All Writings
مارس 9, 2011

الإنتفاضــة العربيـــــــــــــــــة

يبدو أن التطورات المثيرة في العالم العربي قد فاجأت العديد من الأطراف، وأصبح الكلّ يتكلم عن التوقعات التي سيفيق عليها الشرق الأوسط في المستقبل. فهناك من يقول بأن الثورات ضد الأنظمة الديكتاتوري، حتى لو نجحت، لن تضمن إصلاحات سياسية ديمقراطية ثابتة ودائمة، فالعديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، وبالأخصّ تلك التي لها جذور إسلامية، تقدم لنا أمثلة صارخة على ذلك. وهناك من يؤكد بأنّ أية إصلاحات تستعد الأنظمة العربية في نهاية المطاف القيام بها ستكون سطحية وظاهرية وستتفاوت فقط في درجتها وفترة بقائها وستكون مصممة فقط لتهدئة الثوار. وآخرون يقولون بأنّ قطاعات كبيرة من الشعب مثل الجيش والمنظمات الإسلامية في المنطقة ستبقى مصمّمة على تشكيل الأحداث حسب أجنداتها السياسية وأنّ الشيء الوحيد الأكيد في المستقبل هو في الحقيقة المجهول نفسه.

هذه الحجج وغيرها تحمل درجة من الإقناع لا يمكن تجاهلها بسهولة. فهناك ظروف معيّنة خلقتها الانتفاضات ستبقى ثابتة وستؤثر في كل دولة عربية بطريقة مختلفة. أضف إلى ذلك، فبصرف النظر عن مدى إحكام قبضة الحكومات العربية على السلطة في الوقت الحاضر، ليس هناك حكومة عربية محصّنة ضد درجة معيّنة من التغييرات الملموسة. ولكن كلّما أسرعت هذه الحكومات في إدراك فعاليّة ونتائج هذه الظروف الجديدة، قلّ سفك الدماء وأصبحت المرحلة الانتقالية أكثر سلماً وأقلّ تعقيداً.

الظرف الأول: من لم يكن يتوقع أبداً أن ينتفض الشباب العربي ضد حكوماتهم السلطوية ثبت أنّه على خطأ. فالشباب العربي اليوم ليس نفس شباب الجيل المنصرم. لقد تعرّف هذا الجيل الجديد على عالمٍ آخر مكشوف من جميع الجوانب ولذا تراه ينتفض ضدّ القمع والحرمان والجمود، ولا يريد بعد اليوم أن يعيش في استكانة وخضوع لطغاة فاسدين. والافتراض بأن الشباب العربي سيبقى خاضعاً إلى ما لانهاية لنزوات حكام لا يرحمون ليس بأقلّ من إهانة لأمّة ساهمت مساهمة كبيرة في حضارة العالم وتنويره. لن تستطيع حكومة عربيّة، مهما كانت قمعية، أن تسدّ بالكامل نافذة شبابها على العالم الخارجي وتكبح جماح تشوقهم للحرية والانعتاق. وبصرف النظر عن مدى تأرجح انتفاضات الشباب في شدتها وعنفوانها، فهي ليست ظاهرة عابرة بل ستبقى لسنوات طويلة وستخفّ فقط عندما تلتزم الأنظمة العربية بوعودها في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية بنّاءة ودائمة.

الظرف الثاني: يجب على الأنظمة العربية الحالية أن تتذكر بأن انتفاضات الشباب هي حركة محليّة وفطرية. لم يتمّ التحريض عليها من قوى أو مجموعات خارجية كما أشار بعض الحكّام العرب، ولا حاجة للثوار أو المحتجين أن يلوموا جهات أجنبية على وضعهم الصعب، فقد أشار الشباب بأصابعهم على إخفاق حكوماتهم. وترفض الشبيبة الثائرة أن تقوم بتضليلها شعارات قديمة جوفاء وأعذار وهمية تدّعي بأنّ الفوضى ستعمّ البلاد في غياب الحكام الحاليين في حالة خلعهم من السلطة. لقد ذهبت بلا رجعة الأيام التي استطاع فيها الحكام العرب المستبدون ركوب موجة السخط الشعبي بلومهم إسرائيل أو الولايات المتحدة أو ما يسمى القوى الاستعمارية السابقة على وضعهم البائس. الشعوب تريد الآن من حكامها التركيز بدلاً من ذلك على معالجة أوضاعها وشكاويها بكلّ جدية ولا تتطلّع لإيجاد أكباش فداء – وهي عادة قبيحة من الأيّام الماضية – التي لم تفعل شيئاً سوى جلب المزيد من الحرمان والقنوط لشعوبهم.

الظرف الثالث: تمثّل الانتفاضة العربية فقط بداية موجة مستمرة من عدم الاستقرار التي تجتاح المنطقة ولن تخمد بإجراءات مؤقتة أو برشوة الشعب للخضوع. المثال الأخير على ذلك هو العرض السخيّ الذي قدّمه عاهل العربية السعودية، الملك عبدالله وهو عبارة عن رزمة إعانات خيرية للمواطنين السعوديين بمبلغ 37 مليار دولار وزيادة رواتب الموظفين الحكوميين بنسبة 15%. ومثال آخر هو قيام الحكومة البحرينية بدفع مبلغ وقدره 2650 دولاراً لكل عائلة لشراء طوعهم وسكوتهم. هذه فقط أمثلة لوسائل أخرى من التضليل والخداع التي تلجأ لها هذه الحكومات في محاولة يائسة منها لإخماد مطالب الشعب للحرية والمساواة. يجب أن تدرك الأنظمة العربية بأن الشعب لا يريد حسنات أو صدقات، بل يريد سماع صوته، لأن له الحق الطبيعي في أن يُسمع صوته. تريد الشعوب أن تعيش بكرامة وترفض أن تكون تحت الرحمة الخادعة لحكوماتها. أين كان من يسمون أنفسهم “قادة” و”زعماء” عندما كان الشعب يغلي ولكن بهدوء وصمت في ظلام سخطهم؟

الظرف الرابع: الإصلاحات السياسية مهمّة وضرورية جداً، ولكن لا يمكن الاحتفاظ بها إلاّ إذا تلازمت في نفس الوقت بمشاريع تنموية اقتصادية تبدأ بتقديم الإغاثة الاقتصادية الفورية لعامة الشعب البائس الذي هو بحاجة ماسة للسلع الأساسية. وتقدّم مصر في هذا السياق حالة نموذجية. لم يقبل الثوار بعد سقوط مبارك بوعود مستقبل أفضل. الثوار يطالبون من خلال المظاهرات المستمرة في جميع أرجاء العالم العربي بالفرج الاقتصادي. إنّهم يريدون تلبية مطالبهم واحتياجاتهم الأساسية من غذاء وفرص عمل ورعاية صحية وتعليم. الحرية لوحدها لن تضع الغذاء على طاولاتهم. إنهم يطالبون بالغذاء والحرية، وليس الحرية بدون غذاء. فإضرابات العمال في مصانع الأدوية والصناعات الكيميائية والنسيج وقطاع النقل وموظفي المصارف تتفق جميعها في مطلب واحد مشترك: إنهم يريدون أجوراً أفضل وإغاثة فورية من محنتهم الاقتصادية التي يعانون منها منذ سنين. وبالفعل، الحرمان وعدم المساواة الاقتصادية هي التي أدت إلى الانتفاضة الشعبية أكثر من الحرية السياسية. ولهذا السبب، ما لم يقم الجيش بصفتة السلطة الحاكمة الآن في مصر بتنفيذ برامج تنموية اقتصادية جوهرية سيكون البديل إصلاحات سياسية محصورة واقتصاد راكد وتغيير بسيط، إن وجد، وهذه كلها ستؤدي لاستمرار الاضطرابات والاحتجاجات.

ليس هناك علاج آخر – فهذا كله سيهيء لإجراء تغيير في مختلف الدول العربية. بلا شكّ سيناضل الملوك والأمراء وحكام دول الخليج والأردن والمغرب للحفاظ على عروشهم، ولكن في النهاية – مهما استغرق ذلك من سنوات طويلة – سيُجبرون جميعهم على قبول نظام الملكية الدستورية. أمّا بلدان عربية أخرى مثل الجزائر وتونس ومصر قد لا يكون أمامها سوى اختيار نظام جمهوري للحكم بهيئة تشريعية قوية منتخبة ورئيس وزراء بصلاحيات واسعة وجيش قوي يقف خلف المسرح ليحمي الوطن ضد استغلال السلطة. أمّا دول أخرى مثل ليبيا واليمن والسودان بطابعها القبلي فقد ينتهي بها المطاف بانقلاب عسكري وسيطرة الجيش عدد من السنوات في محاولة منه لتسوية مطالب القبائل المختلفة في حين يقوم ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية. وقد تنجح سوريا بتهدئة انتفاضة الشباب بإدخال بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية. أمّا لبنان فسيبقى مسرحاً للصراعات الطائفية بينما سيتجرأ الفلسطينيون على الانتفاضة مرة أخرى في محاولة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وسيستمرون في استخدام الأوساط الدولية للضغط على إسرائيل. وبصورة عامة، ستكون مرحلة التحول في الأنظمة الملكية العربية أكثر سلماً من غيرها من الدول العربية ولكن معظمها سيمرّ بدرجات متفاوتة من العنف. وبصرف النظر عن نظام الحكم الذي سيؤول إليه العديد من الدول العربية، فإن احترام حقوق الإنسان الأساسية ورفع جميع قوانين الطوارىء ستكون القضية المركزية لفترة انتقالية أكثر سلماً وهدوءاً. لن تعفى أو تستثنى أية حكومة عربية من هذه المتطلبات.

سيستمر العالم العربي في خوض تغييرات تحوليّة ذات أبعاد تاريخية بقيادة شباب مصممين قد التزموا بتحرير أنفسهم من قيود الظلام واليأس. ولذا يجب على كلّ نظام عربي إمّا الإذعان لتطلعات شعبه لمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية والتطورات الاقتصادية، أو الإطاحة به بنفس الطريقة الفظّة والبشعة التي حكم بها.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE