سوريا وإيران: هل يشكّلان بالفعل تحالفا ً ص
ُينظر إلى علاقة سوريا مع إيران، بالرغم من أنها إلى حدّ بعيد غير متناسقة، على أنها تحالف قويّ يعتقد الكثير من المراقبين السياسيين بأنّه سيزداد صلابة ً. ولكن ما وراء هذا العرض المسرحي تعتمد روابط إيران مع سوريا إلى حدّ كبير على الإدراك الحسّي العاطفي قبل اعتمادها على الواقع الملموس. لقد كان كلا البلدين منشغلين بصورة منهجية في خداع بعضهما البعض لخلق أسطورة التحالف الصّلب الذي يعتمد على التعاون الإقتصادي والسياسي والعسكري، في حين أنّ الكثير منه في الواقع حبر على ورق. سوريا لا تستفيد إلاّ القليل من علاقاتها مع إيران في حين أنّها بحاجة ماسّة إلى الإصلاحات الإقتصاديّة والإستثمارات الرأسمالية الضخمة التي لا يستطيع سوى الغرب أن يقدّمها لها. ستكون الإدارة الأمريكية الجديدة في موقف ٍ قوي ّ لإغراء سوريا الخروج من فلك إيران وتحسين الأجواء السياسية بصورة جذريّة في الشرق الأوسط التي بمقدورها أن تؤدي إلى الإستقرار الإقليمي وحتّى السّلام.
وبالرغم من جميع النوايا الحسنة، لا يوجد إلاّ ما هو قليل جدّا ً من قضايا مشتركة بين البلدين: ففي حين أنّ سوريا دولة علمانيّة، نجد أن النّظام الحاكم في إيران ثيوقراطي، أي في أيدي رجال الدين. وهناك أيضا ً على مدى التاريخ حضارة فارسية تواجهها حضارة عربيّة مع وجود هويّتين قوميّتين تختلفان كليّا ً عن بعضهما البعض. وبالرغم من أنّ الرئيس السّوري بشّار الأسد يدين بالمذهب العلويّ، الذي هو فرع من الشيعة، غير أنّ غالبيّة السكان في سوريا يدينون بالمذهب السنّي بينما تسيطرالشيعة في إيران. أضف إلى ذلك، ليس للدولتين حدود مشتركة يرعيان من خلالها تجارة كبرى أو علاقات أمنية. واقتصاد البلدين يختلف جوهريّا ً عن بعضهما البعض. فالإقتصاد الإيراني يعتمد إلى حدّ كبير على إيرادات النفط بينما تعتبر سوريا إلى حدّ كبير مجتمع زراعي. علاوةً على ذلك، إيران بحاجة إلى تقنية متقدّمة لا تستطيع سوريا أن توفرها لها. وفي الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى استثمارات رأسماليّة، لا تستطيع إيران تقديمها لها أيضا ً. ولو أخذنا قضيّة سياسية حاسمة بين البلدين وهي قضية المبادرة العربية، نجد أنّ سوريا تساند المبادرة العربية للسّلام مع إسرائيل في حين تستمرّ طهران في معارضة أية مباحثات سلام مع إسرائيل، بما في ذلك مفاوضات السّلام الإسرائيلية – السوريّة التي تحاول طهران جاهدة ً تقويضها. علاوة ً على ذلك، فانّ سوريا
تنظر إلى نفسها على أنّها المركز الفكري للأمّة العربيّة في صراعها بحثا ً عن توحيد المجتمعات العربيّة السنيّة واستعادة سوريا لمركزها كدولة عربية قائدة ومستقلّة. أما إيران فإنها تسعى إلى الهيمنة الإقليميّة وامتلاك الأسلحة النووية في الوقت الذي تحاول فيه إخضاع الدول العربيّة السنيّة المذهب. وتنعكس الهوّة بين هاتين الدولتين بصورة جسيمة في علاقتهما اليوميّة، غير أنّ تعاونهما السياسي والطبيعة المتردّدة التجريبية لأهدافهما الإستراتيجيّة تحدث غطاءً من الدخان يغطي على عدم استقرار تحالفهما.
من الواضح بأن العامل المساعد الرئيسي الذي يقف وراء التعاون السياسي الوثيق بين سوريا وإيران هو حملة إدارة الرئيس بوش لعزل الدولتين. إن فرض عقوبات أمريكية بالدرجة الأولى وبعض العقوبات من طرف الدول الأوروبية الغربية ضد سوريا وكذلك العقوبات الدولية المتراكمة ضد إيران قد زوّدت التحالف السياسي بين البلدين المذكورين بمزيد من الزخم. علاوة على ذلك، فإن العداء المتبادل لسياسات إسرائيل قد قرّبت البلدين أكثر من بعضهما البعض. أضف إلى ذلك بأن كلا البلدين يشعران بأنهما مهددين من نية الولايات المتحدة المعلنة لتغيير نظام الحكم فيهما. ونتيجة لذلك فقد سعت سوريا وإيران إلى تقديم الدعم السياسي لبعضهما البعض واتفقتا، على الأقل من الناحية التكتيكية، أن يتعاونا يداً بيد لمعارضة المصالح الأمريكية والإسرائيلية بفعاليةٍ في المنطقة. واستغلت إيران سوريا بحذاقة لمساندة موقفها في لبنان بدعم حزب الله وتقديم المساعدة لحماس والجهاد الإسلامي في المناطق الفلسطينية، في الوقت الذي استفادت دمشق فيه من الدعم المالي والسياسي المحدود الذي تقدمه إيران لها.
وبعد هذا كله، على دمشق وطهران أن يترجما توافقهما السياسي والإستراتيجي إلى تعاون اقتصادي وأمني ملموس. ففي حين أن إيران تعتز بأنها استثمرت وأبرمت اتفاقيات بقيمة مليارات الدولارات في سوريا وأنه تم إبرام عشرات الإتفاقيات التي تغطي السياحة والمصارف والصحة والبيئة والزراعة والتعليم، غير أن الغبار يعلو على معظم هذه الاتفاقيات. فحجم التجارة بين البلدين ضئيل جداً لم يتجاوز 200 مليون دولار أمريكي في عام 2007، منها 180 مليون دولار كانت صادرات إيرانية لسوريا. أما الحجم التجاري بين سوريا والولايات المتحدة خلال نفس الفترة كان أكبر من ضعف هذه القيمة رغم القيود الناتجة عن العقوبات الأمريكية، بينما تجاوز حجم التجارة في نفس العام بين سوريا وتركيا سقف 1.6 مليار دولار أمريكي. ويشير تقرير لوكالة الاستخبارات الأمريكية من شهر مارس (آذار) 2008 بأنه "في الوقت الذي نما فيه الاقتصاد السوري بنسبة 3.3 % في عام 2007، إلاّ أن الاقتصاد يبقى رغم ذلك إلى حد كبير تحت توجيه الحكومة. وتشمل المشاكل الاقتصادية بعيدة المدى: التخفيض من إنتاج النفط،
نسبة عالية من البطالة والتضخم، عجز متنامي في الميزانية وضغط متزايد على إمدادات المياه بسبب الإستهلاك المفرط في الزراعة، ونمو سريع للسكان وتوسع صناعي وتلوث المياه". أضف إلى ذلك، هناك حاجة ماسة إلى مليارات الدولارات لتحسين وضع البنية التحتيّة والتعليم والرعاية الصحيّة والخدمات الإجتماعيّة والإسكان.
وبصرف النظر عن التعاون السياسي الواضح بين البلدين، فإن الإفتقار إلى العلاقات الإقتصاديّة الملزمة وغياب الحماس الإيديولوجي المشترك والمصالح الإستراتيجيّة على المدى البعيد قد جعلت مبدئيّاً هذا التحالف بين سوريا وإيران فارغ المحتوى في الواقع. واستناداً إلى المعلومات المتوفرة لديّ من مصدر موثوق به والتي تؤيّدها المباحثات الجارية، فانّه من الواضح بأن سوريا قد جعلت من السّلام مع إسرائيل خياراً إستراتيجيّا ً، ليس فقط لأن السوريين يريدون إسترجاع مرتفعات الجولان، بل لأن دمشق تسعى أيضا ً إلى تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكيّة. دمشق تدرك تماماً بأن علاقات طبيعيّة مع الولايات المتحدة هي الكفيلة فقط بجلب الإستثمارات الرأسماليّة والتجارة والتقنية الحديثة من الغرب، وخصوصا ً من أمريكا، ومع مرور الوقت أيضا ً أمل الحصول على معدّات عسكريّة حديثة. وسوريا، على اية حال، لم تعد تأمل أن تقوم إدارة الرئيس بوش الحاليّة بتطبيع العلاقات معها في أيامها الأخيرة الباهتة، الأمر الذي يشرح إلى حدّ بعيد رفض سوريا إجراء مباحثات مباشرة مع إسرائيل والإستمرار في المفاوضات الغير مباشرة بوساطة تركيّة في الوقت الحاضر، لأن المفاوضات المباشرة مع إسرائيل تعتبر ورقة سوريا الرابحة التي لا تريد التفريط بها بدون الحصول على شيء مقابل ذلك. وكما قال لي في الآونة الأخيرة أحد كبار المسئولين السوريين بأن الولايات المتحدة من خلال المفاوضات المباشرة فقط سيكون لها دورا ً فعّالاً في المنطقة وفي إنجاح هذه المفاوضات، وأنّه فقط حينها سيُرسّخ السلام وتتوقّع سوريا بعد ذلك الإستفادة ماليّا ً وسياسيّا ً.
وحيث أنّ الرّوس قد شرعوا للمرة الثانية في استعراض عضلاتهم، فإنّ سوريا، لربّما من موقع الحاجة أو كإنذار موجّه إلى الولايات المتحدة، تجدّد مغازلتها لموسكو. وعلى الإدارة الأمريكيّة الجديدة ألاّ تنتظر طويلا ً في إرسال إشارة لسوريا مفادها بأنها راغبة في فتح صفحة جديدة في علاقاتها معها. وبما أنّ الضغط الدولي يستمرّ في التصاعد ضد إيران بسبب برنامجها النووي، فإن الرئيس بشّار الأسد يدرك بأن تحالفه مع طهران يزداد هشاشة ً ويصبح أقلّ فائدة ً. وهو يعلم أيضا ً السعر الذي يتوجّب عليه دفعه مقابل إسترداد الجولان والعلاقات
الطبيعية مع الولايات المتحدة الأمريكيّة والذي ستكون نتيجته بشكل ٍ أو بآخر على النحو التالي: تخفيض جوهري في التعاون مع إيران، بذل الجهود لإضعاف حزب الله وفي النهاية نزع سلاحه، وقف التأييد والدّعم عن الفصائل الفلسطينيّة المتطرّفة حماس والجهاد الإسلامي، تأييد كامل للجهود الأمريكيّة في العراق. وأخيرا ً، التعاون في محاربة الإرهاب.
إنّ سوريا متلهّفة لتغيير المسار السياسي ويجب على الإدارة الأمريكيّة الجديدة أن تسمح لها بذلك. وأنّ الرئيس السّوري بشّار الأسد قد جعل فعلا ً من مفاوضات السّلام مع إسرائيل قضيّة علنيّة، هي بلا شكّ حقيقة تشهد على رغبته في تغيير التحالفات. وخطة واقعيّة لإشراك الولايات المتحدة مقرونة ً بحوافز يضعها الرئيس الأمريكي القادم ستكون بمثابة ضربة موجعة لطموحات إيران الإقليميّة، الأمر الذي يفسّر سبب إنزعاج إيران وقلقها في الماضي وفي الوقت الحاضر من مباحثات السلام السوريّة – الإسرائيلية.