All Writings
أكتوبر 11, 2013

مواجهة الحقيقة حول مدينة القدس

يبدو بأن المطلعين على مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية المستمرّة أكثر تفاؤلاً من أي وقتٍ مضى حول التوصل لاتفاقية. وهناك من الناحية الأخرى من يعتقد بأنه وبالرّغم من النّخس الأمريكي لن يكون هناك اتفاقية لأن لا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولا الرئيس الفلسطيني محمود عباس في وضعٍ للقيام بالتنازلات اللازمة لصنع السلام ويبقيا سياسياً على الساحة.

أضف إلى ذلك، فإن مستقبل القدس يبقى بؤرة أية تسوية يتمّ التفاوض حولها، الآن أو في أي وقت آخر في المستقبل، وقد يصنع أو يبطل أي اتفاقية يمكن أن يقبل بها شعبا الطرفين، وبالأخصّ المتطرفون بينهم، تكون مخالفة لمعتقداتهم الراسخة.

ولهذه الأسباب هناك حاجة ماسة أن يشارك الطرفان في مباحثات شعبية عامة حول مستقبل القدس لأن الإسرائيليين والفلسطينيين، عاجلاً أم آجلاً، يجب أن يكونوا مستعدين لقبول ما لا مفرّ منه، وهي قدس موحدة تكون عاصمة للدولتين.

ففي مقابلة له في الآونة الأخيرة مع وكالة أسوشيتيد برس أصرّ رئيس بلدية القدس، نير بركات (الذي يدير الآن حملة لإعادة انتخابه) بأن “الطريقة الوحيدة التي لا بديل لها لكي تتمكن هذه المدينة من القيام بوظيفتها هي أن تكون مدينة موحدة ويعامل مواطنوها وزوارها باستقامة ومساواة. إنه النموذج الوحيد”.

وفي الوقت أن هناك صدىً ضعيف بين معظم الإسرائيليين وعند نسبة كبيرة من الفلسطينيين بأن المدينة يجب أن تبقى “موحدة”، فإن ما يقوله نير بركات هو أن القدس لا يمكن أن تنقسم بالجدران والسياجات وتبقى موحدة كعاصمة إسرائيل الأبدية.

إنه يناشد المسئولين الإسرائيليين المشاركين حالياً في مفاوضات السلام مع الفلسطينيين “بسحب أية مفاوضات حول تقسيم القدس من الطاولة”. ولكن شيء مهم جداً يبدو أن بركات تجاهله هو لن يكون هناك سلام إسرائيلي – فلسطيني ما لم يصبح الجزء الأعظم من المدينة القديمة في القدس الشرقية – الذي تعيش فيه أغلبية فلسطينية – عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية.

لن يرفض الفلسطينيون فقط أقلّ من ذلك، بل أنّ جميع الدول العربية ومعظم الدول الإسلامية لن تقبل أية اتفاقية سلام مع إسرائيل تستثني القدس.

الموقف الإسرائيلي:

ما لم يكن تصوّره من وجهة نظر العديد من الإسرائيليين هو التنازل عن أي جزء من مدينة القدس لسلطة أي شعب آخر أو لهيئة دولية حاكمة. هذا الإرتباط الفريد من نوعه والإنتماء للمدينة المقدسة التي كانت ترمز لآلافٍ من السنين للمفهوم اليهودي بالإنعتاق قد خلقا اندفاعاً قوياً عند اليهود لاحتلال المدينة عندما أصبحت في متناول أيديهم خلال حرب الأيام الستة في عام 1967. ويبقى سقوط القدس في صحوة الحرب حدث لا يضاهى عبر التاريخ وأصبح يمثّل الغفران اليهودي. لقد خلق هذا التطور التاريخي صحوة مجددة برّرت المعتقدات الدينية التي كانت راسخة في النفس اليهودية لقرونٍ من الزمن. وتحقيق ما كان يُعتقد أنه حلم بعيد المنال تحت أصعب الظروف يُنظر إليه اليوم على أنه عمل الله القادر على كلّ شيء والذي لا تستطيع أي قوة أن تغيّره.

الموقف الفلسطيني:

بالنظر إلى المعتقدات الدينية المرتبطة بثالث أقدس مكان للإسلام في القدس، وهو المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لن يتنازل الزعماء المسلمون عن القدس الشرقية كعاصمة لدولتهم المستقبلية. يعتقد المسلمون في جميع أنحاء العالم بأن النبي محمد أسرى من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس قبل صعوده إلى السماء. وبالرغم من أن المسجد الأقصى قد شُيّد بعد موت الرسول بفترة طويلة، غير أن سورة الإسراء والمعراج 1:17 تذكر بأن النبي محمد زار الموقع الذي بُني عليه لاحقاً المسجد الأقصى.

ومشكلة أخرى تُضاف إلى المشكل السيكولوجي فيما يتعلق بالقدس هو حسّ الفلسطينيين بالملكية التي لم تنقطع عن القدس لقرون طويلة من الزمن. وخلقت حرب الأيام الستة عام 1967 واحتلال القدس شعوراً مضاعفاً بضرورة استرجاع المدينة القديمة لسكانها اللذين يشكلّون الأغلبية.

الحقيقة على أرض الواقع:

تتطلّب الحقائق الدينية والديمغرافية والفيزيائية والسيكولوجية والسياسية التي تواجه الإسرائيليين والفلسطينيين في القدس في الوقت الحاضر أن تكون المدينة غير مقسّمة ولكن يتقاسمها الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني وتجسّد التعايش السلمي بين الشعبين.

لا يستطيع أي من الطرفين، إسرائيل والفلسطينيين، أن يجتثّ أحدهما الآخر من المدينة المقدسة. فالقدس لا تمثّل فقط أكبر تجمّع حضاري للإسرائيليين والفلسطينيين يتعايشون بسلام جنباً إلى جنب، بل أيضاً بؤرة الصراع الذي يفرقهما.

يجعل الواقع الديمغرافي في القدس الشرقية والغربية تقسيم المدينة أمراً مستحيلاً. ففي حين يتركّز معظم السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية، أكثر من أربعين بالمائة (40%) من سكان القدس الشرقية في الوقت الحاضر هم يهود يعيشون على طول ما يسمّى “خط الإلتحام” الذي كان يقسّم القدس قبل حرب عام 1967.

إضافة إلى هذا الخليط الديمغرافي وبعد ضم المدينة فور انتهاء حرب عام 1967 قامت إسرائيل بتطوير شطري القدس، الشرقي والغربي، كمدينة واحدة بشبكة من الطرق والنقل والخدمات البلدية المتنوعة مثل خطوط الغاز والكهرباء.

لقد أدركت إسرائيل بأن هذه الروابط الهيكلية الإنشائية تجعل من تقسيم المدينة مستقبلاً أمراً مستحيلاً. وبالرّغم من أن الفلسطينيين يدركون أيضاً بأن المدينة لن تقسم جغرافياً، إلاّ أنّهم يسعون لإقامة عاصمتهم في الجزء الشرقي من المدينة.

إنّ تهميش الصراع حول القدس على أنه ببساطة صراع بين المتدينين هو تجاهل الروابط العاطفية والسيكولوجية التي يتقاسمها الإسرائيليون والفلسطينيون في المدينة كصلب طموحاتهم الوطنية.

سيؤيد الإسرائيليون نقل بعض المستوطنين من التجمعات الواقعة خارج البلوكات الإستيطانية الرئيسية في الضفة الغربية، ولكنهم لن يؤيدوا أبداً نقل الإسرائيليين من ضواحي القدس. وبشكلٍ مشابه، لن يتخلّى الزعماء الفلسطينيون أبداً عن مطالبتهم في أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية في القدس الشرقية.

ويتطلب الإجماع حول هذا الموضوع البحث عن طريقة لإنهاء الصراع باقتسام السيادة على المدينة والإعتراف المتبادل باللعبة النهائية، وبالأخصّ في الوقت الحاضر بعد استئناف المفاوضات.

أنا لا أتجرأ على التفكير بأن الإجراءات التالية تمثّل خطة قد تسهل الوصول لاتفاقية حول مستقبل القدس. لقد تمّت مناقشة العديد من الأفكار التالية حول مستقبل المدينة المقدسة بالتفصيل، وما لم يكن موجوداٍ ونفتقره حتّى الآن هو مناقشة عامة متناغمة ومتفق عليها حول النواحي المختلفة لأية اتفاقية. هذا الأمر مهم جداً وبشكلٍ خاصّ لأنه يجب تحضير كلا الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني، من الناحية النفسية لقبول ما لا مفرّ منه، أي مدينة موحدة ولكن عاصمة لدولتين، وتوفير الدعم الشعبي للقادة للتّوصل لهذه الإتفاقية. هذا ويجب في نفس الوقت نزع السلاح من العاصر الراديكالية على كلا الجانبين اللذين قد يلتجئون لأية وسائل، بما فيها العنف، لتقويض هذه الإتفاقية لاعتقادهم بأنهم يتبعون إرادة الله.

يجب أن تبدأ أية اتفاقية بتحويل ما هو على الأرض إلى مؤسسات. وأخذاً بعين الاعتبار التنقل الداخلي الديمغرافي والبنية التحتية للمدينة، فقط القليل جداً قد يتغيّر لإيواء عاصمتين، فالضواحي اليهودية يجب أن تبقى تحت السيادة اليهودية والضواحي الفلسطينية تحت السيادة الفلسطينية.

أمّا بالنسبة للمواقع المقدسة فيجب أن تُدار بصورة مستقلّة من قبل ممثلي دياناتها. ويجب وضع نظام إدارة خاصّ لمنطقة جبل الزيتون ومدينة داود باتفاق متبادل بين الطرفين.

كما ويجب إنشاء قوّة أمن مشتركة لضمان الأمن العام وسلامة أماكن العبادة المقدّسة. ويدير كل جانب أماكن عبادته الخاصة به ويسمح باتفاق متبادل لزيارات متبادلة. يجب ألاّ يكون هناك أية حدود جغرافية أو سياجات أو جدران لفصل القدس الشرقية عن الغربية وتبقى حركة الناس والبضائع حرّة كما هي عليه الآن. وتكون الحدود بين العاصمتين حدود سياسية فقط لغرض تحديد المسئوليات البلدية.

وحيث أن اجتثاث الإسرائيليين أو الفلسطينيين من أماكن إقامتهم الحالية في القدس لا مجال للتفكير فيه تقريباً، يجب التّوصل لاتفاقية لا تسمح بالتشويش على طريقة حياتهم.

من يصبح من الفلسطينيين في نهاية المطاف على الجانب الإسرائيلي (إلاّ إذا كانوا مواطنين إسرائيليين) سيتمتعون بإقامة دائمة في إسرائيل ولكنهم سيدلون بأصواتهم أو يتم انتخابهم في فلسطين. وبالمقابل، الإسرائيليون اللذين يقيمون تحت السيادة الفلسطينية من المدينة سيكونون مواطنين دائمين في فلسطين ويمارسون حق التصويت والإنتخاب في الإنتخابات الإسرائيلية.

تُقام بلدية فلسطينية جديدة لإدارة الجزء الشرقي من المدينة التي تقع تحت اختصاصها وتعمل لجنة مشتركة تمثّل البلديتين لتسهيل حلّ القضايا التي قد تنشأ عن تعايش الطرفين والتي قد تؤثر على أحد الجانبين أو على كليهما.

وبما أن لكلّ طرف قواته الأمنية الداخلية الخاصة به، تعمل وحدات أمن مشتركة على التنسيق والتعاون بخصوص جميع القضايا الأمنية التي قد تحدث وذلك لمنع العنف من أيّ جانب ضد الجانب الآخر والتّوصل لاتفاقية بخصوص كيفية معاملة المجرمين في حالة ارتكابهم جريمة وهروبهم إلى الطرف الآخر. وللتحضير لحلّ على طول هذه الخطوط يتطلّب الأمر جهوداً منسّفة بين مختلف قادة المجتمع المدني والمؤسسات العامة الأخرى. والوقت ليس مبكراً أبداً للشروع بمثل هذه الجهود.

أولاً، يجب على المسئولين صياغة طرق إبداعية. تستطيع الإدارة السياسية والقيادة الجريئة أن تخلق تأييداً شعبيّاً واسع النطاق بواسطة قادة يغيّرون روايتهم الشعبية من رواية تعتبر المدينة غير قابلة للتقسيم وتحت سيادة إسرائيلية مطلقة إلى رواية مدينة يتقاسمها شعبان وترمز للتعايش السلمي بينهما.

وبشكل ٍ مثالي، يجب على المسئولين العامين، الحاليين والسابقين، أن يدعموا علنا ً حلّ “المدينة الواحدة لعاصمتين”. وعلى رئيس الوزراء نتنياهو، إن كان حقاً يؤمن بحلّ الدولتين، أن يكرّر وينشر على نطاقٍ واسع ما صرّح به أمام الكونغرس الأمريكي:” بإبداعية وحسن نيّة يمكن إيجاد حلّ”.

لقد أخبر وزير الدفاع السابق ايهود باراك في أواخر عام 2010 مراسلي صحف بقوله:”القدس الغربية و12 ضاحية يهودية (في الشطر الشرقي من القدس) يعيش فيها حوالي 200.000 يهودي إسرائيلي ستكون لنا. أما الأحياء العربية التي يعيش فيها ربع مليون فلسطيني ستكون لهم”.

ثانياً، للصحافة دور في غاية الأهمية لترويج وتشجيع فكرة “مدينة واحدة لعاصمتين”. على وسائل الإعلام الإسرائيلية الليبرالية بشكلٍ خاصّ أن تجذب انتباه الشعب لحاجة إيجاد حلّ لمستقبل القدس الذي بدونه لن يكون هناك سلام. يجب كتابة المزيد والمزيد من الإفتتاحيات في الصحف والتحاليل العميقة حول الحقيقة التي يجب على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، مواجهتها بشكلٍ حتمي.

ثالثاً: يتطلّب غياب الإرادة والقيادة السياسية مجتمعاً مدنياً لأخذ زمام الأمور. يجب على المنظمات الغير حكومية، بما في ذلك المؤسسات الفكرية والمنظمات الطلابية والمجموعات النسائية واتحادات العمال أن تشرع بحوار متفق عليه حول مستقبل المدينة.

وأخيراً يجب خلق منتديات شعبية عامة لمناقشة وجهات النظر المؤيدة والمعارضة حول مستقبل القدس كعاصمة لدولتين. وبالرّغم من أن هذا الحل قد يكون أمراً لا مفر منه، غير أن نقاش إمكانيات أخرى أمر مهم إن لم يكن لغير أسباب أخرى بل فقط لإظهار احتمال انعدام جدوى خيارات أخرى. قد يكون لمثل هذه الحوارات عبر الوقت تأثير مهم على الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني.

هذه الفكرة ممكنة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بفضل ثورة الإتصالات التي تسمح بنشر المعلومات لملايين الناس خلال دقائق.

من المفروض على المشاركين في مجموعات صغيرة ما بين 15-20 شخصاً أن يضموا بشكل خاص علماء دين، أئمة، حاخامات وقساوسة يمثلون جميع الأديان السماوية الثلاثة، إضافةً إلى مؤرخين متخصصين بالشرق الأوسط. وهؤلاء يجب أن يكونوا مفكرين مستقلين لا يتقلّدون أية مناصب رسمية في حكوماتهم وملتزمين بإيجاد حلّ سلمي ضمن سياق التعايش السلمي. والشرط الأساسي الوحيد هو أن يقبل المشاركون في مثل هذه الحوارات بمبدأ أن القدس يجب أن تخدم عاصمةً لدولتين، والذي بدونه قد لا يتم التوصل إلى سلام.

وللتأكيد، يتطلّب لحلّ مشكلة مستقبل القدس والقضايا الأخرى المتنازع عليها بين إسرائيل والفلسطينين مشاركة شعبية أكبر بكثير. فبإمكان القدس بشكل خاصّ إما أن تخدم “كعلبة قدح” أي مكان سريع الاشتعال بالعنف أو عالم صغير للتعايش والسلام.

ومن المهم أن نلاحظ بأنه بصرف النظر عن مدى ضرورة إيجاد حلّ للقدس فإن أية اتفاقية بين الطرفين يجب أن تنفذ على مدى فترة لا تقل عن ثلاثة أعوام للسماح بتطوّر وتنمية أنظمة هيكلية وسياسية جديدة وبالأخص أجهزة أمنية.

أضف إلى ذلك، فإن اختبار عزم والتزام كل من الطرفين للطرف الآخر قضية مركزية في جوّ خاضع للتحديات وعدم الإستقرار. ولذا يجب على القادة الإسرائيليين والفلسطينيين أن يتعاونوا بشكلٍ تام مع بعضهم البعض وألاّ يسمحوا أبداً للمتطرفين من كلا الجانبين أن يقوّضوا هذا الاتفاق التاريخي.

ولجميع المتشككين أقول بتفاؤل ليس في غير محله: كل شيء ممكن في ظروف السلام الحقيقي والنوايا الحسنة. وفي ظروف العداء وعدم الثقة القليل جداً، إن وجد، ممكن.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE