All Writings
مايو 16, 2016

كيف أصبحت تركيا فعليّا ً ديكتاتوريّــة

تشيراستقالة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو القسريّة إلى شيء واحد فقط وهو أن الرئيس أردوغان، المهووس كليّا ً بتعطشه للسلطة، لن يسمح لأحد في حكومته أن يحيد عن أي من مواقفه السياسية. ورئيس الوزراء داود أوغلو ليس حالة إستثنائيّة. وعلى الرغم من أن الدستور التركي يمنح السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء في حين ترك دور الرئيس شرفيّا ً الى حد كبير. وهذا لم يكن في ذهن عندما طلب آنذاك من وزير الخارجيّة داود أوغلو تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة.

طموح أردوغان وحملته العدوانية لنشر أجندته الإسلامية كانتا دائما ً العنصرين اللذين يحدّدان كل تحرك سياسي قام به. وسعيه لنقل السلطة التنفيذية في البلاد دستوريا إلى الرئاسة هي الخطوة النهائية لتوطيد الحكم بصفة قانونية له، ولو أنه كان يمارس بالفعل هذه السلطة طوال فترة توليه منصب رئيس الوزراء لمدة أحد عشر عاما.

خدم داود أوغلو لأكثر من 15 عاما أردوغان بأقصى درجات الولاء – أوّلا ً كأكبر مستشار لسياسته الخارجية، ثم وزير خارجيته، وعلى مدى العامين الماضيين كرئيس وزرائه.

اختار أردوغان داود أوغلو لهذا المنصب تحديدا لانه توقعه أن يظل له ” الرجل صاحب كلمة نعم”. وكونه في منصب رئيس الوزراء، فإن داود أوغلو سيتولى قيادة حزب العدالة والتنمية. وتوقّع منه أردوغان الضغط من أجل التحول من رئاسة شرفيّة الى حد كبير إلى الموقف التنفيذي الأقوى في تركيا، الأمر الذي إنتهجه داود أوغلو بطريقة فاترة لأن هذا من شأنه أن يقلل دستوريا سلطاته إلى حد كبير.

ليس من المستغرب، عندما تولى أردوغان رئاسة الدولة، أن يستمر في ترأس اجتماعات مجلس الوزراء وحتى أسّس حكومة ظل مع حفنة من المستشارين الموثوق بهم. كان يهمش بوضوح وبشدّة دور داود أوغلو الذي استاء بهدوء من اغتصاب أردوغان لدور ومسؤولية رئيس مجلس الوزراء وكأن شيئا لم يتغير.

أصبح إذن منصب رئيس الوزراء منصباً شرفيّا ً وأصبحت رئاسة الدولة الشرفيّة المنصب الذي يستحوذ على كلّ السلطات بدون تعديل دستوري رسمي يمنحه شرعيّا ً السلطة المطلقة التي يمارسها الآن.

لقد عرفت داود أوغلو من الوقت الذي كان فيه كبير مستشاري أردوغان ولقد وجدت فيه رجلا ً نزيها ً وذو رؤية بعيدة وكان دائما قوة معتدلة وملتزماً بجعل تركيا قوّة إقليميّة تعمل على استقرار المنطقة ولاعبا مهما على الساحة الدولية.

كان لي العديد من الفرص لاجراء محادثات مع داوود أوغلو وجها لوجه حول العلاقات الإسرائيلية التركية حيث شاركت بنشاط وراء الكواليس لتخفيف حدة النزاعات في أعقاب حادثة سفينة مرمرة.

وفي مناسبة أخرى، رتبت لمفاوضات السلام الاسرائيلية-السورية أن تجري بوساطة تركية، ليس فقط بسبب قربها الجغرافي و (في ذلك الوقت) علاقاتها الجيدة مع كل من سوريا وإسرائيل، ولكن أيضا لأنني شعرت أن داود أوغلو سيكون المحاور المثالي.

وعلاوة على ذلك، من خلال لعبه مثل هذا الدور، كان داود أوغلو أيضا متسقاً للغاية مع التزامه لتحقيق فلسفته السياسية التي تتلخّص بشعار: “صفر مشاكل مع الجيران”، الأمر الذي أدى في البداية إلى علاقات تركيا الودية والتعاونية مع معظم جيرانها.

وطموح أردوغان أن يصبح الرّجل الرئيسي في المنطقة من خلال نهجه السياسي المتهور والذي، على أية حال، لم يفعل شيئا بل يخلق مشاكل مع كل بلد مجاور. قال لي مسؤول تركي كبير سابق بأنه لو أعطيت المرونة لداود أوغلو لتنفيذ رؤيته للسياسة الخارجية، لكانت مكانة وسمعة تركيا الإقليمية مختلفة تماما اليوم.

بدأت خلال العامين الماضيين، على أية حال، العديد من النزاعات تطفو على السطح. ففي حين سعى داود أوغلو لتجديد مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني (PKK) في البحث عن حلّ، لم يرفض أردوغان الحلّ مع هذا الحزب فحسب، بل تعهد بشن حرب عليه حتى قتل آخر المتمردين من حزب العمال الكردستاني.

وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن داود أوغلو لم يقل شيئا علناً عن هجوم اردوغان المنهجي على حرية الصحافة وسجن الصحفيين وانتهاكات حقوق الإنسان ولكنه لم يوافق على هذه التدابير غير القانونية وفشل في جهوده لإقناع رئيسه بهدوء لتخفيف الضغط على الصحافة .

إصرار أردوغان على إسكات أي نقد وتقطيعه بثبات ما تبقى من ديمقراطية تركيا قد اغلق من ناحية جوهريّة (على عكس ما كان يقال علنا) أي احتمال لتركيا لأن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي، وهو الهدف الذي سعى داود أوغلو لتحقيقه بكلّ غيرة وحماس.

وعلى رأس ذلك كلّه، يسعى أردوغان الآن لتجريد النواب الاكراد من الحصانة السياسية ليجعل بالإمكان إتهامهم بالتواطىء مع حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل من أجل حكم شبه ذاتي، وهو أمر اعترض عليه داود أوغلو خلسة. والأمر متروك الآن لرئيس الوزراء المقبل لهندسة هذا المخطط غير قانوني لتلبية رغبة أردوغان شديدة القسوة.

وأخيرا، وبينما كان داود أوغلو مشغولاً بجهوده للتوصل إلى اتفاق مع الإتحاد الأوروبي لاستعادة المهاجرين غير الشرعيين مقابل دخول المواطنين الأتراك بدون تأشيرة إلى دول منطقة شنغن، قلّل أردوغان علنا من جهود داود أوغلو لحرمانه من أية مكاسب سياسية يمكن أن يستمدها من نجاحه.

أدان زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال قليتش دار أوغلو، الطريقة التي خرج بها داود أوغلو عنوة ً، مشيرا إلى أن “استقالة داود أوغلو لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها قضية حزب متكاملة. يجب على جميع أنصار الديمقراطية أن يقاوموا إنقلاب القصر هذا “.

ومن المثير للاهتمام، في ما كان ينظر إليه على أنه خطاب وداع للبرلمان، ذكر داود أوغلو أن “لا أحد قد سمع كلمة ضد رئيسنا من فمي، لساني، ورأيي – ولن يفعل ذلك أحد.”

بالنسبة لي ولكثير من المراقبين الآخرين، عبّرت كلمات داود أوغلو العكس تماما مما كان ينوي قوله وهو: إن أردوغان أبعد أو أسمى من الإنتقادات. ليس هناك طريقة دبلوماسية أفضل لوضعها بهذا الشكل وإلاّ اتهمه أردوغان بالخيانة كما يفعل عادة ً مع كلّ من يعارض مواقفه السياسية حول أية قضية.

وبسبب الثورات والإضطرابات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتدفق الملايين من اللاجئين السوريين والمعركة ضد تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) أصبح دور تركيا في أهمية متزايدة.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي قد سئموا من سلوك أردوغان السّخيف، فإنهم مضطرون للتعامل معه، مهما كان هذا الأمر كريها ً. أتتركوا الأمر طبعا ً لاردوغان لاستنزاف كل ما أمكنه من الدم من القوى الغربية لخدمة اجندته الشخصية ؟

عندما يتم استخدام الدستور كأداة للإستئثار بالسلطة، وعندما تبرر نظريات المؤامرة القيام بمطاردة قاسية تشبه مطاردة الساحرات في القرون الوسطى ، وعندما يرتعب الناس من التحدّث علنا عن السياسة، وعندما يتم احتجاز الصحفيين دون محاكمة، وعندما يتعرض المجتمع الأكاديمي بشكل منتظم للهجوم ، وعندما تُنتهك حقوق الإنسان بشكل صارخ، وعندما تُداس المبادئ الديمقراطية علنا ً، فهذه كلّها ليست مجرد مهزلة بالنسبة لتركيا، بل هي مأساة.

مع رحيل داوود أوغلو وتحوّل حزب العدالة والتنمية إلى ختم مطاطي أصبحت تركيا بحكم الأمر الواقع ديكتاتورية، ولا أحد يجرؤ الآن على الوقوف في طريق اردوغان.

إنه يوم حزين للشعب التركي، حيث يحكم البلد الآن ديكتاتور متسلّط لا يرحم مع عدم وجود ضوابط وتوازنات، أي مساءلة، ودون أمل في أي تغيير للأفضل ما دام اردوغان في السلطة.

ينبغي على الشعب التركي مرة أخرى الخروج إلى الشوارع، ولكن هذه المرة يجب عليهم أن يبقوا متشبثين حتى يلين أردوغان أو يستقيل.

وعدا ذلك، ستواصل تركيا انطلاقها بسرعة نحو مستقبل أكثر كآبة من أي وقت مضى حيث تصبح الحرية شيئا من الماضي ويقود البلاد نظام استبدادي لا يرحم .

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE