ما يُميّز فيّاض عن غيره
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
عندما عرض رئيس وزراء السلطة الفلسطينية د. سلام فيّاض لأوّل مرّة خططه لبناء البنية التحتيّة للدولة الفلسطينية المستقبليّة، فكّر العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين بأن هذه ليست إلاّ سراباً آخراً شرق أوسطياً لن يترك انطباعاً دائماً. ولكن بعد عامٍ ونيّف بدأت الخطة تبيّن ليس فقط وعداً هائلاً، بل وأصبحت لا يستغنى عنها لنشوء دولة فلسطينية ديمقراطية، دولة تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل بسلامٍ وأمان. على إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكلٍ خاص القيام بكلّ ما بوسعهم لدعم خطة فيّاض ولضمان بأنّ الفرق الذي عمله يتعذر الآن إلغاءَه أو عكسه ويؤدي إلى الخيار الحيوي الوحيد وهو حلّ الدولتين.
كنت منذ فترة قصيرة في زيارة للضفة الغربية حيث قضيت ساعة مع رئيس الوزراء فيّاض وقد ذهلت من التقدّم الاجتماعي – الاقتصادي الملحوظ في مناطق متعددة من الضفة الغربية، وبالأخص في رام الله. والأكثر إثارة للإعجاب كان تصميم د. فيّاض على الاستمرار في دربه بإيمان راسخ تماماً بأن إمكانية إقامة دولة فلسطينية مرهونة بأيدي الفلسطينيين بشرط أن يركزوا على بناء مقومات الدولة التي ترتكز على أربعة أركان من وجهة نظره.
أولاً، أكّد رئيس الوزراء على استنتاجه بأن المقاومة المسلحة والعنف قد انتهيا. إن ارتكاب أعمال عنف ضد الإسرائيليين لا يخدم إلاّ مصالحهم ويقدّم المبرر لاستمرار احتلالهم وتمكين إسرائيل من ربط أمنها القومي بالاحتلال. يجب على الفلسطينيين تحرير الرأي العام الإسرائيلي من هذا الوهم. والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو الإصرار على نهجٍ خالٍ من العنف لحل الخلافات مع إسرائيل، وبالأخصّ أن المجتمع الدولي الآن يدعم قيام دولة فلسطينية.
- 2 –
ولهذا السبب يجب أن يكون التحضير للدولة تحضيراً سلمياً، حيث يقول الدكتور فيّاض "بأن دولة فلسطين ستكون دولة محبة للسلام تنبذ العنف وتلتزم بالتعايش السلمي مع جيرانها وتبني جسور التعاون مع المجتمع الدولي". وبالرّغم من تحذيره بأن الفلسطينيين، وبالأخصّ حماس، ما زالوا غير متحدين بهذا الخصوص، فإن الأمر يتعلّق بالسلطة الفلسطينيّة لتبيّن بأن سياسة اللاعنف تجلب مكاسب هامّة لشعب ينمّي اهتمامات ومطالب ثابتة للحفاظ عليها. لقد أكّد فيّاض بشدّة على أنّه إذا كانت إسرائيل تسعى فعلا ً لتعايش سلمي، يجب عليها دعم جهوده ليس فقط عن طريق المزيد من تخفيف عبء الإحتلال، بل أيضا ً بالإستثمار في المشروع الفلسطيني الذي بإمكان كلا الطرفين الإستفادة منه اقتصاديّا ً بدرجة كبيرة وتعزيز الثقة المتبادلة، وهو أمر حسّاس جدّا ً لإقامة علاقات جوار حسنة.
النقطة الثانية التي أكّد عليها د. فيّاض هي بناء البنية التحتيّة للدولة، شاملة المناطق الصناعيّة، شبكات الكهرباء، الطرق، المعابر وخدمات أخرى مهمّة مثل المدارس والمستشفيات. لقد ذكر أنّه لا يمكن إقامة دولة إن كانت تفتقر للبنية التحتيّة الأساسيّة أو الدواوينيّة التي تمكنها من الإستجابة لاحتياجات الشعب. ومما يثير الإهتمام أنه اختار إسرائيل كنموذج يُحتذى به، ليس فقط من وجهة نظر تطوير البنية التحتيّة قبل إعلان الدولة، بل أيضا ً من وجهة نظر نظامها السياسي وضرورة الوحدة للحفاظ على الهويّة الوطنيّة. لقد قال د. فيّاض بأن إسرائيل لم تُقام في عام 1948 بل أنّه في هذا العام كان الإعلان الرسمني فقط. لقد تمّ تأسيس الدولة مع كل النوايا والأهداف قبل ذلك بعدّة عقود. وأورد مثالا ً على ذلك منظّمة الهستدروت، نقابة إسرائيل المهنيّة، التي أنشئت في بداية الإنتداب البريطاني بحدود عام 1923 وكانت مسئولة عن جميع الخدمات الإجتماعيّة للعمال، بما في ذلك الرعاية الصحيّة والتعليم والشئون المصرفيّة والإسكان، مُشكّلة ً بذلك لبنات بناء الدولة وبقيت كذلك ذات نفوذ إلى حدّ ما حتى يومنا الحاضر. ومؤسسة مهمة أخرى في بناء دولة إسرائيل كانت الوكالة اليهوديّة التي تمّ الإعتراف بها من قبل الإنتداب البريطاني على أنها التنظيم الحاكم الذي كان يشرف على العلاقات السياسيّة والإقتصاديّة والثقافيّة. وبقيت الوكالة اليهوديّة بعد إنشاء الدولة المنظمة الرئيسية لتسهيل الهجرة لإسرائيل. وبالنسبة للدكتور سلام فيّاض، فإن بناء البنية التحتيّة لا يمنح فقط الإحساس بالإنتماء للدولة بل أيضا ً إحساسا ً قويّا ً بالإنجازات الذي يجعل هدف الإستقلال السياسي يبدو أكثر واقعيّة. وفي نهاية المطاف، قال رئيس الوزراء، إن التقدّم المنظور والثابت هو الذي من شأنه أن يغيّر التاريخ السياسي السلبي الذي صنع الفضائل من الحقد والمآسي باسم تحدّي الإحتلال.
-3-
وعند سؤاله عن تشكيل النظام السياسي كان الدكتور فيّاض واضحا ً وحاسما ً من خلال ركنه الثالث. قال بأن " فلسطين ستكون دولة ديمقراطيّة مستقرّة بنظام سياسي متعدّد الأحزاب على أساس التعدّدية الحزبية، ضمان المساواة وحماية جميع حقوق مواطنيها وحرياتهم على النحو الذي يحرسه القانون وضمن حدوده". واستطرد رئيس الوزراء الفلسطيني يقول بأن الفلسطينيين لن يقبلوا بأقلّ من ذلك. لقد عاشوا بجوار الإسرائيليين لأكثر من ستة عقود من الزمن، وبصرف النظر عن الصّراع الطويل والدامي أحيانا ً بينهما، فإن الشعب الفلسطيني قد شهد مباشرة ً دور الديمقراطية في إسرائيل ويقدّر قيمتها وميزاتها والفوائد التي تقدّمها، مضيفا ً "أنّ تكوين قيادة مُنتخبة ديمقراطيّا ً تتمتّع بتأييد شعبي وحزبي وكذلك باعتراف إقليمي ودولي هي خطوة مهمّة باتجاه تحقيق الهدف الوطني الأسمى وهو إقامة دولة فلسطين". ولا يستثني د. فيّاض في هذا السياق أي شخص أو أيّ فصيل لأنّه، من وجهة نظره، فقط الديمقراطيّة الحقيقيّة التي يكون فيها لكلّ فلسطيني الحقّ في المشاركة ستقدّم للفلسطينيين نظاما ً سياسيّا ً يواكب ويتحمّل استقلالهم وكذلك تقدّمهم الإجتماعي والإقتصادي.
وفي الختام، في شرحه لطبيعة الدولة الفلسطينيّة يعني د. فيّاض تماما ً بأنها ستكون دولة لكلّ الفلسطينيين. وحيث أن الناس قد يختلفون في وجهات نظرهم السياسيّة أو العقائديّة، لكن عليهم أن يبقوا متّحدين في تطلعاتهم للحفاظ على الوحدة الوطنية للهدف. وأضاف يقول بأن "الحكومة تتحمّل مسئوليّة كبيرة لتسهيل الحوار الوطني الهادف إلى إنهاء حالة التشرذم السياسي وإعادة الوحدة الوطنيّة". وبالرغم من أنّ د. فيّاض لم يلفظها صراحة، فقد كان يشير إلى حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينيّة التي ما زالت ترفض وجود إسرائيل، غير أنّه يشعر بالتفاؤل فيما يتعلّق بمطمح الوحدة الفلسطينيّة ما دام مبدأ إنشاء دولة فلسطين قائماً ضمن حدود عام 1967 مع بعض عمليّات التبادل المحدودة في الأراضي ويتمتّع الفلسطينيّون بالحريّات الممنوحة لمواطني الدول الأخرى المتقدّمة. ويعتقد د. فيّاض بأن جميع الفلسطينيين تحت هذه الشروط والظروف سيدعمون في النهاية الدولة الفلسطينيّة الناشئة التي تعيش جنبا ً إلى جنب بسلام ٍ مع إسرائيل.
-4-
الصّورة بالطبع وبشكل ٍ عام ليست مشرقة لهذا الحدّ، فالدكتور فيّاض يواجه عددا ً من العقبات الصعبة التي يجب أن يتغلّب عليها. وليتمكّن من ذلك، فهو بحاجة ٍ للدعم الداخلي والخارجي. وعدا عن أنّه مرفوض من قبل حماس ومجموعات ٍ أخرى متطرّفة، فهو ما زال أيضا ً يمرّ بصعوبات ٍ جسيمة من داخل حركة فتح. يُنظر اليه بشكل ٍ عام على أنه غريب وغير إنتمائي وحتّى في معزل ٍ عن الواقع اليومي للشعب الفلسطيني. إنّ خططه بحاجة إلى المزيد من الترويج الشعبي، وبالأخصّ خارج المناطق الفلسطينيّة. كما أنّه بحاجة إلى أن يبيّن تقدّما ً ملموسا ً في مباحثات التقارب. وعلى الولايات المتحدة بصورة خاصّة أن تبذل كلّ ما بوسعها لتمكينه من إظهار المزيد من التقدّم على هذه الجبهات بحيث يتمكّن من كسب المزيد من التأييد الشعبي. وعلى إسرائيل أن تقوم بتنازلات أكبر وأكثر بروزا ًفي مباحثات التقارب لتخفيف قيود الإحتلال، وبالأخصّ بالنظر إلى مقدرة الفلسطينيين الظاهرة والثابتة في موضوع الأمن الداخلي والحفاظ على السّلام بمنع أعمال العنف ضد الأهداف الإسرائيليّة.
قد يستطيع المرء أن يتخيّل فقط أي تغيير كانت ستحدثه خطّة فيّاض لو دخلت حيّز التنفيذ فور إبرام اتفاقيات أوسلو في الفترة 1993-1994. ستكون بالتأكيد الدولة الفلسطينيّة قد وقفت الآن على رجليها، وآلاف الأرواح علا كلا الجانبين بقيت حيّة تُرزق بدون إزهاق. وقد تكون منطقة الشرق الأوسط بأكملها قد انتعشت من جميع النواحي بما يفوق إدراكنا في الوقت الحاضر. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:" هل سيقوم الرافضون من الإسرائيليين والفلسطينيين بالمسك بالأهميّة التاريخيّة لما توصّل اليه