All Writings
نوفمبر 11, 2016

تحديّات ترامب الخارجيّة الرّهيبة

لقد أكّدت على الأقلّ انتخابات عام 2016 مرّة أخرى على نظام أمريكا الديمقراطي الصّلب. فبدون أية أحداث تُذكر، توجّه عشرات الملايين من الأمريكيين إلى محطات وصناديق الإقتراع في جميع أرجاء الولايات المتحدة وصوّتوا لمرشّحهم وهيّأوا أنفسهم، كما هو الحال دائما ً، للإنتقال السلمي للسلطة. وأنا أعتقد حتّى بأنّ أولئك الذين أصيبوا بشدّة بخيبة أمل من نتائج الإنتخاب سوف يسمون عاجلا ً أم آجلا ً فوق الخلافات ويضعون مصالح الأمة في المقام الأول ويعملون على توحيد الصفوف.

وبصرف النظر عن صدمة ما بعد الإنتخابات التي يمرّ بها العديد من الأمريكيين والوقت الذي ستكون إدارة ترامب بحاجة له لمعالجة مجموعة ضخمة من القضايا السياسيّة المحليّة والخارجيّة، فإن الولايات المتحدة تواجه العديد من الأزمات الخارجيّة وليس لديها متّسعا ً من الوقت للتريّث أو التردّد في معالجتها. إنّ دور أمريكا القيادي ومسؤوليتها تبقى أمرا ً محوريّا ً حاسما ً في تخفيف، إن لم يكن إنهاء العديد من هذه الصراعات العنيفة التي تجتاح الشرق الأوسط بشكل ٍ خاصّ. وبالرّغم من أنّ الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، غرّ، عديم التجربة وتنقصه المعرفة الدقيقة والمفصّلة للأزمات المعقّدة  التي تواجهها أمريكا، عليه الآن اختيار طريقه وإيجاد وتطوير استراتيجيّات جديدة وبالأخصّ في المجالات التي قصّر فيها أوباما، بما في ذلك الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني والحرب السنيّة – الشيعيّة والحرب الأهلية في سوريا.

الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني: لا شكّ بأنّ الرئيس باراك أوباما قد بذل جهودا ً عظيمة لحلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني المزمن الذي استمرّ حتى الآن سبعة عقود من الزمن. ولكن بصرف النظر عن جهوده الرائعة، غير أنّ الرئيس ووسيطه الأساسي لحلّ هذا الصراع، وزير الخارجيّة جون كيري، قد فشلا في الأخذ بعين الإعتبار البعد السيكولوجي للصراع الذي كان وسيبقى العائق الرئيسي أمام حلّ الصراع، وبالأخصّر من وجهات النظر الدينيّة والتاريخيّة والعقائديّة.

وطوال المجموعتين من المفاوضات المكثفة التي أجريت في الفترة ما بين 2009 – 2010  و 2013 – 2014، وبالرّغم من التقدّم الذي أحرز في عدّة قضايا متنازع عليها مثل قضية اللآجئين الفلسطينيين، ومستقبل القدس والحدود، غير أنّ الإخفاق في تخفيف الجانب السيكولوجي المرتبط بهذه القضايا قد جعل من المستحيل لكلا الطرفين التقدّم فيما تمّ الإتفاق عليه.

وفي هذه المرحلة أصبحت الفجوة ما بين الطرفين أعمق وأوسع بكثير من ذي قبل، وليس هناك أي قدر ٍ من الوساطة أو التعويض أو الإجبار يستطيع أن يقنع أيّ من الطرفين القيام بالتنازلات المهمة والضروريّة لجعل السّلام أمرا ً ممكنا ً.

على إدارة أوباما أن تركّز أوّلا ً على عمليّة مصالحة (من شعب لشعب) من شأنها أن تخفّف من عدم الثقة والتشكك العميق المتبادل بين الطرفين وغرس شعور بالأمن المتبادل والتحرّر من أوهام مجموعات الناخبين القوية على كلا الجانبين أنّ بإمكانهم الإستحواذ على الكلّ.

وخلال عملية المصالحة هذه بين الطرفين التي ينبغي أن تستغرق حوالي عامين، ينبغي على الولايات المتحدة بعد ذلك بمساندة الإتحاد الأوروبي (بقيادة فرنسا) أن تعزّز دور مبادرة السّلام العربيّة لإنجاز الإطار الكلّي للسّلام الذي يعتمد على أساس حلّ الدولتين.

وبالرّغم من أنّ العديد من الإسرائيليين قد احتفلوا بانتخاب ترامب معتقدين بأنه لن يمارس ضغطا ً على إسرائيل لقبول حلّ الدولتين، سترتكب إدارة ترامب خطأ ً ذو أبعاد تاريخيّة إن هي تركت الفلسطينيين والإسرائيليين لمصيرهم.

ينبغي ألاّ يؤخذ الهدوء النسبي الحالي كأمر مسلّم به حيث أنّ التوتّر المتصاعد قد ينفجر في أيّ وقت إذا لم يرى الفلسطينيّون أيّ أمل ٍ أو إمكانيّة لإنهاء الإحتلال في المستقبل المنظور. وفقط بخلق الجوّ الإجتماعي والسياسي والنفسي المفضي للسّلام وبدعم ٍ من الدّول العربيّة والإتحاد الأوروبي وغيرها من القوى الرئيسيّة بإمكان المفاوضات أن تستأنف باحتمال أفضل بكثير للنجاح. فإذا كان ترامب معنيّا ً حقّا ً بأمن إسرائيل في المستقبل وبوحدته السياسيّة، عليه ألاّ يتوانى بالضغط على إسرائيل الآن للسعي وراء حلّ وإنقاذها من الطريق المدمّر ذاتيّا ً لها.

الحرب السنيّة – الشيعيّة: لقد برز تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) في صحوة حرب العراق التي أثارت صراعا ً مسلّحا ً متجدّدا ً بين السنّة والشيعة. وبالرغم من أنّ هزيمة داعش باتت أمرا ً محتوما ً، غير أنها لن تنهي الصّراع السنّي – الشيعي، وما دامت إيران الشيعيّة والمملكة العربية السعوديّة السنيّة المذهب يتقاتلان من أجل الهيمنة الإقليميّة فإنهما سيستمران في شنّ حرب ٍ بالوكالة في العراق وسوريا واليمن لتحقيق هدفهما.

ومفتاح تسوية هذا الصراع يكمن في إعادة النظر مرة أخرى في حرب العراق وتداعياته على السنّة في العراق. فبعد (81) عاما ً من حكمهم المتواصل للعراق يجد السنّة العراقيّون الآن أنفسهم تحت رحمة الأغلبيّة الشيعيّة الحاكمة التي قامت بالتمييز ضدّهم وتهميشهم بشكل ٍ منهجي منذ اليوم الأول لاستلام حكومة مالكي الشيعيّة السلطة في البلاد.

يجب على إدارة ترامب الآن أن تفهم بأنّ الحفاظ على وحدة العراق كبلد فردي موحّد لم يعد خيارا ً قابلا ً للحياة. وبالرّغم من أنّ السنّة العراقيين يكرهون تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش)، غير أنهم يحتقرون ويمقتون الحكومة الشيعيّة في بغداد أكثر. وللمساعدة في وضع نهاية أسرع للحرب الأهليّة في العراق، من الضروري منح السنّة حكما ً ذاتيّا ً على النحو الذي حصل عليه الأكراد العراقيّون. ولذا على الولايات المتحدة الآن الشّروع في حوار ٍ ما بين القيادتين، السنيّة والشيعيّة، في العراق للتوصّل لاتفاق ودّي يتعايش معه الطرفان. فالثلاث محافظات السنيّة التي تشمل مدينة الموصل ينبغي أن تشكّل ملامح مثل هذا الكيان. ولكن بالنظر إلى نقص الموارد الطبيعيّة (مثل النفط) في هذه المناطق، ينبغي أن يكون هناك توزيعا ً عادلا ً لعائدات النفط بينها وبين الحكومة المركزيّة.

وفي التحليل النهائي، فقط التعايش السلمي على فترة طويلة من الزمن ما بين الطرفين من شأنه أن يسمح لهما مع مرور الوقت أن يقيما ويطوّرا علاقة أوثق وأكثر ثقة ومودّة ً بينهما. وسيرضي هذا الأمر بدرجة كبيرة السعوديين حيث أنّ السنّة سيحافظون على موطىء قدم قوي في العراق بينما ستبقى إيران في وضع ٍ يسمح لها بممارسة بعض النفوذ على الحكومة الشيعيّة. وقد يؤدي هذا الأمر لوضع نهاية لسفك الدّماء ما بين السنّة والشيعة الذي غير ذلك سيزداد تصعيدا ً في صحوة هزيمة داعش المحتومة.

الحرب الأهلية في سوريا:  لن تنتهي الحرب الأهليّة في سوريا ما لم تغيّر الولايات المتحدة نهجها تجاه الحرب بإخطار بوتين والأسد بأنه يجب وضع نهاية فوريّة لمذبحة المدنيين السوريين. لا تستطيع الولايات المتحدة التأكيد على دورها الإقليمي القيادي وفي نفس الوقت إنقاذ الشعب السوري من الدّمار الشبه الكامل بالقيادة من الخلف وفقط بإمداد الثوار بالمعدات والمواد العسكريّة.

وفي ضوء هذا الواقع يجب على الولايات المتحدة أن تدرك بأن روسيا كانت منذ عقود وستبقى لاعبا ً أساسيّا ً دائما ً في سوريا وأنّ إيران لن تتخلّى عن مصالحها المتواجدة منذ زمن ٍ طويل وعن نفوذها في دمشق حيث أنّ طهران تنظر إلى سوريا على أنها الجزء الحيوي لهلال اليابسة ذو الأغلبية الشيعيّة الواقع ما بين البحر الأبيض المتوسط والخليج. ومهما بدا هذا الأمر غير تقليدي، ليس للولايات المتحدة خيار آخر سوى العمل مع هاتين القوتين، روسيا وإيران، لإيجاد حلّ.

وفي نفس الوقت الذي تعترف فيه إدارة ترامب بأهمية دور روسيا واستعدادها للتعاون مع بوتين من أجل إيجاد حلّ دائم، عليها أيضا ً أن تبعث برسالة واضحة لا لبس فيها لبوتين والأسد بأنه يجب عليهما إيقاف القصف بدون تمييز وقتل عشرات الآلاف من السوريين الأبرياء ومحو الأحياء السكنية، الواحد تلو الآخر.

وبالنظر لرغبة بوتين في العمل بطريقة أوثق مع ترامب، من المحتمل أن يكون الآن أكثر تقبّلا ً لايجاد حلّ للصراع. ولكن إن لم يفعل ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تثبت نفسها وتكون مستعدة لقصف وتدمير جميع مدرجات القوّة الجويّة التابعة للأسد وحظائر طائراته ومستودعات ذخائره.

ووقف الأعمال العدائية في سوريا لن يؤدي بحدّ ذاته إلى وضع نهاية للحرب الأهليّة، ولكن هذا يبقى شرطا ً أساسيّا ً لفتح القنوات الدبلوماسية في البحث عن حلّ سلميّ دائم. وفي هذا السياق، ينبغي على الولايات المتحدة ألاّ تعارض في أيّ حلّ مستقبلي على بقاء الأسد رئيسا ً خلال فترة انتقالية يُتفق عليها إذا كانت مشاركته ستبقي البيروقراطية والأجهزة العسكرية والأمنية الداخليّة لمنع تكرار ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي.

لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتملّص من مسؤوليتها وعليها الآن أن تواجه هذه الصراعات الثلاثة الأكثر إلحاحا ً وتعقيدا ً من أية صراعات ٍ أخرى قبل أن تستفحل وتخرج عن السيطرة.

وبالنظر إلى أن ترامب يهمّه أولا ً البيت الأمريكي وشعاره “أمريكا أولا ً” – ولكن لأمريكا مصالح جيوسياسيّة جوهريّة في المنطقة – من الضروري جدّا ً أن تعالج إدارة ترامب هذه الصراعات بطريقة جديّة وثابتة. وسيكون أول اختبار لترامب هو اختيار مستشاريه الذين بإمكانهم مساعدته في “الإبحار” عبر هذه المتاهة من الصراعات.

ومن خلال من سيختارهم ترامب وسرعته في الشروع بالعمل بعد تنصيبه الرسمي سيبعث برسالة واضحة لأعداء أمريكا وأصدقائها على حدّ سواء إلى أين ستتجه هذه الأمة وعلى عزمها في التأكيد على دورها القيادي العالمي.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE