات طويلة من الفوضى والدّمار. وللوصول إلى ذلك، عليه أن يعالج القضيتين الرئيسيتين الحساستين اللتين يضع عليهما الإسرائيليون والفلسطينيون أهمية كبرى وهما: إنهاء العنف وتغيير سياسة الاستيطان جذرياً.

لقد كانت قضية المستوطنات بصورة مستمرة مثيرة للمشاكل ليس فقط بين إسرائيل والفلسطينيين بل أيضاً داخل إسرائيل نفسها. ليس هناك قضية أخرى قوّضت ثقة الفلسطينيين في العملية السلمية أكثر من المستوطنات. وبالنسبة للإسرائيليين، تعتبر المستوطنات والتوسع بها موضوعاً مثيراً للعاطفة بدرجة كبيرة ومشحوناً سياسياً. ستواجه أية حكومة إسرائيلية مستقبلية معارضة عنيفة من حركة المستوطنين التي تمارس في إسرائيل قوّة تفوق حجمها على سياسة الحكومة باتجاه نشاطات هذه الحركة.

ومن الناحية المثالية، فإن بناء هيكليّة سليمة للسلام وغرس الثقة في العملية التفاوضية يتطلب تجميداً تاماً لجميع النشاطات الاستيطانية بما في ذلك البلوكات الاستيطانية التي ترغب إسرائيل في ضمها إلى أراضيها في اتفاقية تبادل أراضي لتعويض الفلسطينيين عن الأراضي التي أقيمت عليها هذه المستوطنات. ولكن ما يُقال شيء، وما قد يُنفذ شيء آخر. ولتقديم بعض الاقتراحات العملية، من الضروري تحليل حركة المستوطنين إلى مكوناتها الثلاثة الرئيسية. فبالقيام بذلك يمكن التوصل واقعياً إلى بعض الحلول المرحلية التي تبيّن للفلسطينيين بأن إسرائيل تنوي تغيير سياستها الاستيطانية وإخلاء الأغلبية العظمى من أراضي الضفة الغربية.

المستوطنون اللذين يبحثون عن "نوعية أفضل للحياة" هم اللذين انتقلوا إلى الضفة الغربية لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى وأغلبيتهم يعيشون في البلوكات الاستيطانية القريبة من الخط الأخضر. واستناداً إلى إحصائيات منظمة "السلام الآن"، يعيش في الوقت الحاضر حوالي 190.000 مستوطن في هذه المستوطنات التي لا يعتبر العديد منها بمثابة "مستوطنات" بالمفهوم الضيق بل

أصبحت رسمياً مدناً وسميت بذلك لأن كل واحدة منها أصبحت الآن "موطناً" لأكثر من 30.000 نسمة مثل معالي أدوميم ومودعين وبيتار. يترك مسار السياج الأمني معظم هذه المستوطنات على الجانب الإسرائيلي من السياج. والضغط على الحكومة للسماح بالنمو الطبيعي في هذه المستوطنات كبير جداً ولا تستطيع أية حكومة إسرائيلية على الأرجح تجميد التوسع الطبيعي لهذه المستوطنات كلياً حتى لو كان ذلك تحت ضغط أمريكي شديد.

أما بالنسبة للمستوطنين "الإيدولوجيين" فهؤلاء يأتون بالدرجة الأولى بحجج دينية لتبرير المستوطنات ووجودهم في الضفة الغربية. إنهم ينظرون إلى عودة اليهود إلى أرض إسرائيل بمثابة تنفيذاً لوصية الله ويحتلون المستوطنات الواقع أغلبها في أقصى عمق الضفة الغربية والقريبة جداً من المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان أو غالباً الواقعة في قلب هذه المناطق. من الواضح تماماً أن الدّعم الشعبي لهذه المستوطنات في تناقص الآن، فهناك أغلبية متزايدة من الإسرائيليين تميل إلى قبول الحقيقة التي مفادها بأن على إسرائيل إخلاء معظم هذه المستوطنات الصغيرة المنتشرة كالنقاط في جميع أرجاء الضفة الغربية والتي يقارب عددها المائة مستوطنة.

أما فيما يتعلق بالمستوطنين الأرثوذكس المتطرفين في الضفة الغربية فهؤلاء يبحثون بالدرجة الأولى عن مساكن رخيصة ومعزولة وواقعة بجوار الخط الأخضر. هؤلاء من سلالة يهود متدينين وأتقياء يعارضون التغيير والتعصير. لقد رفض هؤلاء من الناحية التاريخية النظرية الصهيونية ومستمرون في الاعتقاد بأن طريق الخلاص اليهودي يتم عبر النشاط الديني لا النشاط العلماني. وهناك ثماني مستوطنات للأرثوذكس المتطرفين أقيمت في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم ويعيش فيها حوالي 80.000 نسمة وجميعها واقعة ضمن بلوكات المستوطنات التي تريد إسرائيل ضمها إلى أراضي إسرائيل. وتنمو هذه المستوطنات في الوقت الحاضر أسرع من غيرها بسبب زيادة المواليد فيها بالدرجة الأولى.

آخذاً بعين الاعتبار ميول المستوطنين الإيديولوجية ومواقع المستوطنات، على السيد ميتشيل أن يركّز على أربعة مجالات ممكنة يستطيع أن يقنع من خلالها الحكومة الإسرائيلية القادمة أن تتخذ إجراءات عملية، هذا آخذاً في الحسبان أيضاً الضغوط السياسية التي ستعمل في ظلها أية حكومة إسرائيلية إئتلافية قادمة.

أولاً، على السيد جورج ميتشيل أن يدفع باتجاه تفكيك جميع البؤر الاستيطانية الجديدة والغير قانونية. وبإمكان الحكومة اتخاذ هذا الإجراء دون
خسارة الكثير من المواقف السياسية وباستطاعتها دون شك تبرير هذا الإجراء بالتنويه إلى الضغط الأمريكي الممارس عليها. لقد كان الانتشار العشوائي للبؤر الاستيطانية الجديدة مصدراً فظيعاً للإحباط الفلسطيني على مرّ عشرات السنين الماضية لأنه كان يعني لهم المزيد من التطويق والاعتداء على حقوقهم بدلاً من فك الارتباط معهم.

ثانياً، يجب أن يكون على الأجندة الإسرائيلية بعد ذلك إزالة التجمعات الصغيرة من المستوطنات التي يحتلها مستوطنون "إيديولوجيون" في أماكن مثل نابلس والخليل والتي تعتبر مصدر قلق وإزعاج وذو عبء ثقيل على قوات الأمن الإسرائيلية. تقع جميع هذه المستوطنات في عمق الضفة الغربية ويعتقد معظم الإسرائيليين بأنه يجب في نهاية الأمر إخلاء هذه المستوطنات أمام أي اتفاق سلام.

ثالثاً، على إسرائيل أن تخلق برنامجاً تشجيعياً من "النوع التنازلي" يمنح المستوطنين الراغبين طوعاً في نقل مكان سكناهم إلى داخل إسرائيل إضافة إلى سكن مكافىء لسكنهم في المستوطنات – مكافأة إضافية تشجيعية بمقدار مثلا ً 100.000 دولار أمريكي في حالة رحيلهم خلال السنة الأولى من الشروع في تنفيذ البرنامج. ( القيمة المذكورة محسوبة بالاستناد إلى مستوى المعيشة الإسرائيلي ). هذا مع تناقص هذه القيمة تدريجياً بقيمة 25.000 دولاراً أمريكياً كل ستة أشهر بعد ذلك. الفكرة من ذلك هي خلق هجرة معاكسة إلى داخل إسرائيل وفي نفس الوقت تهيئة الجمهور الإسرائيلي نفسياً وكذلك الفلسطينيين لحتمية إنهاء الاحتلال. وفي الوقت الذي لن يقبل فيه العديد من المستوطنين فكرة التعويض هذه وسيحاولون الحصول على صفقة أفضل، على الحكومة أن تبقى حازمة ومصمّمة على قرارها وألاّ تستسلم للابتزاز. وفي نهاية الأمر لن يبقى مفرّ سوى إخلاء هؤلاء المستوطنين بالقوة وبدون أية حوافز.

وأخيراً، وحيث أن التعليق التام لتوسيع المستوطنات قد يكون أمراً صعب الدفاع عنه، غير أن بإمكان الولايات المتحدة ممارسة ضغط كافٍ على إسرائيل لجعلها حساسة تجاه الحساسيات الفلسطينية وألاّ تبدأ بمشاريع تنموية كبيرة في لحظات حساسة خلال المفاوضات. أثناء ذلك يجب الإسراع في مفاوضات الحدود النهائية للتوصل إلى اتفاقية بشأن المستوطنات التي تنوي إسرائيل ضمها إلى أراضيها. ستسهّل مثل هذه الاتفاقية مع الفلسطينيين وبدرجة كبيرة انتقال المستوطنين " الإيديولوجيين" من مواقعهم الحالية إلى هذه المستوطنات مع احتفاظهم بتأدية رسالتهم الإيديولوجية.

من الأرجح أن يصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، أكان زعيم الليكود
بنيامين نتنياهو أم غيره، تحت ضغط أمريكي مكثف للقيام بتنازلات ذات قيمة من أجل التقدم بالعملية السلمية. وبالرغم من أن نتنياهو كرئيساً للوزراء سيكون مفاوضاً صلباً وسيطالب الإذعان بالمثل من الجانب الفلسطيني مقابل أي تنازل يقوم به، فهو قد يبرهن أيضاً بأنه المحاور الأكثر أهلية وفائدة والمؤتمن أكثر من قبل الجمهور الإسرائيلي. وتجدر الإشارة هنا بأن أكبر التنازلات الإقليمية شأناً – سيناء والخليل وغزة – قد تمّت جميعها تحت قيادة زعماء الليكود بيغن ونتنياهو وشارون على التوالي.

لقد اختتم السيد ميتشيل تقريره في لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق بالكلمات التالية:"على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يعيشوا ويعملوا ويزدهروا معاً يداً بيد. لقد فرض عليهم التاريخ وكذلك الجغرافيا مصير أن يكونوا جيراناً، ولا يمكن تغيير هذا الواقع. وبإمكانهم فقط عندما تكون أعمالهم موجهة بهذا الوعي تطوير رؤية وواقع للسلام والازدهار المشترك".

لم يبدي أي رئيس أمريكي اهتماماً فورياً وبالغاً منذ بداية فترة رئاسته بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني كالرئيس باراك أوباما ولم يتم التوصل حتى الآن لأية اتفاقية بين إسرائيل والدول العربية بدون تدخل أمريكي مباشر. فإذا كان الوقت والظروف والقيادة السياسية تلعب دوراً، فليس هناك أفضل من الوقت الحاضر ومن المعطيات الحالية للتوصل إلى حلّ لهذا الصراع.

 

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE