موقف إسرائيل الهجومي نحو السلام
20 حزيران (يونيو ) 2008
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
قد يكون وراء موقف إسرائيل الهجومي نحو السلام في الآونة الأخيرة إلى حد ما قناعات شخصية أو محليّة سياسية، غير أن القوة الدافعة وراء رغبة أو حتى إرادة إسرائيل للتفاوض هو جزء من خطة أو رزمة أكبر بكثير من ذلك. وحيث أن الديناميات في الشرق الأوسط تتحوّل باتجاه يتماشى مع رد الفعل العنيف الذي يسبّبه حرب العراق وبرنامج إيران النووي الذي يقوى وينمو بصورة مضطردة، يبدو أن إسرائيل سلمت أخيراً بحقيقة أن السلام مع سوريا يمسك بمفتاح التقارب مع باقي دول العالم العربي، بما في ذلك الفلسطينيين. ويبدو من الواضح في هذه الفترة بالذات بأن الانتظار مدّة أطول لن يزيد سوى من حدّة تهديدات إيران لوجود إسرائيل. فإذا تمّ الاتفاق مع إبرام سلام مع سوريا، سيكون لإسرائيل فرصة أفضل بكثير للقيام بمفاوضات ناجحة مع لبنان والسلطة الفلسطينية وتكون مجهّزة بصورة أفضل للتعامل مع حزب الله وحماس، وهذه أمور ستصبح جميعها في منتهى الأهمية عندما تعدّ إسرائيل نفسها لمواجهة إيران.
لقد كان قرار إشراك سوريا في مفاوضات السلام في حيّز الصياغة لأكثر من سنة. وكنت أنا مضطلعاً بصورة شخصية سرية على بعض المفاوضات الغير مباشرة بين الجانبين وأنا أعلم من مصدر موثوق بأنه لو لم يكن هناك اعتراضات من جانب إدارة الرئيس بوش على ذلك لكانت إسرائيل قد شرعت بهذه المفاوضات منذ وقت طويل. إسرائيل وسوريا تدركان تماماً متطلبات اتفاقية سلام بينهما، وهي إعادة مرتفعات الجولان بالكامل لسوريا مقابل سلام شامل مع علاقات طبيعية بين البلدين. وبدون التسليم بهذه المتطلبات مقدماً، أشك أن يكون البلدان قد دخلا في أية مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة.
لا يمكن المغالاة في تقدير أهمية إشراك سوريا من وجهة النظر الإسرائيلية، فبدون سلام بين إسرائيل وسوريا ستبقى إسرائيل عند حدودها الشمالية دائماً غير آمنة حسب اعتقاد معظم الإسرائيليين. وبإمكان السلام مع سوريا أن يمهّد الطريق أيضاً لتطبيع العلاقات الإسرائيلية – اللبنانية، خصوصاً وأن سوريا منصهرة في كيان لبنان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومستمرة في ممارسة تأثير كبير على حزب الله. أضف إلى ذلك، بإمكان سوريا ممارسة تأثير مهم أيضاً على جبهة المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية لأنها تشكّل أكثر من أي بلد عربي آخر ملجاً
للقادة الفلسطينيين المتطرفين ونفوذاً على الدعم السياسي والمالي للمجموعات والمنظمات الفلسطينية المتطرفة. ويتجاوز النفوذ السوري الصراع العربي – الإسرائيلي لأن سوريا، كونها دولة ذو أغلبية سنيّة، تستطيع منع ديناميكية الصراع الشيعي – السني من التنامي والانتشار فتعمّ منطقة الشرق الأوسط بأكملها بعواقب غير متوقعة. والأهم من ذلك، فإن أي مجهود يُبذل لاحتواء طموحات إيران النووية يقلّص بصورة جوهرية من نفوذ إيران في لبنان ويضعف بصورة جزئية حزب الله وحماس، ولذا فسوريا من وجهة النظر هذه في منتهى الأهميّة لأن إغراءَها للخروج من قبضة إيران سيعزل إيران، خصوصاً إذا دعت الضرورة لقيام إسرائيل بهجوم على منشآت إيران النووية.
وبالرّغم من أن هناك جدل في الأوساط الإسرائيلية المسئولة حول دور سوريا في البحث عن حلول للشرق الأوسط، فإن رئيس الوزراء أولمرت ووزير دفاعه إيهود باراك ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني كانوا متفقين تماماً على ضرورة قيام إدارة الرئيس بوش بدعوة سوريا لمؤتمر أنابوليس للسّلام في الشرق الأوسط مدركين تماماً بأن الوفد السوري سيرفع قضية احتلال مرتفعات الجولان في المؤتمر. إنهم يعتقدون الآن بأن إشراك سوريا البنّاء في العملية السلمية سيجر معه إلى حدٍ بعيد القوى التي ستواجه مشاكل المنطقة والتي قد تساعد على منع وقوع حرب مع إيران. وتشير التقارير القادمة من أنقرة حول وساطة السلام التركية بين إسرائيل وسوريا بأن البلدان قد حققا تقدماً مرموقاً في المفاوضات وبأن الجانبان سيلتقيان عن قريب وجهاً لوجه للإسراع في عملية التفاوض. وبيان الرئيس السوري بشار الأسد في الآونة الأخيرة الذي يعبّر عن التفاؤل حول نتيجة هذه المفاوضات يدلّ بوضوح على المدى الذي قطعه الطرفان بهذا الخصوص.
ورؤية هذه المعطيات تحت هذا الضوء يفسّر عروض واقتراحات إسرائيل المتعددة بخصوص السلام الموجهة للبنان، وكذلك رغبتها في التفاوض مع حزب الله حول عملية تبادل للأسرى وقبولها اتفاقية هدنة مع حماس.
لقد تمّ ولأسباب مختلفة متابعة المفاوضات ما بين حزب الله وإسرائيل بخصوص موضوع تبادل الأسرى ورغبة إسرائيل في التخلي عن مزارع شبعا لقوات الأمم المتحدة أو لبنان. إن قادة حزب الله يدركون تماماً بأنه كلّما زاد التفاهم والتقارب ما بين إسرائيل وسوريا، قلّ تأثير حزب الله في أية مفاوضات مستقبليّة بين البلدين. والوصول إلى اتفاقية مع إسرائيل الآن سيسمح لهم أن يفخروا باستعادة الأراضي اللبنانية وتمجيد مقاومتهم لإسرائيل على أنها مفتاح نجاحهم. وبالنسبة للجانب الإسرائيلي، فإن إزالة الأسباب الكامنة وراء مقاومة حزب الله
سيمنح سوريا حتى تأثيراً وقوة أكبر على حزب الله لنزع سلاحه في الوقت المناسب. وفي إبرامها سلاماً مع سوريا، ستقبل إسرائيل مبدئياً بشرط إعادة الجولان. والقيام بتحرك في هذا الوقت بالذات سيحد من احتمال التصدي لجبهة معادية أخرى في حالة لا مفر من القيام بهجوم على إيران.
وقبول هدنة مع حماس لها أيضاً حساباتها الخاصة. فبدون سلام مع سوريا قد تختار إسرائيل على الأرجح شن حملة عسكرية كبيرة ضد قوات حماس في غزة لوضع حد لعهد الإرهاب. ولكن بما أن المفاوضات مع سوريا تتقدّم بصورة جيدة، فإن هجوم إسرائيلي مكثف على القطاع الذي من شأنه أن يترك وراءَه عدداً كبيراً من الضحايا والإصابات على كلا الجانبين قد أصبح في الوقت الحاضر غير ضرورياً. وتتوقع إسرائيل تماماً أن يتوقف دعم إيران لحماس عن طريق سوريا في حالة التوصل إلى اتفاقية سلام معها. هذا قد يخفف كثيراً من مخاوف إسرائيل بخصوص احتمال أن تستفيد حماس من هذه الهدنة لإعادة تسليح نفسها ورص صفوفها وتحضير نفسها بصورة أفضل للجولة القادمة. وأثناء ذلك، ستسمح فترة التهدئة بتقدم مفاوضات السلام أيضاً بصورة أسرع ما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، داعمة بذلك القوى الفلسطينية المعتدلة بقيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. أضف إلى ذلك، سيعطي هذا إسرائيل فرصة لتخفيف بعض الإجراءات الأمنية المتشدّدة، بما في ذلك إزالة العديد من حواجز الطرق والإفراج عن المزيد من السجناء الفلسطينيين والسماح لعدد أكبر من العمّال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل. ولكن في حين أن جميع هذه الإجراءات لن تحلّ بالتأكيد قضايا الصراع المعقدة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، غير أنها ستعزّز إعادة بناء الثقة بين الطرفين وتظهر جهداً ملموساً على الجانب الإسرائيلي للشروع بعمل تنازلات باسم السلام. وستكون إسرائيل بعد ذلك في وضع أفضل لمساعدة الرئيس محمود عباس بطريقة مباشرة وغير مباشرة لبناء قوات الأمن الفلسطينية التابعة له دون أن تُتّهم بتحريض فصيل فلسطيني ضدّ الآخر.
وختاماً، فإن عرض إسرائيل للسّلام مع لبنان سيكون إيماءة بدون مضمون وبالتالي لا معنى لها لو لم تكن إسرائيل تتفاوض حالياً وفي نفس الوقت مع سوريا. وفي الواقع ليس هناك نزاع مادي أو حقيقي ما بين إسرائيل ولبنان، فليس لدى إسرائيل مطالبات تجاه لبنان تتعلّق بالأراضي وهي مستعدّة للتنازل عن مزارع شبعا إمّا لقوات الأمم المتحدة المرابطة على الحدود بين البلدين أو وضعها مباشرة ً تحت السيطرة اللبنانية. ولكن هذه القضية مع جميع القضايا الأخرى بصنع السلام بين إسرائيل ولبنان مرتبطة إلى حدّ بعيد بنوع التفاهم الذي ستتوصل إليه إسرائيل مع سوريا بخصوص مستقبل لبنان. وفي الوقت الذي ستقبل فيه سوريا ظاهرياً
بسيادة لبنان، فإنها ستستمر بالمطالبة باعترافٍ بعلاقاتها الخاصة مع لبنان. بالطبع، تستطيع سحب القوات السورية من لبنان، ولكنك لن تستطيع نزع العلاقات التاريخية والحضارية لسوريا وكذلك مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية من قلب لبنان. وبالرغم من أن عرض إسرائيل تجاه لبنان مهم حيث أنه يبيّن للعالم شمولية التقارب الإسرائيلي، غير أنه يجب على الحكومة الإسرائيلية ألاّ تنخدع بفرصة فعلية لصنع السلام مع لبنان قبل أن يصبح هذا السلام واقعاً ملموساً مع سوريا.
لقد بيّنت المناورات الإسرائيلية الجوية بالطائرات المقاتلة ف-16 و ف- 15 في مطلع هذا الشهر بأن تهديدات إيران العلنية ضد وجود إسرائيل قد أخذت الآن محمل الجد. وفي حالة وصول برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم إلى نقطة الخطر المحدق، فإن إسرائيل ستكون بحاجة إلى أية معاهدات تستطيع القيام بها في الوقت الحاضر. لقد أثبتت سوريا حتى الآن في أية جهود لصنع السلام في المنطقة بأنها المفتاح الإستراتيجي الأكبر أهمية في منع حرب شاملة. ومن الناحية التاريخية أثبتت سوريا أيضاً بأنها عادةً تحترم التزاماتها في حالة تعهدها بأية اتفاقية أو مذكرة تفاهم. والتزام سوريا ببنود وقواعد معاهدة فك الإرتباط مع إسرائيل المبرمة عام 1974 هو واحد من أمثلة كثيرة. وفي حالة التوصل إلى نهاية ناجحة لمفاوضات السلام الحالية، سيطرأ تحوّل تاريخي لديناميكية الشرق الأوسط من الناحيتين الجغرافية والسياسية، وفي نفس الوقت سيمنع هذا التحول حدوث حريق هائل بين إسرائيل وإيران. ويمسك كلا البلدين، إسرائيل وسوريا، بكامل قبضتيهما بمقادير الربح أو الخسارة الهائلة التي تعتمد بالطبع على نجاحهما أو فشلهما.