نحو سلام إسرائيلي – سوري
30 أيار (مايو ) 2008
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
التقارير الأخيرة التي تشير إلى أن إسرائيل وسوريا تجريان بوساطة تركية محادثات سلام غير مباشرة تبشّر بتقدّم رئيسي في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط، ولو أن هذه المحادثات كان يجب أن تتم منذ فترة طويلة. فمنذ انهيار مفاوضات السلام الإسرائيلية – السورية في شهر أيار (مايو) عام 2000 وأنا باستمرار وإلحاح أؤيّد ضرورة القيام بمصالحة إسرائيلية – سورية خصوصاً وأنك لن تجد صراعاً واحداً في المنطقة متأثراً بطريقة أو بأخرى بالصراع السوري – الإسرائيلي. فإذا توصلّت إسرائيل وسوريا بنجاح إلى اتفاقية سلام ساري المفعول، فإن مواقف حزب الله وحماس وإيران ستضعف بصورة جوهرية. أية فرصة لتهدئة هؤلاء الممثلين الثلاثة على الساحة الشرق أوسطية اللذين يهددون بصورة دائمة وجود إسرائيل يجب أن تعطي الإسرائيليين الحافز الأكبر لدعم أية جهود للتوصل إلى سلام مع سوريا.
سوريا وإسرائيل تدركان تماماً المخاطر العالية والفوائد الكبيرة التي قد تجلبها لهما معاهدة سلام. على رأس الأجندة السورية بالطبع استعادة مرتفعات الجولان وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة التي يضمنها السلام مع إسرائيل والإعتراف بمصالح سوريا الخاصة في لبنان. وفي حين أن إدارة بوش قد استنكرت تدخل سوريا القوي في الشئون اللبنانية، غير أنه يجب التسليم بهذا الجانب السلبي من أجل الفائدة الأكبر. إن روابط سوريا العسكرية والاقتصادية والتاريخية مع لبنان أكثر التحاماً وتضافراً عند هذه المرحلة من أن تفسخ واقعيّاً من أجل سلام إقليمي أشمل. وعلى دمشق مقابل هذه المكاسب أن تعترف بدورها في إضعاف الدّعم اللوجستي والسياسي لحزب الله وحماس ووضع حدّ للنفوذ الإيراني.
لا شك أن إعادة الجولان لسوريا سيكون أمراً صعباً جداً بالنسبة للإسرائيليين، ولكن ما ستضمنه معاهدة السلام بعد ذلك هي حدود آمنة مع سوريا ولبنان. هذا سيمنح إسرائيل في التعامل مع التهديدات الإيرانية وتهديدات الفصائل الفلسطينية المتطرفة قوّة استراتيجية في منتهى الأهمية. وبإزالة سوريا من قبضة إيران ستتمكّن إسرائيل من إضعاف تدخّل ونفوذ إيران في لبنان وفي المناطق الفلسطينية. وتقوّض بذلك موقف الجهة التي تشكّل أكبر خطر على إسرائيل، ألا
وهي إيران. الهدف في هذه الحالة ليس فقط إبرام معاهدة إسرائيلية – سورية، بل لإبعاد تشكيلة القوى والنفوذ من هيمنة إيران.
أستطيع أن أشهد – بعد عدّة سنوات من تدخلي المباشر والغير مباشر – بأن هذا التحول في الأحداث لم يأت ِ من قبيل الصدفة بل بعد دراسة الوضع بتروّ ٍ من قبل إسرائيل وسوريا خلال فترة الأربعة والعشرين شهراً الماضية. كانت إسرائيل مصرّة ولمدّة سنوات بأنه لا يمكنها سوى معالجة مسار ٍ واحد في وقت واحد، وهو المسار الفلسطيني. غير أنّ تردّي الأوضاع الأمنيّة وازدياد المشاكل على صعيد المفاوضات الفلسطينية قد أعطى أولويّة جديدة للمباحثات مع سوريا. كانت إسرائيل تسعى وراء الشروع بمفوضات صامتة مع سوريا، غير أن مساعيها قوبلت بالرفض لأن أيّ تسرّب قد يشكّل ضرراً للعلاقات مع حلفاء سوريا المسلمين. وهنا لعبت مساعي تركيا الحميدة وعلاقاتها الحسنة مع كلا الدولتين، إسرائيل وسوريا، الدور الحاسم في التوسّط بينهما. كانت سوريا تسعى وراء مباحثات سلام مكشوفة ما دام كلّ طرف يدرك أين يقف الطرف الآخر، وطالما كان هناك تفاهم عامّ حول توقّعات كلا الطرفين من مفاوضات السّلام هذه.
لقد أخبرني وزير خارجية سوريا، السيد وليد المعلّم، في حديث أجريته معه في شهر أكتوبر عام 2007 بأنه إذا انكشفت محادثات السّلام مع إسرائيل، فإن علاقات دمشق مع أصدقائها ستتضرّر بصورة جسيمة قد يتعذّر بعدها تقويمها. لهذا السبب تريد سوريا أن تضمن أوّلاً نتيجة ناجحة للمفاوضات. وأضاف يقول المعلّم أنّ من خيارات سوريا الإستراتيجيّة منذ زمن طويل هو السّلام مع إسرائيل، وأصدقاء سوريا في المنطقة يعون ذلك جيّدا ً.
وبالنظر إلى أحداث الماضي، فقد أشار إلى نفوذ إيران وحزب الله المتنامي على سوريا مدركاً أن محادثات السلام الإسرائيلية – السّورية يجب أن تكون جديرة ً بإقلاق هاتين القوّتين الإقليميتين. ومنذ إثني عشر عاماً، أي منذ أن كان المعلّم سفيرا ً لسوريا في الولايات المتحدة الأمريكيّة، كان له موقفا ً ثابتا ً عنيدا ً حول رغبات بلاده والشروط التي تحتاجها للسلام، الأمر الذي يجعلنا نعتقد بأن سوريا الآن ملتزمة تماما ً بنجاح محادثات السّلام هذه.
وكما هو متوقّع، ما زال هناك عدد من القضايا الشائكة التي قد تحبط عقد اتفاقية سلام مثل الحدود النهائية بين البلدين، الأمن والمياه وطبيعة العلاقة المستقبليّة بين البلدين. ستستمرّ سوريا بلا شكّ في الإصرار على أن تكون الحدود النهائية خط الهدنة الذي كان قائما ً يوم 4 حزيران (يونيو) عام 1967 والذي يعطي سوريا حق أن تكون لها " رِجِل في الميّه "، أي وضع ٍ مشرف على
الشواطيء الشرقية لبحيرة طبريا. وستصرّ إسرائيل من جانبها على دفع السوريين باتجاه الشرق للحدود الدوليّة لعام 1923. وبالرغم من أن الفرق بين الخطّين من حيث مساحة الأرض ليس بالشيء الكثير ( أقلّ من سبعة أميال مربّعة)، غير أن العودة إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) تعتبر بالنسبة للسوريين مصدرا ً مهمّا ً للإعتزاز الوطني. والجدير بالذكر أنّ المفاوضات السوريّة – الإسرائيلية التي أجريت في عام 2000 م إنهارت حول هذا الخلاف الحدودي. أنا أتوقّع بأن الخلاف الحدودي سيحلّ بموافقة إسرائيل أن تكون الحدود الرسمية عند خط الهدنة يوم الرابع من حزيران (يونيو) 67 في حين لن يُسمح لسوريا أن تتقدّم ما وراء الحدود الدولية التي كانت قائمة عام 1923. معادلة فيها غموض بلا شكّ، ولكن "غموض بنّاء" هذا مع العلم بأن الملكيّة المطلقة لهذا الشريط المتعرّج من الأرض الذي كان عرضه في الماضي لا يتعدى عشرة أقدام (3 أمتار) لن يكون لها سوى أهميّة رمزيّة.
وبالنسبة لأمن إسرائيل القومي، ستواصل إسرائيل المطالبة في أن تكون مرتفعات الجولان منزوعة السّلاح ويسمح فقط بتواجد رجال أمن سوريين بأسلحة خفيفة، كما كان الشرط لإعادة صحراء سيناء لمصر في معاهدة السّلام المصريّة – الإسرائيلية عام 1979. وبالرغم من ذلك، هناك قضيّة أمنيّة قد تشكّل تعقيدا ً للمفاوضات وتتعلّق بطبيعة الوحدات والإنشاءات العسكرية الجاهزة للقتال التي قد تنصّبها سوريا خارج مرتفعات الجولان ضمن مدىً يطول إسرائيل. هذا وستصرّ إسرائيل أيضا ً أن تقوم سوريا بوقف إمدادات الأسلحة لحزب الله وتتعهّد بالمساعدة في تجريد سلاح هذه المنظمة. أمّا بالنسبة لقضايا أخرى ذات أهمية كبيرة أيضاً بالنسبة لإسرائيل، شاملة إمدادات المياه وتطبيع العلاقات، فهذه قد تبرهن بأنها أسهل حلاًّ لأنه يبدو بأن السوريين مصمّمون ألاّ تمنعهم مثل هذه القضايا من التوصّل لاتفاقية. الصورة الأمثل بالطبع أن يلتزم كلا الطرفين بايجاد حلول لتخفيف المخاوف الأمنيّة لدى الطرف الآخر، لأن هذا يتلازم مع مخاطر المفاوضات المفتوحة. وكما قال لي يوماً موظّف سوري رفيع المستوى طلب عدم ذكر إسمه:
"في حالة قيام إسرائيل بتنازلات على خلاف الحدود، سنفاجيء حينها الإسرائيليين بمدى مرونتنا في جميع القضايا الأخرى".
التعقيد الأخير الذي قد يجرّ المفاوضات لفترة طويلة من الزمن هو عدد المراحل التي سيتطلبها الإنسحاب الإسرائيلي الكامل من مرتفعات الجولان. وفي نهاية المطاف تريد دمشق اتفاقية مضمونة وملزمة يتم التوصل إليها مع حكومة إسرائيلية واحدة وذلك لمنع أي تغيير في المواقف أو الرجوع عن الإلتزامات ممّا قد يحدث في ظلّ حكومة جديدة. أضف إلى ذلك، فالسوريون ينظرون إلى الإنسحاب
من الجولان من وجهة نظر عسكرية لوجستية بحتة ويشعرون بأنه بإمكان إسرائيل أن تنسحب من الجولان خلال بضعة أشهر. وبالنسبة للإسرائيليين، فإن انسحاب ما يقارب 30.000 مستوطن وما يترتب على ذلك من مشاكل إعادة توطينهم في مواقع أخرى هو بمثابة كابوس قومي، ناهيك عن المقاومة العنيفة التي ستبديهاحركة المستوطنين. وأعتقد بأن كلا الطرفين سيتفقان أخيراً على انسحاب بمراحل على مدى فترة ثلاثة أعوام تقريباً. ويكون التقدم فيها مواكباً لما يتم التوصل إليه من أمن إقليمي. وبالمقابل، ستصرّ إسرائيل على أن تتخذ سوريا جملة من الإجراءات للبرهان على التزامها بإقامة علاقات طبيعية، مثلاً تحفيز التبادل التجاري بين البلدين والوفود الأكاديمية وتنقل الموظفين الرسميين بين البلدين. وفي الوقت الذي يتم فيه التقدّم في كل مرحلة ولغاية إبداء آخر مستوطن استعداده للرّحيل، يجب على كلا الجانبين أن يظهرا علناً تعهدهما بالسّلام بين الشعبين وليس فقط بين الحكومتين.
وبخلاف محادثات السلام السابقة بين سوريا وإسرائيل، فإن فرص نجاح هذه الجولة من المفاوضات هي أكبر بكثير من أي وقت مضى. فكلا البلدين، إسرائيل وسوريا، يدركان تماماً خطورة الوضع الأمني المتدهور في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط والمخاطر الموجهة على كلا البلدين في حالة عدم التمكن من احتواء القوى المتطرفة. إسرائيل تدرك أيضاً حتمية إعادة هضبة الجولان إلى سوريا إذا أرادت أن تعيش بسلام وأمان، وسوريا تدرك تماماً أن علاقاتها مع إيران لها حدود وقيود فطرية ومتأصلة. فازدهار سوريا الإقتصادي في المستقبل وأمنها النهائي يعتمدان على السّلام مع إسرائيل والعلاقات الطبيعية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه هي العوامل على أرض الواقع التي تدفع إسرائيل وسوريا نحو السلام. والإشتراك الأمريكي في هذه المفاوضات سيكون له أهمية كبرى عاجلاً أم آجلاً. ومن المؤسف له حقاً أن إدارة بوش قد فشلت حتى الآن في إدراك الحاجة لسلام إسرائيلي – سوري وما سيكون لهذا السلام من تأثير كاسح على المنطقة بأكملها. وبدلاً من ذلك، فقد جعلت هذه الإدارة من وضع سيء وضعاً أسوأ برفضها إشراك سوريا في أي دور سياسي في المنطقة ومنع إسرائيل من السعي وراء المسار المنطقي الوحيد لصنع السلام إلى جانب المسار الفلسطيني. من الضروري على مرشحي الرئاسة الأمريكية التعبير عن تأييدهما المطلق لمباحثات السلام الإسرائيلية – السورية، ومهما كان الرئيس المنتخب، عليه أن يقدّم الدّعم الجوهري اللازم لتوصيل محادثات السلام التاريخية هذه إلى نهاية ناجحة.