سجلّ خمسة أعوام بعد الكارثة
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الشئون الدولية بجامعة نيويورك
ويلقي محاضرات حول المفاوضات الدولية ودراسات الشرق الأوسط
أكتب هذه المقالة من القاهرة خلال زيارة مكثفة لي للشرق الأوسط, وأعتقد أنه لا يوجد مكان أنسب ممّا أنا فيه الآن لتخمين تعقيدات وانعكاسات أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ونجاح أو فشل إدارة بوش فيما يدعى "بالحرب على الإرهاب". فإذا كان النجاح أو الفشل يقاس بعدد الهجمات اللاحقة على الولايات المتحدة الأمريكية, يمكن القول بأن إستراتيجية الرئيس بوش في محاربة الإرهاب ناجحة بالفعل. ولكن من يقول بأن القاعدة أو غيرها من المجموعات الإرهابية عازمة فقط على إعادة مهاجمة الولايات المتحدة من الداخل لإحراز أهدافها الرئيسية ؟
منذ اللحظة التي عرف فيها العالم عن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن يصرح بوضوح بأنه يريد تحرير العالم العربي من "وصاية" الغرب ومن تأثيره الهدام على المجتمع العربي. وحيث أنه ينظر إلى أمريكا على أنها المجرم الرئيسي في استخدام واستغلال المصادر العربية, فإنه مصمم على توريط أمريكا في صراع مستمر مع العالم العربي والإسلامي حتى يصبح الشرق الأوسط "محرراً من الاستغلال الأمريكي وسوء استعمال القوة". فحرب العراق كانت بالنسبة للقاعدة فرصة نازلة من السماء لمواجهة الولايات المتحدة بالشروط التي تناسب تنظيم القاعدة نفسها لأن إدارة بوش جعلت الحرب والاحتلال قضية مركزية لمعركتها ضد الإرهاب.
وبالحكم من خلال الوضع الحالي في العراق, فإنه يبدو من الصعب على إدارة بوش أن تدّعي حتى بتحقيق نجاح نسبي, فما بالك بالنصر. عدد القتلى الأمريكيين يقترب بسرعة من ال 3.000 قتيل وأكثر من 20.000 جريح وإنفاق ما يقارب 400 مليار دولار على الحرب. ولو أخذنا جميع التقديرات بعين الاعتبار وافترضنا أن الحرب ستنتهي غداً, فإن تكلفتها بعيدة الأمد على الولايات المتحدة ستزيد عن تريليون دولار أمريكي (ألف مليار). وكلما استمر القتل والذبح زاد سخط العالم العربي والإسلامي على مأساة الشعب العراقي وزادت معه الكراهية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية لتصل إلى أعلى مستويات جديدة.
لقد قتل حتى الآن أكثر من مائة ألف عراقي ويموت يوميا حوالي 200 شخص في حرب أهلية طائفية متأججة. ويحارب أكثر من 130.000 جندي أمريكي تمرداً يبدو أن لديه موارد لا تنضب وأعداد غير محدودة من المتطوعين. إن أمريكا
تجد نفسها فعلاً في مستنقع في العراق متورطة في حرب أهلية تبدو أنها ستفترس النسيج الاجتماعي العراقي والموارد الأمريكية أيضاً دون بصيص من الأمل للخروج من هذا المأزق. ومهما حاولت الإدارة الأمريكية الحالية وضع أفضل قناع على وجهها إلا أنها قد فشلت في العراق فشلاً ذريعاً وألحقت ضررا فادحا بهذه العملية بهيبة أمريكا العالمية في الوقت الذي تسبب فيه للشعب العراقي كارثة ذات أبعاد تاريخية.
ولكن هذه ليست القصة الكاملة, فخمسة أعوام بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 يجد الشرق الأوسط نفسه في عاصفة من الاضطرابات والمخاوف أكثر مما كان عليه قبل عشرة أعوام. لقد أصبح الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني أكثر اشتعالا مصحوبا بعنف يومي ودمار يقضي على ما تبقى من المدنية والإنسانية بين الجانبين. وتحديا للغرب, خصوصا للولايات المتحدة الأمريكية, تتسابق إيران نحو تطوير الأسلحة النووية. وبالنسبة لجميع الدول العربية المعتدلة سنية المذهب, وبالأخص المملكة العربية السعودية ومصر والأردن, فهي قلقة للغاية من امتداد الهلال الشيعي وخائفة من طموحات إيران في أن تصبح القوة الإقليمية المهيمنة بمخزون من الأسلحة النووية تحت تصرفها. وفي أفغانستان, حركة طالبان في زحف جديد على المدن وتشكل تهديداً جديا للنظام الحاكم في كابول. لبنان نصف مدمر. والتطرف الإسلامي المسلح يتقدم في كل مكان وبمكاسب هامة في فلسطين ولبنان ومصر والعراق. وفي منتصف هذا كله تجد برنامج الإدارة الأمريكية للديمقراطية والإصلاح السياسي قد أصبح متهالكاً شبيها بالثوب الرثّ وقد أحدث اضطرابات ومشاكل أكثر من الاستقرار والسلام.
لا تحتاج القاعدة إلى مهاجمة الولايات المتحدة مرة أخرى لإظهار حيويتها المستمرة أو مدى الضرر الذي تستطيع أن تحدثه. لقد أحدثت الإدارة نفسها للولايات المتحدة ضررا أكثر مما أحدثه بن لادن في كل حياته. أجل, لربما يتفاخر الرئيس بوش بأن أمريكا أكثر أمنا اليوم مما كانت عليه قبل الحادي عشر من أيلول عام 2001, غير أن ستة أعوام من السياسة المضللة لم تجلب فقط على أمريكا ضررا أكبر من هجمات ذلك التاريخ, فقد أشعلت الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط الفتيل الذي أحدث اضطرابا إقليميا بحجم لم يسبق له مثيل, وقامت الحرب في العراق بجر المجتمعات السنية إلى قتال ضد المجتمعات الشيعية ما وراء الحدود العراقية بحيث أصبح من الصعب الآن التنبؤ بعواقبها. هذا وقد حولت الحرب الجماهير العربية بشكل يسبب ضررا كليا لعلاقات الشرق مع الغرب. لقد أدت إلى انبعاث التطرف الإسلامي المسلح الذي يشكل خطرا على النظام الحالي في معظم الدول العربية دون أن يضع مكانه بديلا سياسيا قابلا للحياة. وأخيرا فإن إهمال
الصراع العربي الإسرائيلي قد تسبّب في مزيد من العنف وصل حتى شفة الحرب. لقد بينت استطلاعات الرأي على نطاق دولي تقريبا بأن 90 بالمائة من الشارع العربي يقيّمون الوضع الإجمالي لقضاياهم بهذا التقييم الرهيب.
لربما يتذكر الأمريكيون مرة أخرى في الذكرى السنوية الخامسة الحادي عشر من أيلول الأحداث والنتائج الفظيعة لذلك اليوم. ولكن ما حدث في السنوات الخمس الماضية قد فرض علينا عواقب أكثر فظاعة. لن تكون أمريكا غدا أكثر أمنا إلا إذا حل مكان سياسة "الحفاظ على المسار الحالي" الكارثية سياسة مستنيرة ترى الأشياء على حقيقتها وتستجيب بالرؤية والشجاعة الضروريتين لعمل شيء ما بخصوصها.