ثمار الاحتلال المرّة
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الشئون الدولية بجامعة نيويورك
ويلقي محاضرات حول المفاوضات الدولية ودراسات الشرق الأوسط
مهما كانت الظروف, وبصرف النظر عن الصراع الفلسطيني الداخلي, يجب على إسرائيل أن تدرك بأن استمرار الاحتلال ليس فقط غير دائم بل وأيضاً ينخر بصورة خادعة من أمنها القومي بدلاً من تعزيزه. ولهذا السبب يجب على حكومة إسرائيلية مسئولة أن تضع إطاراً للانسحاب وتنفيذه على مراحل بما يتماشى مع الظروف السائدة في كل مرحلة. الوقت ليس لصالح إسرائيل, فكلما طال أمد احتلالها للأراضي, زاد الخطر وأنذر بمزيد من السوء.
وبالرغم من هذه الحقيقة, وبعد حوالي أربعين عاماً من الاحتلال ما زال كثير من الإسرائيليين يجادلون بقولهم ــ خصوصاً بعد صحوة الانسحاب من جنوب لبنان وغزة ــ أن بلدهم أكثر أمناً بسبب الاحتلال. والحقيقة وبكل المعايير بأن سنوات الاحتلال قد وضعت أسس المقاومة المتنامية ضد إسرائيل ليست فقط على صعيد الفلسطينيين أو السوريين, بل على نطاق أكبر بكثير من ذلك, وهو المجتمعات العربية والإسلامية. مثلاً مصر والمملكة العربية السعودية والأردن وكثير من الدول العربية المعتدلة الأخرى تشعر بأنّها في خطر ومقوّضة من قبل قوات خارجية وداخلية قوّاها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إن أسباب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخانقة التي تعاني منها الجماهير الفلسطينية قد فسّرت وبأكثر من وسيلة تعبير بأنّها تعود للدول الغربية وحكوماتها لفشلهم في وضع نهاية للأزمة الفلسطينية بإنهاء الاحتلال. وممّا ينذر بشؤم أكبر هو أن الاحتلال قد قدّم للمجموعات الإسلامية المتطرفة, السنية والشيعية, المبرر المنطقي والحافز لخوض صراع وجودي ضد إسرائيل, وإيران تقود الآن هذه الحملة بمحاولتها نزع شرعية وجود إسرائيل. فإسرائيل مصوّرة على أنها سبب كل المصائب والشرور, وهي فكرة يعزّزها الاحتلال والعنف الذي لا نهاية له. وإذا استمرّ هذا الوضع على ما هو عليه, ستجد إسرائيل نفسها بعد بضعة سنوات وقد تورطت مع حركة إسلامية إقليمية, إن لم يكن دولية, عاقدة العزم على تدميرها, ولذا لا تتجاهل هذه النظرة المستقبلية القاتمة إلاّ حكومة إسرائيلية غافلة وغير مسئولة بتاتاً.
أصوات عديدة في إسرائيل, ومن أهمها زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو, تعد الشعب بسلام مقابل سلام, غير أن هذه الأصوات لم تبيّن مرة واحدة كيف ستتمكّن من تحقيق هذه المعجزة بدون التخلي عن أراضٍ عربية. على أحزاب
اليمين الإسرائيليّة أن تدرك بأنّه لن يكون هناك تحسّن في الوضع الراهن, ناهيك
عن تطبيع العلاقات مع العالم العربي والإسلامي, إلاّ إذا قرّرت إسرائيل إنهاء الاحتلال. وحجتهم بأن الانسحاب من جنوب لبنان وغزة جعل هذه المناطق أراضي انطلاق لمزيد من العنف هي حجة ماكرة. فبخلاف الانسحاب الإسرائيلي الكامل من مصر والأردن, يعتبر الانسحاب من لبنان غير كامل وحزب الله ما زال يطالب بمزارع شبعا, في حين أن ألانسحاب من غزة جزئي فقط ما دامت الضفة الغربية محتلّة. فقط بإنهاء الاحتلال بصورة تامّة سيتمكن الإسرائيليون من السير على أرض أخلاقية ومعنوية عالية وينظر إليهم بأنهم محقّون في ردهم على أية استفزازات فلسطينية مهما كانت أسبابها لأنهم يكونوا قد تعاملوا معها ليس كقوة محتلّة بل كمدافعين عن أرضهم.
قد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ــ وقد اهتزّ وضعه السياسي من جراء حرب لبنان ــ ضعيفاً جداً في الوقت الحاضر للتمسك بخطته الأصلية وهي الانسحاب أحادي الجانب من معظم مناطق الضفة الغربية. أضف إلى ذلك أن الصراع الداخلي العنيف على السلطة بين المجموعات الفلسطينية يعيق على الأقل بصورة مؤقتة القيام بانسحاب رئيسي من الضفة الغربية. هذا الوضع على أية حال وضع انتقالي حيث أنّ إنهاء الاحتلال يجب أن يبقى في صلب إستراتيجية إسرائيل. فإذا بدا الانسحاب من الأراضي الفلسطينية فكرة جيدة عندما تأسّس حزب "كاديما" ( إلى الأمام), فهي تعتبر الآن حتّى فكرة أفضل. يجب أن يتم الانسحاب تحت أية معادلة تتوصل إليها إسرائيل مع المجتمع الدولي, خصوصاً اللجنة الرباعية المكونّة من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا, هذا ما دام أمنها القومي ليس موضوع مساومة. ويطلب من السيد إيهود أولمرت إبّان ذلك أن يرسل إشارات واضحة بأنه ما زال ملتزماً بفكرة إنهاء الاحتلال وذلك أولاً: بأن يثبت بكل وضوح بالقول والفعل بأنّه لن يسمح ببناء أية مستوطنات غير قانونية وأنه سيفكك ما هو قائم منها, وثانياً: بإنهاء التوسع في المستوطنات الحالية فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة الأهمية, وثالثاً: تقديم حوافز اقتصادية ومشاريع تنموية دائمة للمجتمعات الفلسطينية الغير متورطة بأعمال العنف, ورابعاً: إزالة جميع حواجز الطرق التي لا تشكّل ضرورة حتمية لأمن إسرائيل, وخامساً: السّماح للفلسطينيين ببناء وزراعة وتطوير أراضيهم بصورة قانونية بدون قيود غير مبرّرة, وسادساً: التخلي عن أي شكلٍ من أشكال العقاب الجماعي, وسابعاً وأخيراً: إطلاق سراح جميع الأسرى من المجتمعات الفلسطينية الغير مشتركة بصورة فعّالة بأعمال العنف. يجب على إسرائيل, بمساندة السلطة
الفلسطينية أم بدونها, وبصرف النظر عن القناعات أو المعتقدات السياسية
للسلطة, أن تبني مداخل إيجابية وجسور تفاهم بينها وبين الشعب الفلسطيني لأنّه في النهاية على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أن يتعايش بسلام مع بعضهما البعض.
يجب على إسرائيل أن تتذكّر بأن عجز الفلسطينيين والسوريين في الوقت الحاضر عن استعادة أراضيهم بالقوّة يعطيها مهلة خادعة من الوقت لأنها لا تحسّن وضع الإسرائيليين مع مرور الزمن. قد تتمكن إسرائيل من الاحتفاظ بالأراضي لخمسين سنة أخرى, ولكن في نهاية هذه المدّة سيبقى الاحتلال القلب النابض للصراع الإسرائيلي ــ العربي, هذا إلاّ إذا انتهت إسرائيل قبل ذلك من جرّاء ألم هزيمتها الذاتية لعدم إدراكها بأن الوقت لم يدعمها, بل قد غدر بها.